طيلة أسبوعين مضيا احتدم سجال حول التنوير والعلمانية، بين تيارين أساسيين ينتمى أحدهما للأزهر كمؤسسة، وقد عبر عنه بعض شيوخها. أما الآخر فتجسد فى مؤسسات الثقافة المصرية الحديثة، وعبر عنه بعض رموزها. الفريق الأول يقبل بالتنوير ولكنه يقدم له قراءة خاصة، تتناقض مع رؤية الفريق الثاني، التنويرى على الطريقة الغربية. بينما يرفض مقولة العلمانية من الأساس. أما الفريق الثانى فيرفض موقف الأولين تماما، مطالبين إياهمب ضرورة التسليم بقيم التنوير والعلمانية، وهو مطلب مشروع فى تصورنا، شرط تمحيص المفاهيم، فأى تنوير مرغوب، وأى علمانية مقبولة؟ وفى الحقيقة يعد هذا الحوار تتمة لسجال دار قبل ثلاثة أشهر حول فيلم (سفينة نوح)، وقضية تجسيد الأنبياء، ولكن من دون أن يكتمل، مثل كل حواراتنا المعاصرة التى يغلب عليها الرغبة فى إثبات الذات، والثأر من الخصوم! أكثر من الرغبة فى الفهم والتفهم، وصولا إلى موقف (جدلي) أكثر اعتدالا وتقدما عما سبق، وهو ما يتطلب فى اعتقادنا تحرير مفاهيم أساسية كالتنوير والعلمانية والعقلانية، يسود الخلط بين تصورين أساسيين لها: التصور الأول يتمثل فى التنوير المثالى (الروحي) الذى كان العظيم كانط قد عبر عنه فى (نقد العقل المحض)، وذهب فيه إلى احترام فكرة الغيب باعتبارها مكونا أساسيا فى مفهوم الإيمان، نافيا حاجة العقل إلى انتهاكها كى يثبت عقلانيته لأن العقل الإنسانى له مجاله الذى يعمل فيه، كما أن للدين مجاله. وكما أن تغول الدين (كإيمان روحي) على دنيا الناس إنما هو تدخل فى غير محله يهدر العقلانية ويصادر الحرية، فقد رأى أن طغيان العقل على عالم الروح أمر يثقل كاهل المعرفة، وينتهك حرمة المقدس. وهنا قدم كانط تفسيرا بلاغيا لمعجزات العهد الجديد، فلم يعتبرها مجرد خرافات تدفعه إلى رفض الإيمان الديني، بل مجازات تسعى إلى تبليغ العقل العام بالمنطق المجرد لهذا الإيمان. هذا التيار يؤسس لعلمانية معتدلة (سياسية)، تتوقف عند حدود الفصل بين الدين والسياسة فى المجال العام، ليبقى الشأن السياسى رهنا لعقد اجتماعى (إنساني) بين الشعوب وحكامها، خلوا من مقولات الحق الإلهى التى أربكت التاريخ وكرست الاستبداد الديني. أما التصور الثانى فيتمثل فى التنوير المادي، الذى نهض على إدراك أصم للعقل، ورؤية ميكانيكية للطبيعة وتفسير دهرى للوجود، يرى فى كل عنصر مثالى أو تفسير إيمانى مجرد ثغرات ينفذ منها (اللا عقل)، كى يفسد تصورنا الموضوعى عن العالم، وهنا يمكن إدراج جل الفلسفات الوضعية، والنزعات الحتمية، ومذاهب الدين الطبيعي. هذا التيار يؤسس لعلمانية متطرفة (وجودية) لا تكتفى بدفع الدين إلى حيز الوجود الفردى بعيدا عن المجال العام، بل تسعي، دون تصريح بذلك، إلى تصفيته ونفيه سواء من الوجدان الفردي، والبناء الاجتماعي، بحرمانه من دوره فى رفد نظم القيم السائدة، وهو الذى مارس نقدا جذريا للكتاب المقدس، أخضعه، بالمطلق، للمعايير المادية والقراءة التاريخية، فلم يعتد بأية بلاغيات خاصة فى تفسيره، على نحو انتهى بإثبات تناقضه مع العلم، ومجافاته لوقائع التاريخ،، وهو ما أثار موجات إلحاد متوالية فى المجتمعات