تبتغي فلسفات التنوير إنعتاق الإنسان كعقل وإرادة, العقل من ظلمة الجهالة والإرادة من سطوة الكهانة ليصير الإنسان في مركز الكون مستحقا لخلافة الله عليه. غير أن العقل العام في الثقافة العربية غالبا ما يربط بين التنوير الغربي والالحاد الديني, استسلاما لتصورات اختزالية لا يود أصحابها أن يرهقوا أنفسهم في طلب الحقيقة, بل الحصول عليها جاهزة, مغلفة بورق البساطة الساذجة, مستندين, أحيانا, إلي رزاز فكري يصلهم من نخبة فكرية وقعت, هي الأخري, في قبضة تصورات بائدة عن التنوير تربطه فقط بالتقليد الفرنسي اليعقوبي في القرن الثامن عشر, والقائم علي ضدية العقل للإيمان, متجاهلة للتطورات التي وقعت لهذا التقليد نفسه ودفعته نحو التصالح مع الإيمان الروحي طالما خلا من الكهانة السياسية والدوجما العقلية. ومتجاهلة كذلك وجود تقاليد أخري متصالحة مع الدين من الأساس, خصوصا التقليد الألماني حيث تتصالح النزعة المثالية( الروحية) مع النزعة العقلية( النقدية). وكذلك التقليد الإنجليزي الذي بلغ تصالحه الحد الذي جعل من الملكة, رأس الدولة, رأسا للكنيسة الإنجليكانية. اليوم تعرض' فكر' لهذه التقاليد الثلاث, حيث يتوقف د. محمد عثمان الخشت أستاذ الفلسفة بآداب القاهرة عند التنوير الإنجليزي المؤكد لفاعلية العقل المعرفية والسياسية, ورفض الأحكام المسبقة, وخاصة منها المبنية علي سلطة دينية, والذي يؤرخ البعض لبدايته بظهور' عريضة الحقوق' في إنجلترا سنة1689 م. كما يتوقف د. ياسر قنصوة, أستاذ الفلسفة بجامعة طنطا, عند التقليد الفرنسي الذي اعتبر العقلانية طريقا واسعا للإيمان, حيث العقل الإنساني هو أعدل الأشياء قسمة بين البشر, ما يجعل من رسوخ دوره تأكيدا للمساواة ولديمقراطية الإيمان بين بني الإنسان. وأخيرا يتوقف كاتب هذه السطور عند التقليد الألماني, راصدا محطات ثلاث أساسية علي طريق تصالحة مع الإيمان المسيحي: أولاها مع لسنج في كتابه( تربية الضمير البشري) الذي حاول التوفيق بين الإيمان التوحيدي وبين مسار التطور العقلي للإنسان. وثانيها كانط في كتابه( نقد العقل النظري) الذي وضع حدودا لقدرة العقل( النسبية) علي إدراك الحقيقة الإلهية( المطلقة), جاعلا من تلك الحقيقة ملكة روحية تعلو علي العقل ولكنها لا تناقضه بالضرورة. وثالثتها ماكس فيبر في كتاب( الأخلاق البروتستانتية وروح الرأسمالية), الذي أعاد فيه اكتشاف المفهوم الكالفيني عن المؤمن المسيحي ك( زاهد نشيط), يسعي لتطوير الملكوت الأرضي بدلا من الانتظار الخجول للملكوت السماوي, وهي فكرة مؤسسة للروح الرأسمالية الجسورة, والروح الغربية الحديثة النازعة للسيطرة علي مصيرها, وعلي حركة التاريخ. فكر لمزيد من مقالات