يتراوح إنتاج محمد البساطي السردي بين عشر مجموعات قصصية, وخمس عشرة رواية صغيرة الحجم نسبيا, تدعونا إلي أن نطلق عليها المصطلح الذي كان شائعا من قبل وهو القصة أحدثها غرف للايجار التي نشرتها مؤخرا مؤسسة أخبار اليوم. وقد انتظم البساطي في النشر خلال الأعوام الاخيرة بدرجة ضمنت له حضورا ابداعيا لافتا ومكانة سردية راسخة, وأهم من ذلك استقر له أسلوب متميز في الكتابة, يعتمد أساسا علي الاقتصاد في اللغة, والاقتصار علي أفعال الحركة المتوالية, وتركيز الحوار في جمل قاطعة, مع العزوف التام علي إطلاق الأحكام أو التعليقات أو التحليلات النفسية, وكأنه يكتب سيناريو أفلام حركة صامتة, يقدم فيها حيوات مصمتة متجاورة, يتم تفاعلها بالوقائع المصورة بعين الكاميرا الثاقبة, تسبقها عبارات تشبه الإرشادات المسرحية, فهو يقدم للقسم الأول من قصته قائلا: الشقة في بيت قديم, من ثلاث غرف, بكل غرفة عائلة, الباب الخارجي مفتوح ليل نهار, لا يوجد في الصالة ما يخشي عليه, وكل عائلة تغلق باب غرفتها علي نفسها وأشيائها, ثم يفتح ستار القصة, فلا تختلف اللغة عن هذا النسق إلا في غلبة الأفعال عليها, يصف مثلا أولي ساكنات الشقة, وهي زوجة الفوال القادمة من الصعيد والممنوعة من تجاوز عتبتها, وهي تتعرض لتحرش جارها الذي يسكن في الشقة السفلي بطريقة طريفة, حيث تصحو علي صوت الناقوس الصغير يضعه زوجها في متناول يده علي عربة الفول, يصلها صوتها قبل الظهر بقليل ويكون عليها أن تنهض من رقدتها وتعد له فنجاجا كبيرا من القرفة باللبن, فالمقهي المجاور لا يقدمه, تضع الفنجان في رفق داخل سبت صغير تدليه من الشباك.. ويوما أخذت تنزله في بطء حتي لا يهتز لمحت يدا تمتد من شباك الشقة تحتها وتأخذه من السبت وتختفي, وابتسمت وهزت كتفها, قالت انها ستخبر زوجها, بعد قليل رجعت في كلامها, سيظن بها الظنون, يكفيها ما فيه وعلي الرغم من تكرار هذه الحركة وتواطئها معها, فإنها لا تفضي إلي شيء في مجري القصة, وتنتهي بأن يشتري الزوج ترمسا لوضع القرفة فيه, وتشغل القصة بأخبار السكان الآخرين الذين يتواردون علي الحجرتين المجاورتين, حيث تتآلف النسوة فيما بينهن دون صراعات تذكر, ولا يفصل بين الرجال سوي التنافس الذكوري المكتوم في اشباع زوجاتهم, فالحياة تقوم علي الأداء الجيد للوظائف الزوجية بعد إنهاء الأعمال اليومية القاسية, وعوض الفوال انضم إليه بدوي الفران بعد أن أصيب في حادث حريق شوه وجهه ولم يجد بدا من تغيير سكنه وإن كان قد ترك نصف السفلي علي كفاءته, فبعد أن أنهي مهمته خرج متمهلا ووارب باب الغرفة, جلس في مقعد الفوتيه بالصالة المشتركة وأشعل سيجارته, انتبه لوجود عوض علي مقعد خشب أمام باب غرفته يدخن سيجارة, تلاقت نظراتهما وتبادلا إيماءة خفيفة برأسهما, عوض يختلس النظر إليه, هو من لحظات انتهي من مضاجعة جيدة, كان راضيا عن نفسه وقد ترك امرأته في الفراش منهكة كالميتة, لا تستطيع حتي أن تغطي نفسها, شد