الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، توقفت كثيرًا منذ مقالي الأخير عن التعليم والذي يعتبر الجزء الأول من هذا المقال، ومر وقت طويل دون الوفاء بسرعة كتابة الجزء الثاني من المقال ، ولعل من أهم أسباب ذلك كثرة التعليقات والرسائل التي جاءتني بعد المقال الأول ، وجلها يدور في فلك البكاء على حال التعليم في مصر مع اختلاف الآراء بمن المتسبب وإن كان الغالب يلقي باللوم على الحكومة ثم غياب دور المعلم القدوة. وأسرد في السطور القليلة القادمة بعضًا من التعليقات والمقترحات التي جاءت ، وغالبها يشير إلى حال المعلم الذي آل إليه مقارنةً بغيره وتعليقات في وادٍ آخر يندي لها الجبين خزيًا مما آل إليه الحال . بدايةً أرى كالكثيرين بأن المعلم عصب ومحور هام جدًا في العملية التعليمية، فإذا صلح حال المعلم صلح حال التعليم بنسبة كبيرة، وقرين هذا بالفعل في دول صاحبة مراكز متقدمة في التعليم ، تلك الدول أولت المعلم اهتمامًا كبيرًا وجعلته في أعلى المراتب ماديًا ومعنويًا .. وقد أظهر بحث أجرته منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية الدول التي تدفع لمدرسيها أعلى رواتب على مستوى العالم، بناءً على خبراتهم في التعليم ما قبل الجامعي في العامين 2015 و 2017 : آثرت ألا أسجل الرواتب التي يتحصل عليها المعلمون في هذه البلدان حتى لا يُصاب المعلم في مصر بالإحباط !! وعلى الرغم من الفارق الكبير بل قل اللاعادل في المقارنة مع معلمي مصر ، لكن يظل المعلم هو المعلم أيًا كان راتبه ، مسؤول عن القيام بدوره الذي يقف به أمام الله ، فهو ليس بائعًا يعطي السلعة مقابل المال المدفوع ؛ بل هو يحمل أمانة وشرف مهنة من أسمى وأشرف المهن على الإطلاق ؛ لذا فلازلنا في انتظار قيام الحكومة بدورها في الارتقاء بحال المعلم الذي لا يقل أهميةً عن نظيره في دول تعتبره الأكثر أهميةً أو حتى داخليًا حتى يشعر بقيمته الحقيقية في المجتمع والتي لا تقل عن الفئات أصحاب الدخول العالية حكوميًا في مصر. النظام التعليمي ووضوح الهدف في تقرير مؤشر بيرسون للتعليم والمهارات المعرفية والتحصيل التعليمي العالمي، وهو الذي بدوره اعتمد تحديد أفضلية الدول بناءً على عدة اختبارات دولية منها: – اختبار مدى التقدم في القراءة والكتابة الدولي (بيرلز). – اختبار الاتجاهات الدولية في الرياضيات والعلوم (تيمس). – اختبارات برنامج التقويم الدولي للطلبة (بيزا). وقد جاء ترتيب الدول العشر الأوائل على النحو التالي: كوريا الجنوبية أولاً، اليابان في المركز الثاني، تلتها سنغافورة في المركز الثالث، وهونغ كونغ في المركز الرابع، أما فنلندا فقد تراجعت إلى المركز الخامس بعد أن كانت متقدمة في الأعوام السابقة، وجاءت في المركز السادس المملكة المتحدة، ثم كندا في المركز السابع، ثم هولندا في المركز الثامن، ومن بعدها إيرلندا التي تبوّأت المركز التاسع، وفي المركز العاشر جاءت بولندا. نظرة سريعة تجد فيها بوضوح تقدم أربع دول من شرق آسيا ويعود السبب في ذلك إلى المواءمة بين وضوح الأهداف والنظام الدراسي، فضلاً عن الاختبارات التي تقيس بوضوح قدرة الطلبة على فهم المناهج الدراسية وتطبيقها . وفي تقارير أخرى وبمعايير مختلفة كان الترتيب كالتالي : فنلندا – سويسرا – بلجيكا – سنغافورة – هولندا – قطر – إيرلندا – إستونيا – نيوزيلندا – بربادوس – اليابان . أعتقد أننا إذا أردنا أن نصل إلى مراتب هذه الدول في التعليم ، فيجب علينا قياس التجربة على مجتمعاتنا ، والخروج