عدة أسئلة طرحتها قبل السفر لأول مرة إلى إسطنبول أكبر مدينة فى تركيا وأهمها سياحيا وتجاريا، ما الذى أخرنى طوال السنوات الماضية عن الرحيل إلى الباب العالى بأثر رجعى؟ وما الذى جعل الليرة التركية تتضاعف أمام الجنيه المصرى؟ وما الفارق السياحى والتجارى و الصناعى الذى أدى إلى تلك النتيجة.. صاحبة الفجوة الرهيبة التى حدثت بيننا وبينهم؟ هل هو الحكم الإخوانى؟ أم صراعهم لبلوغ مرتبة الشرف للالتحاق بجنة الغرب الأوروبى؟ أم ماذا؟ وجاءتنى الإجابة بأنها... ماذا؟! سياحة* سياحة، واقتصاد قائم نائم على السياحة، والسياحة قائمة على التجارة، والتجارة شطارة وحركة بيع وشراء لا تنقطع، سوق مفتوح على الآخر كما يقولون، على «البهللى»، والشطارة فى التجارة قائمة على الصناعة، ومن الإبرة للصاروخ، وإن كانت الإبرة والخيط وفن التصميم والأزياء واللعب بالألوان والتطريزات هى محور الحدوتة التجارية، فإن أسطورة الباشاوات والبكوات وقصور الأستانة والباب العالى هى الآثار. جولة البيع والشراء والفصال وأبو قرش على أبو قرشين، حالة عشتها فى إسطنبولالمدينة الكبرى على شاطئ البوسفور، كانت الزيارة الأولى لى وبحثت عنهم ولم أجد إلا أجناسا اختلطت مع غزو الحدود من حول الأراضى التركية بين الأكراد والأرمن والسورى والأوروبى والآسيوى، كله خالع رأسه، إلا قلة قليلة من أصحاب «البلاطى» التركية والإيشاربات الحريرية من مصانعهم القابعة فوق الجبل. الشوارع والميادين والمحاور وتقاطع الحوارى مع الأزقة حاجة «فلة»، وكأن النظافة والنظام والأناقة فرض لابد من إقامته. قارنت بين جالية الأتراك المنتشرة فى ميونخ فى ألمانيا أثناء زيارتى . الكل هناك يلتزم بالحجاب، عكس النساء فى إسطنبول التى تظن للحظات أنهن نساء أوروبيات شكلا وموضوعا! ولأن الرحلة كانت بطلتها عروسا مصرية تبحث عن لوازم العرس بعيدا عن أسعار فساتين الأفراح الهيستيرية فى مصر.. قسمنا أنفسنا صديقات أم العروس بين شارع محمد الفاتح أو فتيح بك، كما أخذنا ندلله، وشارع عثمان بك وشارع الاستقلال بميدان تقسيم «تاكسيم»، الذى يشبه شارع الشانزليزيه الفرنسى. تفوق الأتراك فى صناعة فساتين الأفراح، وطريقة تقليد موديلات كبار مصممى الأزياء الفرنسيين واللبنانيين والمصريين بتطريزات وقصات وحركات حدوتة كبيرة وأسعارها الزهيدة حدوتة أكبر، رغم أن الليرة التركية ثلاثة أضعاف اللحلوح المصرى، لكن يبقى السعر أقل بكثير من جنون الأسعار لدينا، ويظل سر هذا التفوق فى السعر كامنا ربما لمهارة وكثر العمالة المدربة فى هذا المجال الأزيائى. رخص الأسعار كان الإقبال على شراء فساتين الأفراح من المواطن العادى وكل برغوت على قد دمه، وكل فستان على قد جيب صاحبه، وكل جيب بقدر "نفخته". ضلمة باشا إذا انتهيت، وهذا فى العادة ما لا يحدث من رحلات الشراء تجد نفسك أمام المقاهى والمطاعم الأوروبية الشكل، والمحتوى أو غيرها من المطاعم الشرقية التركية، وبابا غنوج، وماما عثمانلية، وبحثا وراء طبق «الضلمة» وهو محشو الباذنجان والفلفل والكوسة والطماطم سرنا بحثا عنه لنجد أنفسنا أمام قصر يأخذ مساحة فدان لصاحبه «ضلمة» باشا، الذى تحول إلى متحف للسياحة بعد أن أصبح الباشا فى خبر كان ماعدا طبقه المفضل الذى سمى على اسمه، فقد كان الباشا يعشق هذا النوع ويبدع الطهاة فى ابتكاره، حتى يرضوا الباشا إلى أن تحول ذكراه إلى مجرد طبق «ضلمة»، وما تركه وفعله الباشا ضلمة تكرر مع الباشا داود الذى أصبح «كفتة» فى مصر بعد أن تفوق الطهاة المصريون فى صناعتها، رغم أن صاحبها تركى وباشا قد الدنيا بأثر رجعى. الأذان فقط الشوارع أوروبية الشكل والنظافة والنظام لا تشعر أنك فى بلد الأغلبية فيه مسلمة، إلا عندما تسمع الأذان بصوت رائع يشبه صوت الشيخ رفعت وأذان موحد جميل ينطلق من كل الجوامع التى تشبه كلها فى فنها المعمارى القلعة المصرية، وكأنها استنسخت فى كل مكان على أرض إسطنبول، الذى يربط الجزء الأوروبى بالآخر الآسيوى كوبرى علوى فشر كوبرى سان فرانسيسكو يضىء بالليل بألوان الفرح