رغم الانتعاشة التى شهدتها نسبيا الأجناس الأدبية غير الروائية كالقصة القصيرة والشعر، اللذين تمت إزاحتهما خلال العشر سنوات الأخيرة لصالح «الرواية» بعد التبشير بما عرف بزمن الرواية، وما تلا ذلك من مد روائى تجلى فى غزارة الإنتاج، وتوسع دور النشر فى إصدار الروايات على حساب بقية ألوان الأدب، واستحداث مؤتمرات وجوائز وفعاليات جديدة باسم الرواية، الآن ورغم حصة التوازن التى بدأت تستعيدها خريطة الإبداع متمثلة فى صدور العديد من الأعمال الشعرية والقصصية لمبدعين كبار وجدد، وانعقاد العديد من المؤتمرات الرسمية والأهلية التى تحتفى بالقصة والشعر، واستحداث جوائز جديدة لصالح الجنسين، إلا أن الأديب الكبير بهاء طاهر لايزال يرى أن القصة القصيرة فى تراجع، ليس فقط فى العالم العربى وإنما فى العالم كله. طاهر الذى أعقب حصوله على جائزة بوكر للرواية العربية فى دورتها الأولى عام 2008، بإصدار مجموعته القصصية الأحدث «لم أعرف أن الطواويس تطير» أواخر العام الماضى، عائدا بذلك لفن القصة بعد 11 عاما من الهجران، صرح قبل أيام بأنه يشعر بالأسف للمستوى الذى وصلت إليه القصة القصيرة فى العالم أجمع، ملقيا بالتبعية على الناشرين الذين أصبحوا يفضلون نشر الأعمال الروائية على القصص القصيرة لأنها تحقق أهداف الناشر فى ظل الثقافة السائدة حاليا. هذه التصريحات التى أدلى بها الكاتب الكبير لصحيفة اليوم السعودية، جاءت استباقا لاحتفاله بعيد ميلاده الخامس والسبعين الذى نحتفل به اليوم، وجاءت متزامنة مع إعادة إصدار الأربعة أعمال القصصية الأولى لطاهر عن دار الشروق. المجموعات القصصية: «الخطوبة» (1972)، «بالأمس حلمت بك»(1984)، «أنا الملك جئت» (1985)، و«ذهبت إلى شلال» (1998) صدرت مؤخرا بأغلفة جديدة ورسوم داخلية للفنان وليد طاهر، الذى صمم أيضا غلاف المجموعة الأخيرة «لم أعرف أن الطواويس تطير»، وهى الأغلفة التى ناسبت بهجتها الصافية حالة الرومانسية والتصور الشعرى الحالم للكون الذى يبطن قصص الكاتب الكبير، لكنها أى الألوان كانت فخا لمن يقرأون هذه القصص للمرة الأولى، لأنها لم تصارحهم وهذا غير مطلوب بما وراء هذه الأغلفة من قلق إنسانى ووجودى، ومن هموم متجذرة فوق وبين السطور. هذا وعلى تفاوت الفترة الزمنية بين كتابة ونشر هذه المجموعات الأربع، وعلى ما بينها من تفاوت فى الهموم، والموضوعات وتيم الكتابة إلا أنه لا يصعب التعرف على بصمة الكاتب الإبداعية والشخصية، فضلا عن سمات وأدوات حرفة الكتابة التى لبهاء طاهر منها ما ينفرد به، وهى السمات التى توضحها قراءة ودراسة أى أو بعض أو مجمل هذه المجموعات القصصية على النحو التالى: الخطوبة: الكشف عن أصابع السلطة لا أدرى إذا كانت إحدى قصص هذه المجموعة أم لا، لكن أول قصة نشرت لبهاء طاهر كانت فى مجلة الكاتب عام 1964، وقدمها للجمهور الراحل الكبير يوسف إدريس، واصفا طاهر الذى لم يكن قد تجاوز بعد ال29 بأنه: «كاتب لا يستعير أصابع غيره ولا يقلد أحدا»، وبعدها بثمانى سنوات صدرت مجموعته الأولى «الخطوبة» متضمنة لتسع قصص