صدر حديثا عن الهيئة المصرية العامة للكتاب كتاب "علمنة المشروع القومي في المشرق العربي 1920-1970 " للباحث اللبناني د.محمد شيا، والكتاب في مجمله يحاول تأصيل العلمانية كما ظهرت أولا في أوروبا، ثم انتقالها إلي بلاد المشرق العربي .فلقد ظهرت ملامح للنهضة العربية ابتداء من عصر محمد علي وبدأت ملامحها فيما يلي : 1- محاولات للإصلاح الديني ظهرت في تجديد فقهي وديني، وكانت أبرز ملامحها في فكر الشيخ جمال الدين الأفغاني والإمام محمد عبده 2- نزوع للاستقلال عن تركيا، وظهرت ملامحها في ثورة علي بك الكبير ومحاولة الاستقلال بحكم مصر عام 1769 ثم تجربة محمد علي في مطلع القرن التاسع عشر والشريف حسين في الحجاز عام 1916 .... إلخ . 3- مظاهر التحديث في الوعي العربي المعرفي نتيجة انتشار المدارس والمعاهد والجمعيات العلمية وحركات التأليف والترجمة . 4- مظاهر الحرية النسبية التي اتيحت أمام بعض المجتمعات الشرقية والتي أسفرت عن صحافة حرة وأحزاب سياسية متنافسة. أما العوامل التي أدت إلي ظهور العلمنة في أوروبا فهي : 1- إعادة الاعتبار للأرض : فلقد أهملت مسيحية العصور الوسطي الاهتمام بالأرض، فلقد اعتبرت الأرض شرا وفسادا ماديا ومجرد ممر نصل به إلي السماء، وبالتالي حصرت كل تقدم أو انجاز في عالم الروح فقط، فجاءت اكتشافات ماجلان وكولمبوس في نهاية القرن الخامس بمثابة تسليط الضوء علي الأرض باعتبارها قيمة في حد ذاتها . 2- صعود العلم : التي جاءت مع اكتشافات جاليليلو (1564-1642) وليونادردو دافنشي (1561-1626) ونيوتن (1643-1727) والتي جاءت نتيجة وضع قوانين المنهج التجريبي علي يد الفيلسوف الانجليزي فرنسيس بيكون . 3- صعود الفرد والفردانية : فالفرد الذي صادرته الكنيسة في العصور الوسطي لم يعترف به إلا مع بداية القرن السادس عشر مع ظهور أفكار ديكارت ولوك وروسو، فلقد شعر هذا الفرد بأنه هو الإله الجديد الأكثر حضورا، فلقد شعر هذا الفرد أنه ينتمي إلي طبقة متميزة من طبقات المجتمع، كما شعر أنه مخلوق سام علي صورة الله ومثاله . 4- إعادة الاعتبار للعقل وسلطانه كأداة للمعرفة، وذلك بدلا من الخضوع لسلطان الكنيسة وتفسيراتها، ولقد بلغ العقل قمة سلطانه علي يد الفيلسوف الفرنسي رينيه ديكارت، فهو صاحب المقولة الشهيرة "العقل هو أعدل الأشياء قسمة بين الناس " وهكذا اندفعت أوروبا في سياق العقلانية الجديدة التي ظهرت في تلك الفترة . ولقد تزامن مع صعود العلمانية أيضا ظهور فكرة الدولة القومية، والتي ظهرت واضحة في الدولة الالمانية والدولة الإيطالية، والدولة القومية هي بطبيعتها دولة علمانية ولا يمكن أن تكون خلاف ذلك، وكما قال الفيلسوف الالماني هيجل "الدولة هي التي تنجز المثال الأخلاقي وليس الدين " وبالتالي لم يعد للدين اليد الطولي في تحويل القيم الأخلاقية إلي سلوك عملي .ربما كان له دور مهم ولكن ثانوي قياسا بدور الدولة . أما عن نشأة العلمانية في مصر، اتفق المؤرخون علي اعتبار الحملة الفرنسية علي مصر (1798-1801 ) بمثابة الشرارة الأولي التي قادت مصر والمنطقة العربية كلها إلي سلسلة من التحولات، فلقد ضمت الحملة مجموعة من العلماء الذين درسوا المجتمع المصري دراسة علمية مقننة وصدر عنها الموسوعة الشهيرة "وصف مصر "، كذلك وزع نابليون منشورا علي المصريين؛ تضمن جملة انه صادر عن الحكومة الفرنسية المبنية علي