البلدى أحمر، أخضر، بنفسجى، ليعلن عن تزاوج أوروبا بآسيا، وبينهما البوسفور . الجزء الأوروبى تسكنه الطبقة المتوسطة البورجوازية والعمال والناس اللى زينا على قد الحال، عكس الجزء الآسيوى الذى يسكنه الناس اللى فوق فوق، ناس الطبقة العليوى. مظاهرات بالشورت تزامن وجودنا فى تركيا مع عرض فضيحة الفيلم الأسود من طيور الظلام العنصرى، من أعداء الإسلام والمسلمين لعنهم الله دنيا وآخرة، ولم نشعر برد الفعل التركى السريع إلا بعد صلاة الجمعة وانطلاق آلاف الشباب من الفتيات والفتيان بالبنطلون الجينز والشورتات وهم يحملون لافتات خشبية حمراء مكتوبا عليها بالتركى: إلا رسول الله. أصابنى الحول واضطراب المقلتين، وسائق التاكسى يترجم لى باللغة العربية الركيكة معنى المكتوب على اللافتات الخشبية، وأنا أنظر إلى ملابسهم المتخنفسة الأوروبية الكاسية العارية، وقلت لنفسى إن الغيرة على الدين تكمن فى القلب لا تعرف لا لابس ولا خالع، لا صاحب لحية ولا حالق و لا خالع رأسه لكن هذا لم يمنع كالعادة بروز رؤوس محجبة لتقود المظاهرات النسائية التى انفصلت أمام البلدية عن الرجال. إنه نفس المشهد المكرر فى معظم العواصم الإسلامية مع فارق الرداء، ولكم فى الأتراك وحكم الإخوان فى تركيا مثلا لانفصال العقيدة عن الحكم، مثلا قد يطمئن أصحاب الرايات العلمانية والليبرالية فى مصر. وإذا كانت سياحة البيع والشراء رخيصة ومغرية، فإن سياحة المزارات فى إسطنبول ينطبق عليها مثل بيع الهواء فى زجاجة أو إحنا اللى دهنا الهوا دوكو أو لعبة البرغوتة والثلاث ورقات، ويا ويلك لو وقعت فى يد شركات السياحة الداخلية وفكرت فى زيارة الآثار من خلالها. وهذ ما حدث لنا وأنا اللى جبت ده كله لنفسى؟ عندما قررت الالتزام ببرنامج الزيارات من خلال شركة السياحة بدلا من الذهاب بمفردنا. آية صوفيا فى عربة ميكروباص تم شحننا لزيارة «آية صوفيا» وتوب كاب، أى قصر الباب العالى، أيام السلطان وحريم السلطان والمسلسلات التركى التى حلت محل المسلسلات العربى فى حياة ووجدان نساء الوطن العربى. وبدلا من دفع خمسة دولارات إذا ذهبنا بمفردنا، دفعنا 99 دولارا، كل دولار ينطح دولاراً لنشاهد المسلة المصرية الفرعونية التى تم شحنها «هيلا بيلا» أيام الحكم العثمانى إلى إسطنبول، مثلها مثل باقى المسلات الفرعونية فى أنحاء العالم أثناء الغزوات الاستعمارية التى نهبت فيها البلاد، ومثلها رأينا بقية الغنايم من سائر بلاد المسلمين أيام الخلافة بدءا من شعيرات يقولون إنها للرسول الكريم «ص»، مرورا على أول رسالة كتبها والختم النبوى الشريف وآثار أقدامه، نهاية بسيف خالد بن الوليد والعديد من سيوف الصحابة بل وسيف الرسول، والغريب أنه مطرز بالأحجار الكريمة، وهذا ما جعلنى أشك فى مصداقية بعض ما أراه. جزيرة الأميرات بدون حبى أنا تذكرت أغنية سعاد حسنى فى فيلم «أميرة حبى أنا» وأنا فى طريقى لزيارة جزيرة على مسافة ساعة ونصف الساعة من إسطنبول اسمها جزيرة الأميرات، وأغنية «بمبى الحياة بقى لونها بمبى»، ولا أدرى ما الذى جعلنى أتصور طوال الطريق ونحن نخترق مياه البوسفور أننى سأجد أميرات الباب العالى فى استقبالنا، وما إن حطت الباخرة السواح من داخل وخارج البلاد حتى وجدت مدينة صغيرة محشورا فيها مئات المقاهى ومطاعم الأسماك وكأننا فى أبوقير. وتركب الحنطور وركبنا الحنطور واتحنطرنا بشلة المعلم وسائق الحنطور «العربجى» التركى نطق بالعربى وأخذ يفاصل معنا 75 ليرة لأ، 65 ليرة، وطردنا أول حنطور أول طردة، وبصفاقة وصلافة «وزربونة» تركية وهو يشخط وينطر ويقول «سوس» «بربربر» وكان ناقص يقول خرسيس مرسيس أدب مافيش، أدب يوك. وظلت حال الفصال من عربجى لآخر حتى وقفنا على السعر، وبما أن الليرة التركية تقف علينا نحن المصريين الغلابة بثلاثة جنيهات ونصف الجنيه، فقد دفعنا بلا تردد ولا حرج 300 لحلوح مصرى، لنتجول به فى مطالع ومنازل الجزيرة التى تشبه بقصورها وبيوتها شاليهات وقصور مارينا فى الساحل الشمالى. انتهت الرحلة وركبنا الهوا واتحنطرنا بالشارتر.