الملاءة فوقها بعد أن ضربها علي مؤخرتها العارية, خرج إلي الصالة ليهوي جسدة المبتل بالعرق, اختلس نظرة إلي جاره ورآه منطويا أشبه بمن خرج مضروبا في معركة وربما خمن ما جري لصاحبه وهز قدميه طربا, وكاد ينفجر بالضحك, ثم أمسك, عليه أن يكون حذرا فهذه أمور لا يصح الهزار فيها. السقف المنخفض: تفتقد قصة البساطي علي احكامها التقني أية منافذ تنفتح بها علي عوالم الحياة المعاصرة في ابعادها السياسية أو الدينية أو الجمالية, إذ تنحصر في عدد من الحيوات التي تحيل إلي الوجود المادي المباشر في علاقات الشخوص الجسدية ووضعهم المجتمعي المنخفض في سقفه بقدر الحجرات التي يقومون بتأجيرها, دون أية إشارات تتجاوز هذا النطاق, مما يجعلها تضرب في نطاق النزعة الطبيعية الموغلة في كثافتها, لا الواقعية التي تستوعب الأحلام والرؤي والرموز, ولعل الاستثناء الوحيد من هذا الحصار المادي قد أطل في الجزء الثاني من القصة, عندما تحول السرد من المنظور التقليدي الذي يقوم به الراوي المحيط بكل شيء علما إلي ضمير المتكلم الشخصي, حث ينتقل الحكي إلي من يقول:غرفتي فوق السطوح, تشغل ركنا من الجانب الأيمن, تطل علي رأس السلم, ويأخذ في مراقبة من يحاول أن يستخدم السطوح المهجور في علاقاته الغرامية, ويأخذ في رصد الفوارق في الحركة والطموحات بين الأرامل والمطلقات, ويدبر بشيء من الدهاء ما يزعج به من يأتون إلي السطوح من العشاق الهاربين من الأنظار, ويقول:أتمني أن تسكن الغرفتان, فتسري الحركة قليلا علي السطح, وأتطلع إلي وجوه جديدة قد لا تكون عابسة, حتي ولو كانت سيكون مرآها مسليا, وتكثر الأقدام التي تصعد وتهبط السلم, آراها من رقدتي وأقارن بينها, سيكون هناك ما يشغلني, عندي الكثير من الموضعات جاهزة في ذهني للكتابة, لكني كسول وأتهرب من القعدة, كتبت بعضها ومزقته في اليوم التالي, كانت بلا طعم, أريد شيئا ملفتا يجعل المسئول عن النشر يتحمس لتقديمي للقراء ككاتب جديد, يستطيع من تناول للجزء أن يصل إلي دلالات عن الكل, وسيكون لي عنوان ثابت اعرف غيرك الواقع به كثير في حاجة أن ننظر إليه. ذلك إذن شعار ذلك النوع من الكتابة السردية الغيرية التي تهرب من الاستغراق في البواطن النفسية, وأن تطبق منظورا فلسفيا ظاهراتيا يتركز في ملاحظة الآخرين والنظر إليهم ورصد حركاتهم واستخلاص قوانين حياتهم في ابعادها الإنسانية الفقيرة, حيث لا تنضح عن أية أنوار تربطها بعوالم كبري ذات دلالات ميتافيزيقية أو روحية, أقصي ما يصل إليه السرد بهذه الرؤية التوثيقية للحياة الدنيا أن يجازف بطرح أسئلة غير مباشرة عن المستقبل المنظور, كما يتمثل في مصير تلك الفتاة الصغيرة التي يتركها جدها وهو عازف صغير في محلات البوظة في كتف الراوي يوما بعد يوم, حتي يودعها نهائيا في عهدته ويمضي دون عودة, فتختم الرواية بالتساؤل عن مصيرها وكأنه قد أصبح مصير الإنسانية التي تعيش تحت هذه السقوف المنخفضة. المزيد من مقالات د. صلاح فضل