أسس "الحرية، المساواة، الإخاء " ولقد وجدت هذه الأفكار طريقها بسرعة إلي إجراءات محمد علي التحديثية بدءا من عام 1805، فلقد سعي إلي بناء دولة قومية قوية مع تحديث مؤسساتها، كذلك أرسل البعثات التعليمية إلي أوروبا، وكانت من أشهر هذه البعثات هي البعثة التي سافر فيها الشيخ رفاعة الطهطاوي (1801-1873 ) إلي فرنسا، فلقد قضي الطهطاوي فيها خمس سنوات (1826- 1831) أتقن فيها اللغة الفرنسية، وقرأ فيها الكثير من أفكار عصر التنوير الفرنسي، وهو ما انطوي عليه أفكار كتابه "تخليص الأبريز في تلخيص باريس " فقد وجد فيهم الكثير مما يستحق الثناء كالنظافة الاوروبية وتربية الأولاد بعناية وحب العمل ونبذ الكسل وحب المعرفة، كما وجد أن من طباعهم حب التغيير والتبديل في سائر الأمور الخارجية، كما نقل الطهطاوي تجربة التشريع الفرنسي بما تضمنه من تقسيم السلطات وتحديد لسلطة الحاكم الذي يجب أن يكون هدفه "المصلحة العامة " وحسن الرقابة علي الإدارة وفي تعيين حق المواطن وواجباته، كما وقف الطهطاوي موقفا غير تقليدي في النظر إلي الاجتهاد والتقليد فخرج بذلك عن مقولة "إقفال باب الاجتهاد، كما حمل الطهطاوي مجموعة أخري ليبرالية في المسائل الاقتصادية والاجتماعية منها مبدأ الحرية الاقتصادية ومبدأ التنافس والمساواة بين الرجل والمرأة ... الخ . عامل آخر ساهم في ظهور العلمانية في مصر، هو مجيء عدد من الشوام علي مصر وتأسيس - مع زملائهم المصريين- مجموعة من الدوريات الثقافية والسياسية، نذكر منهم بطرس البستاني في جريدة "الجنان" (1870-1886 ) ثم جورجي زيدان في مجلة "الهلال " (1892 - حتي الآن ) وفرح أنطون في مجلة الجامعة . كذلك ساعد علي ظهور العلمانية ازدياد الشعور القومي العربي داخل الدولة العثمانية، وهو ما ساهم في ظهور التيار القومي العربي بعد ذلك . أما العامل الثاني الذي ساعد علي ظهور العلمانية؛ فهو ظهور تغييرات مهمة في المجتمع المصري من خلال ربطه بتغييرات مهمة تمثلت في الحياة النيابية والحكومات المنتخبة وتقسيم السلطات وحرية الصحافة والحد من سلطات رجال الدين والأخذ بتقاليد الحياة الغربية، ولقد بعث هذا المناخ بمجموعة من القيم المهمة نذكر منها الحرية والعدل والمساواة والسوق التنافسية والعلم وسلطان العقل . ولقد قدم المؤلف فكر ثلاثة ممثلين للاتجاه العلماني هم "شبلي شميل ( 1850- 1917 ) وفرح أنطون وسلامة موسي ( 1888-1958 ) فلقد رأي شميل أن العلوم القديمة الغيبية والكلامية هي التي أورثت الشرق ما هو عليه من تأخر وتخلف فيقول "إذا قابلنا بين الشرق والغرب نري اليوم بونا عظيما بينهما من جهة التقدم في الصنائع وسائر أسباب الثروة " ويقول أيضا عن إيمانه الديني " أنا لست متعصبا ضد الأديان بمعني الكلمة، ولكني متعصب جدا لقول الحقيقة وما أعتقده كذلك وحتي اليوم لم يمنعني عن القول محذور ولا مصلحة، فإذا شددت النكير علي الأديان فليس قصدي أن أحرج أحدا في إيمانه، ولولا ما أشاهده كل يوم في معاملاتنا من الشرور المستعصية المبتلي بها المجتمع بسبب هذه الحاسة ولا سيما في وطننا " كما طالب شميل بقصر التعليم الديني داخل نطاق المعاهد الدينية فقط وخارج نطاق الحكومة ودعمها فيقول "المعاهد الدينية لا يجوز للحكومات الراشدة فيها مطلقا لا لنصرها ولا لخذلها، بل هي من حقوق الجماعات .... فالدين يجب أن يعلم في معاهده