بينما ادَّعت إثيوبيا مرارًا رغبتها في التوصل إلى اتفاق عادل ومنصف مع مصر والسودان حول سد النهضة ، ووافقت على اقتراح سودانى باستئناف المفاوضات لحل الخلافات القليلة المتبقية حول ملء بحيرته وتشغيله فاجأتنا بعد ثلاثة أشهر من قيامها بتعطيل التوقيع على اتفاق واشنطن بورقة عمل من 13 بندًا تطالب فيها بالموافقة على البدء في عملية الملء في الوقت الذي تجرى فيه المفاوضات وبإعادة التفاوض على بنود سبق حسمها من قبل. وهذا يعني إما أنها غير جادة في السعي لإبرام اتفاق وتريد استهلاك الوقت كعادتها حتى يأتي موسم هطول الأمطار في يوليو المقبل؛ لتبدأ ملء البحيرة وتضع القاهرةوالخرطوم أمام الأمر الواقع، أو أنها - في أحسن الأحوال - ترغب في حل النزاع ولكن وفقًا لرؤيتها هي ومصلحتها فقط، فهى تريد إقامة سدود أخرى لإنتاج الكهرباء على النيل الأزرق وليس سد النهضة فقط، وألَّا تلتزم بأي قيود تلزمها بمراعاة مصالح دولتي المصب والممر؛ سواء في ملء بحيرة السد أو تشغيله خلال فترات الفيضان العادية وسنوات الجفاف والجفاف الممتد، أو في مشروعات الكهرباء أو الري التي تعتزم إقامتها مستقبلًا. لقد رفضت من قبل الالتزام بالمعاهدات والاتفاقيات التي تم توقيعها خلال الفترة الاستعمارية خاصةً معاهدتي 1902 و1929، ولم تلتزم بما ورد في اتفاقية إعلان المبادئ الموقعة في الخرطوم وتنص على عدم البدء في ملء بحيرة السد إلَّا بموافقة مصر والسودان وعلى اللجوء إلى طرف ثالث (أي الوساطة) إذا فشل التشاور والتفاوض في التوصل إلى اتفاق شامل وعادل ومتوازن يحقق مصالح الدول الثلاث. فهي إذا لم يتحقق لها اتفاق مفصَّل على مزاجها ورغباتها فإنها تعمل على استهلاك الوقت في مفاوضات عبثية، ثم تتهم مصر بأن مطالبها هي التي حالت دون التوصل لاتفاق، وتتذرع بذلك للشروع في ملء البحيرة بدون اتفاق. لذلك طالبت القاهرة منذ اليوم الأول لاستئناف الاجتماعات في التاسع من يونيو الحالي بوضع سقف زمني للتفاوض حتى لا يكون أداةً للمماطلة أو الهروب من الالتزامات الواردة ب اتفاقية إعلان المبادئ لعام 2015 التي تنص على عدم البدء في ملء بحيرة السد إلَّا بعد الاتفاق مع مصر والسودان، وأكد بيان لمجلس الأمن القومي عقب اجتماع برئاسة الرئيس السيسي أن القاهرة وافقت على استئناف التفاوض برغم مرور ثلاثة أسابيع على توجيه الدعوة إليها لكي تثبت حُسن نيتها وتستكشف مدى توافر الإرادة السياسية (لدى الآخر) للتوصل إلى اتفاق. فقد تهربت إثيوبيا من الحل الوسط الذي صاغته وزارة الخزانة الأمريكية بالمشاركة مع البنك الدولي لنقاط الخلاف القليلة المتبقية (10% من إجمالي بنود اتفاق واشنطن) برغم أنه صيغ بناءً على نتائج مناقشات وفود الدول الثلاث والرؤى التي طرحوها للحل وقاطعت اجتماع التوقيع في نهاية فبراير؛ مما أثار استياء الإدارة الأمريكية ودفعها لتحذيرها من البدء في ملء البحيرة قبل إبرام اتفاق. وها هي بعد نحو ثلاثة أشهر توافق على اقتراح سوداني باستئناف المفاوضات على المستوى الفني، ولكن بحضور مراقبين من الاتحادين الأوروبي والإفريقي مع مراقب أمريكي واستبعاد البنك الدولي ، وتصر على أن يكون دور المراقبين مراقبة المفاوضات فقط، وعدم التدخل إلَّا إذا طُلب منهم ذلك، بينما طالبت مصر بأن يكون لهم دور تسهيلي للمساعدة في تذليل العقبات واقتراح الحلول، وأصبحت هذه نقطة خلاف رئيسية. كما طلبت إثيوبيا البدء في ملء البحيرة مع استمرار المفاوضات أي قبل التوصل لاتفاق نهائي، بينما رفضته مصر والسودان معًا ومن قبله اقتراحًا بإبرام اتفاق جزئي للملء لأول مرة، وطالبت القاهرة بألَّأ تزيد مدة المفاوضات على 30 يومًا كحد أقصى. وبينما تمسكت إثيوبيا بفتح النقاش حول القضايا المطروحة وفقًا لمرجعية وثيقة اجتماع الخبراء الفنيين والقانونيين يومي 12و13 فبراير تمسكت مصر بوثيقة 21 فبراير التي تعد مسودة الاتفاق النهائي الذي صاغته واشنطن و البنك الدولي ووقعت عليه بالأحرف الأولى كمرجعية أساسية للمباحثات، كما طالبت بالامتناع عن أي إجراء منفرد ل ملء بحيرة السد قبل إبرام الاتفاق النهائي وأيدها السودان في ذلك. الموقف الإثيوبي لا يبشر بخير إذا لم يتم تعديله، ويحتاج الأمر إلى وقفة مصرية - سودانية مشتركة أكثر حزمًا لتتخلى أديس أبابا عن تعنتها وتتجاوب مع المرونة الكبيرة التي أبدتها القاهرة ومع جهود السودان لتقريب وجهات النظر والتوصل إلى حل، كما يحتاج الأمر إلى موقف مماثل من الولاياتالمتحدة التي استضافت ورعت مفاوضات واشنطن ومن الاتحادين الأوروبي والإفريقي اللذين يشاركان كمراقبين في المفاوضات ومن دولة مثل الصين لها استثمارات كبيرة في إثيوبيا، فكلهم أطراف يهمهم جميعًا استقرار السلام والأمن وتحقيق التنمية في المنطقة.