من نفق التنظير إلى الواقع الحقيقي الذي نعيش ؛ فكوريا على سبيل المثال نهضت تعليميًا بعد حروب طاحنة وأزمات قاتلة واحتلال دامي ، وسنغافورة كانت تعاني من حالة التناحر والتنافر بين المكونات والجماعات العرقية في ظل الاستعمار وبعده. وبعد الاستقلال عن ماليزيا في عام 1965 أدرك رئيس الوزراء السنغافوري (لي كوان يو) أن التعليم هو السبيل الوحيد الذي يمكن أن يقضي على مشكلات المجتمع السنغافوري؛ وبالفعل شرع ببناء نظام تعليمي يتسم بالجدارة وقد شكل الأنموذج اللازم لتحقيق السياسة الاقتصادية التي وصلت إليها سنغافورة اليوم. ويمتاز النظام التعليمي السنغافوري بالمعلمين والمديرين ذوي الكفاءات العالية، والقادة الأقوياء الذين يتمتعون بالقدرة على صياغة رؤى بعيدة المدى. لذا فالواجب على أصحاب الرؤى الظلامية والأفكار الهدامة والرسائل السلبية أن يتنحوا جانبًا وها هي النماذج أمامنا بدأت من اللاشيء ومن نقطة الصفر. فمتى تبدأ مصر خطة إصلاح منظومة التعليم كاملاً كخطة دولة وليست خطة وزير ؟ إشكاليتنا أننا ننتظر مع كل وزير تغيير يأتي به ، وغالبهم يركز على الثانوية العامة ، وبرحيل الوزير ، يُسدل الستار ويأتي آخر بتجربة أخرى وكأننا حقل تجارب !! صور من المآسي في مصر : مما وردني وألح علي البعض في ضرورة ذكره ، أن ما يُسمى تجاوزًا ( مجموعات التقوية ) هي أحد أبواب جباية الأموال من ولي الأمر دون وجه حق وبلا فائدة حقيقية تُذكر ، والغريب أن المعلم يُجبِر فيها الطالب على الحضور حتى ولو كان متميزًا ، وذلك على غير مسماها الحقيقي ( مجموعة تقوية ) المفترض أنها للضعيف أو المتأخر دراسيًا ، لكن الواقع يقول أن الفصل لابد أن يكون مكتمل العدد في المجموعة بعد المدرسة تمامًا كما هم في الفصل وإلا ...!!! ضع مكان النقط ما تشاء وما تتوقع وما لا تتوقع ، والأغرب أنك إذا أردت الشكوى فلا باب لشكواك إلا الله ؛ لأنه -وبحسب كلام المعلمين- أن الكل له من القسمة نصيب بداية من المعلم مرورًا بمدير المدرسة وصولاً لمدير الإدارة وقد يكون أعلى من ذلك ؛ لذا فلا مجيب لشكواك المتعلقة بالدروس الخصوصية تحت مسماها المدرسي ( مجموعات التقوية الإجبارية ) ، وقد عانيت بنفسي وأولادي في هذا الأمر ، لكنه أوسع مني بكثير فهناك من معاناتهم أضعاف أضعاف ما واجهت ولله الأمر من قبل ومن بعد . وقبل أن أختم لا يجب أن نغفل أن المنشآت التعليمية لها مكانها ودورها الفعال في نجاح العملية التعليمية ، فبيئة التعلم كل متكامل يجب أن تُهيأ بشكل متكامل حتى يستطيع الطالب أن يحصل ما نريده أن يرتقي فيه ، ما يطمح هو لتحقيقه وليس كما يوجد الآن من مهازل مثل عدم وجود عمال في المدارس ، فيقوم مدير المدرسة بطلب عمال يأتون إليه بدون أجر رسمي وإنما يُجمع لهم من أولياء الأمور أو المعلمين أو بأي طريقة وأحيانًا بدون أجر ، كل هذا على أمل أن يصدر لهم لاحقًا قرار حكومي بالتعيين قبل الممات !!! وإنا لله وإنا إليه راجعون . وأخيرًا لازلت عند اعتقادي بأن المجني عليه الأول والرئيس في العملية التعليمية بصورتها الحالية هو الطالب ، حيث لا تحصيل مدرسي حقيقي ، ولا بناء ثقافي موجود ، ولا تشكيل هوية واضح ، ولا قدوة صالحة أمامه .. إلا من رحم ربي وعصم وقليل ما هم . هذا الباب لا تكفيه أحبار الدنيا ولو كانت مثل زبد البحر وإنما نحتاج إلى الدراسات الميدانية الحقيقة والنزول لأرض الواقع والتعامل عليها وليس نقل التجارب بالكلية دون النظر إلى واقعنا الذي نحن عليه فما هكذا تورد الإبل !ّ .