الخاصة فقط، والحكومات لا يجوز أن يكون لها دين طالما هي تحكم أقواما من معتقدات مختلفة يطلب منها أن تجمعهم في مصالح اجتماعية واحدة مشتركة وإلا كانت هي العاملة في الدمار " اما فرح أنطون، فلقد رأي ضرورة الفصل بين السلطة الزمنية والسلطة الدينية، وفي رأي فرح أنطون فإن الداعي لفصل السلطة المدنية عن السلطة الدينية خمسة أمور كبري، أولها أن غايات السلطتين تختلف .... وثانيها أن المجتمع الصالح يقوم علي المساواة المطلقة بين جميع أبناء الأمة تتعدي الفروق في الأديان، وثالثها أن السلطات الدينية تشترع للآخرة لذلك كان من شأن سلطتها أن تتعارض وغاية الحكومة التي تشترع لهذا العالم ... ورابعها أن الدول التي يسيطر عليها الدين ضعيفة والجمع بين السياسة والدين يضعف حتي الدين نفسه .... وخامسها أن الحكومات االدينية تؤدي إلي الحرب، فمع أن الدين الحق واحد فالمصالح الدينية تتعارض أبدا مع بعضها البعض " ويختتم انطون هذه الفقرة بهذه العبارة البالغة الأهمية "فلا مدنية حقيقية ولا تساهل ولا عدل ولا مساواة ولا أمن ولا ألفة ولا حرية ولا علم ولا فلسفة، ولا تقدم في الداخل إلا بفصل السلطة المدنية عن السلطة الدينية". أما سلامة موسي، فلقد كان له دور كبير في تقديم الفكر الاشتراكي، حيث سافر إلي فرنسا وانجلترا ما بين عامي 1907-1909، فتعرف علي رواد الاشتراكية الفابية، كما دعا سلامة موسي إلي مجتمع العلم والصناعة فلقد قال في قاعة جامعة القاهرة وأمام مؤتمر للشباب "هبطت علي منذ أكثر من ربع قرن حقيقة مفردة وهي أن الفرق بيننا وبين الأوربيين المتمدينين هو الصناعة، وليس شيئا غير الصناعة .وللعلم فإن سلامة موسي هو أول من دعا - مع آخرين - إلي إنشاء أول حزب اشتراكي عربي وكان ذلك عام 1920 . وتتوالي فصول الكتاب حتي نصل إلي عام 1952 حيث اندلعت ثورة يوليو، وتميزت هذه الثورة بغلبة الفكر العلماني عليها، ويظهر هذا واضحا في المبادئ الستة للثورة، ولقد تميزت ثورة يوليو بسمتين أساسيتين، السمة الأولي هي جماهيرية الثورة، فلقد أكدت الثورة في بيانها الأول أنها تخاطب مصر كلها، أما السمة الثانية فهي عروبتها، فهي امتداد للتيار القومي العربي الذي ظهر في نهاية القرن التاسع، وامتدت جذوره عند عبد الرحمن عزام ومكرم عبيد وزكي مبارك . كما أكد عبد الناصر علي علمانية الدولة وذلك في الخطاب الذي وجهه في وضع حجر الأساس للكاتدرائية المرقسية في يوم 22 يوليو 1965 حيث قال " الدولة لا تنظر إلي الدين والمجتمع لا ينظر إلي الدين .... ولكن ينظر إلي العمل وإلي الجهد و إلي الإنتاج وإلي الأخلاق، وبهذا نبني فعلا المجتمع الذي نادت به الأديان السماوية التي نص الميثاق علي احترامها " وقال ايضا "هذا هو مفهوم الثورة للديانة .... بالمحبة والإخاء، بالمساواة وبتكافؤ الفرص نستطيع أن نخلق الوطن القوي الذي لا يعرف للطائفية معني ولا يحس بالطائفية أبدا، بل يحس بالوطنية ... الوطنية التي يشعر بها الجندي في ميدان القتال " . التيار الثاني الذي يدرسه المؤلف هو حزب البعث العربي الاشتراكي، وهو حزب قامت مبادئه علي أن الوطن العربي للعرب، وأن الأمة العربية وحدة ثقافية واحدة . كما جاء في برنامجه التأسيسي "لقد حرص الحزب علي أن يتميز عن الأحزاب التقليدية التي كانت قائمة في مرحلة الأربعينات، فأراد أن تكون عقيدته علمية ثورية وعلمانية عصرية "