الأوروبية. وهكذا نجد أنفسنا بين تصورين مختلفين للتنوير والعلمانية والعقلانية، لا يمكن نسبة أحدهما للثقافة الغربية الحديثة، والآخر للثقافة العربية الإسلامية، بل يمكن ملاحظة كليهما على الجانبين: فإذا كان التنوير المادى يتمدد غربيا فى حتمية فيورباخ ماركس وفرويد وصولا إلى عدمية نيتشه الذى أعلن موت الله. فإننا يمكن أن نمدده عربيا ليشمل رواد التيار العلموى أمثال سلامة موسى وشبلى شميل وفرح أنطون واسماعيل مظهر، الذى عملوا كشراح لرواد المادية الغربية داخل الثقافة العربية الحديثة. وإذا كان التنوير الروحى قد تأسس فى الفكر الغربى على ارتقائية ليسنج، ونقدية كانط، ومثالية هيجل، ورأسمالية ماكس فيبر الطهرانية، فمن الممكن أن نجذره عربيا فى اختراقات محمد عبده المنهجية حول أولوية العقل على النص، وفى كتاب الشيخ على عبد الرازق التأسيسى (الإسلام وأصول الحكم)، دفاعا عن العلمانية السياسية، مرورا بجل أعمال مفكرينا الكبار كطه حسين والعقاد على سبيل المثال. ولحسن الحظ فإن التيار الروحى فى التنوير صار الأكثر أساسية فى الفكر الغربى منذ منتصف القرن العشرين، بعد زوال الحمى الوضعية بشتى نزعاتها المادية، وبروز تيارات فلسفية أكثر روحانية داخل الوجودية منذ كيركيجارد، بل وبروز أعلام كبار اعتبروا بمثابة علامات على التوافق العميق بين اللاهوت المسيحى والفلسفة الوجودية من قبيل نيقولا بيرديائيف فى الأرثوذكسية، وجاك ماريتان فى الكاثوليكية، وباول ت يليش فى البروتستانتية. وفى موازاة ذلك يمكن الادعاء بأن التنوير الروحى الذى مثله الطهطاوى والأفغانى ومحمد عبده وعلى عبد الرازق من ناحية، كان دائما هو الأكثر أساسية فى الفكر العربى الحديث، قياسا إلى التيار المادي، ممثلا سلامة موسى وشبلى شميل وفرح أنطون واسماعيل مظهر، الذى كان دائما هامشيا، ومن ثم لا يمكن اعتباره المتن الأساسى فى التنوير العربي، ناهيك عن أن يكون الوحيد. ومن ثم فإن محاولة دفع الأزهر اليوم لقبول منطق التيار المادي، الذى يعكس روحا اقتحامية للمقدس تفضى إلى تجسيد الأنبياء، بل وتقع دوما فى غواية نقدهم، وأحيانا فى فخ الإساءة إليهم كما جرى مع السيد المسيح فى عشرات الأعمال، وهى الظاهرة التى يندرج فيلم نوح فى سياقها، والتى فجرت هذا السجال الأخير، إنما تمثل محاولة غير بناءة على أى وجه، ولن يكون لها أثر، سوى النيل من مرجعية الأزهر نفسه فى عالم الإسلام الواسع. وفى المقابل فإن رفض الأزهريين المطلق لمفهوم العلمانية، يبقى أمرا غير مفهوم، طالما كان المقصود هو العلمانية السياسية لا الوجودية. ولذا ربما تعين على التنويريين اعتماد قيم التيار الروحي، الذى يقبل بالغيب ولا يتحرش بالمقدس، حيث لا طائل عملى من تجسيد الأنبياء، كما يتعين على الأزهريين القبول بالعلمانية السياسية، قبولا صريحا قاطعا لا يترك فرصة لأى التباس لدى عموم الناس، كى نتقدم بالحوار خطوة إلى الأمام، تأسيسا لكتلة وطنية حديثة قادرة على تجاوز أنصار التطرف والخرافة، الذين لا يقبلون تنويرا روحيا أو ماديا، ولا يقبلون بالعلمانية سياسية كانت أم وجودية. لمزيد من مقالات صلاح سالم