قصيرة متفاوتة الطول هي: الخطوبة، الأب، الصوت والصمت، اللكمة، نهاية الحفل، بجوار أسماك ملونة، المظاهرة، المطر فجأة، وكومبارس من زماننا. فى هذه المجموعة تتجلى على أكثر من مستوى فكرة السلطة وأصابعها الجهنمية التى تحاول بها حصار الأشخاص، هذه السلطة سياسية كانت أم اجتماعية أم ثقافية، يحاول الكاتب تعريتها من خلال الحكى والوصف، ورصد الحوار بين ممثليها من طرف والمتسلط عليهم من طرف آخر، وذلك فى إطار حكائى محبوك بعيدا عن الأدلجة والزعيق السياسى، ففى قصة «الخطوبة» نجد والد البنت أقرب إلى محققى الشرطة، الذى يحاصر البطل باتهامات مفتعلة، ويختلق له فضائح يساومه من أجلها لإبعاده عن ابنته، وفى قصة «الصوت والصمت» تتسلط الأم الأرملة على ابنتها وتحاول إجبارها على الزواج لتتفرغ لعلاقاتها غير المقبولة، أما فى قصة الأب فتنعكس الصورة الذهنية التقليدية السلبية للرجل عن المرأة حيث لا يختلف الزوج الذى يرتدى القميص ورابطة العنق عن الأب الذى يرتدى الجلباب والطاقية المقلمين، كذلك لا تختلف كلا المرأتين الزوجة وأمها من حيث بلادتهما ومحاولة التسلط على الزوج/ الأب، وفى نفس المجموعة نجد فى قصة «اللكمة» أن البطل يفاجأ بشخص غامض يضربه فى مكان عمله ويهرب هذا الشخص دون أن يجد البطل تفسيرا لهذا الحدث الغريب، وعندما يحكى لأصدقائه ما حدث تتوالد أو تختلق الحكايات، فيفترض أحدهم أن هذا الرجل زوج أو عشيق امرأة يعرفها الصديق المضروب، ويقترح آخر أن ينسى الرجل الأمر برمته، بينما يؤكد ثالث أن كل ما يرويه صديقه مجرد خرافة أو هذيان بفعل الخمر، بينما البطل يشعر باستمرار مطاردة الرجل الغامض الذى تعدى عليه، وتتماهى الحدود الفاصلة بين الواقع والخيال، وبينهما رموز عالقة تحتمل أكثر من تأويل، فعلى ما فى قصص هذه المجموعة من واقعية وعادية أحيانا إلا أن وراءها كما فى أغلب أعمال بهاء طاهر هموما وأسئلة تحتاج إجابات بعدد قراء هذه الأعمال. عن هذه المجموعة يقول الناقد د.صبرى حافظ: «فى الخطوبة نرى عالما عاريا من الزوائد والإضافات، شديد الكثافة والاقتصاد، يبدو وكأنه بالغ الحياد أو واقع على حدود اللامبالاة، ولكنه مترع تحت هذا الرداء الحيادى الخادع بالعواطف والأشواق والصبوات الإنسانية البسيطة والمستعصية معا». بالأمس حلمت بك ليست عن علاقة الشرق بالغرب وقت صدورها فى عام 1984، مثلت هذه المجموعة وشقيقتها الأخرى التى تلتها بعام «أنا الملك جئت» حدثا مهما للأوساط الأدبية التى كانت قد عرفت بهاء طاهر بعد مجموعته الأولى، ومن حضوره الإذاعى فى البرنامج الثانى، قبل أن يتم منعه من الكتابة ويغادر إلى سويسرا حيث عمل مترجما للأمم المتحدة. ويعد هذان العملان من أروع أعمال بهاء طاهر القصصية، لكن ظروف كتابتهما فى المنفى أو خارج الوطن جعلت العديد من الأفكار المسبقة ترتبط بتلقيهما. ففى المجموعة الأولى «بالأمس حلمت بك» والتى حملت أول وأهم قصصها نفس الاسم، وكانت ككثير من قصص بهاء طاهر أقرب إلى «النوفيلا» أو الرواية القصيرة يحكى الراوى بضمير المتكلم قصة علاقة شاب عربى مع فتاة أوروبية تدعى (آن مارى) يتعرف عليها بطل القصة، وتمنحهما المصادفة أكثر من لقاء ينمو إلى أن يكون علاقة ما، لكن البطل الذى تعرض عليه الفتاة نفسها يرفض أن يكون الجسد محورا أو شريكا فى هذه العلاقة فليس هذا ما يريد، وعند هذه النقطة يبدأ بينهما حوار ذو طابع فلسفى ووجودى وشاعرى فى آن، قالت الفتاة: قل لى أرجوك ماذا تريد؟ ما أريده مستحيل. ما هو؟ أن يكون العالم غير ما هو، والناس غير ما هم. قلت لك ليس عندى أفكار، ولكن عندى أحلام مستحيلة. هذا الحوار يعتبره النقاد تجليا أو انعكاسا لجدلية العلاقة بين الشرق والغرب، وكثيرا ما يتم الاستشهاد بهذه القصة فى سياق العلاقة بين الشرق والغرب، خاصة أنها تزامنت مع صعود تيار أدب ما بعد الاستعمار، الذى أفرز عددا من الكتابات أهمها رواية الطيب صالح الشهيرة «موسم الهجرة للشمال». لكن الكاتب الكبير يرفض دائما هذا التصور، ويؤكد أنه لم يدر بخلده إطلاقا. يقول طاهر فى أحد حواراته: « دائما ما يتم التركيز على فكرة أن المسألة هى صراع بين الشرق والغرب. ولكننى أرفض هذه الفكرة. كل الحكاية أننى أردت أن أقول إنهما كائنان بشريان تصادف أن كان أحدهم من الشرق والآخر من الغرب. ومن الممكن أن تحدث هذه القصة فى أى مكان فى الشرق أو الغرب.. فى أمريكا كما فى مصر، أو فى أى مكان إذا كانت الشخصية لها هذه المقومات والشخصية الأخرى لها تلك المقومات. ولكن للأسف هذا التفسير لا يرضى أحدا». «أنا الملك جئت» محاورة الوجود ورغبة فى الإدراك تتضمن هذه المجموعة قصتان طويلتان هما «أنا الملك جئت» و«محاورة الجبل» بالإضافة إلى قصتين أخريين هما: «محاكمة الكاهن كاى نن» و«فى حديقة غير عادية»، لكن القصتان الأولييان يجمعهما عدد من السمات أهمها الطول النسبى الذى يأخذ شكل «النوفيلا»، وهو الشكل الفنى الذى لا تتمثل خصوصيته كما أشار الناقد الأردنى محمد عبيدالله فى مسألة الحجم أو عدد الصفحات وإنما يتعداه إلى اختلافات جوهرية فى الخطاب السردى وفى المبنى الحكائى بما يجعل منه نوعا متميزا عن القصة القصيرة والرواية وغيرهما من أنواع سردية. ثمة سمة أخرى تجمع هاتين القصتين «أنا الملك جئت» و«محاورة الجبل» وإن كانت مبثوثة فى أغلب أعمال بهاء طاهر وهى النزعة الصوفية والنزوع نحو التجريد، والهروب إلى عوالم بكر، وقد تجلت فى القصتين عبر الهروب للصحراء والتخلص من ضجيج العالم، ففى «بالأمس حلمت بك» نجدها رحلة ممتدة عبر المكان ما بين مصر وأوروبا ثم مصر ثانية، قبل أن يقرر البطل مغادرة العالم الصاخب إلى الصحراء بحثا عن الوجود الحقيقى ومحاولة فهمه ولمس جوهره. وإذا كانت هذه الرحلة قد بناها البطل د.فريد لمحاولة اكتشاف ذاته، فإن بطل «محاورة الجبل» يحاول أن يكشف تاريخا آخر للشخصيات التى يقابلها كل يوم على مقهى باب اللوق ويمثلون مجتمعه الصغير، ويشاركونه الحلم بالفوز باليانصيب، لكن سرعان ما يتحول هذا المجتمع بأحلامه البسيطة إلى كيان معقد بمجرد فوز هذا البطل بالورقة الرابحة ومطاردة العجوز الانتهازى له حتى الجبل، ليبدأ بينهما حوار متعدد الطبقات وطارح للأسئلة أكثر مما هو مجيب عليها، يقول طاهر: فإن كنت أجد سعادتى فى أن أعطى؟ إذن فعش مع الأوباش. لم تقل لى لماذا تشترى اليانصيب؟ أليس هذا سؤالا غريبا؟ أتمنى أن أربح بالطبع. فإن ربحت؟ إن ربحت.. أنتظر.. بعد أن أسدد أشياء ضرورية.. سأؤجر شقة نظيفة، وربما أتزوج. لا واحدة ترضى بى وأنا مفلس. علت ضحكاته ثم قال: صح ما توقعته. أنت واحد من الأصفار. أحلامك أحلام الأصفار. ثم قال وهو لا يزال يضحك: وبالمناسبة أنت ربحت (البريمو).. «ذهبت إلى شلال» باقة من الشعر الجميل. حتى أواخر 2009 أى قبل صدور مجموعة «لم أعرف أن الطواويس تطير»، كانت هذه المجموعة هى الأخيرة التى يصدرها بهاء طاهر، بعدما أعقب مجموعاته الثلاث بمجموعة من الروايات التى مثلت علامات فارقة فى مسار السرد العربى هى: شرق النخيل 1985، قالت ضحى 1985، خالتى صفية والدير 1991، الحب فى المنفى 1995، نقطة النور 2001، وأخيرا واحة الغروب 2007، التى حصدت بوكر 2008. فى هذه المجموعة التى تتضمن سبع قصص هى: أسطورة حب، فرحة، الملاك الذى جاء، من حكايات عرمان الكبير، شتاء الخوف، ولكن، وأطلال البحر، تتجلى مقولة المفكر الكبير محمود أمين العالم عن بهاء طاهر، يقول العالم: « كتابات بهاء طاهر من هذه الكتابات الهامسة التى تنساب إليك بهدوء آسر بليغ تربت على مشاعرك فى نعومة ورقة مهما بلغت حدتها الدرامية وعمقها الدلالى، إنه قصاص شاعر متصوف تفيض شاعريته وصوفيته برؤيا إنسانية حادة تغريك برومانسيتها الظاهرة عما ورائها من حكمة وعقلانية وإحساس عميق بالمسئولية والالتزام»، وهى المجموعة ذاتها التى قال عنها الناقد صبرى حافظ إنها: «تنطوى بدرجات متفاوتة على العناصر التى تم تقطيرها عبر تجربته القصصية الطويلة: من صفاء اللغة، إلى جنوح صوب البعد الأسطورى، إلى العمق الفكرى والفلسفى، إلى الاهتمام بالتاريخ، إلى المزج بين الواقعى والمتخيل، إلى صياغة الثنائيات القصصية المتحاورة. كما وصفها الراحل د.على الراعى بأنها باقة من الشعر الجميل. وكانت «الشروق» استقبلت المجموعة الأخيرة «لم أعرف أن الطواويس تطير» بقراءة تتبعت فيها الخيط الإنسانى الواصل بين مختلف القضايا السياسية والحوادث النفسية والفلسفية، والتراكيب الاجتماعية المتنوعة، والذى تعود قراء بهاء طاهر أن يجدوه فى قصصه، وضمت هذه المجموعة ست قصص قصيرة، كان فى أغلبها الراوى عليما، يسرد تفاصيل شخوصه، وينقل مونولوجاتهم الداخلية والخارجية بلسانه هو، وكان الاغتراب المكانى والوجودى تيمة أساسية اعتلت أو بطنت السرد القصصى، بالإضافة للاغتراب الزمانى للشخوص، وانفصالها عن أعمارها وحيواتها وواقعها الجديد، حيث تيمة المشيب والشيخوخة والتقاعد، مبثوثة فى قصص المجموعة. يذكر أن عددا من الجوائز حازها الكاتب الكبير بهاء طاهر عن أعماله المختلفة ومجمل أعماله، أهمها فى مصر جائزة مبارك للآداب 2009، بالإضافة إلى جائزة الدولة التقديرية فى الآداب سنة 1998. كما حصل على جائزة جوزيبى أكيربى الإيطالية سنة 2000 عن رواية «خالتى صفية والدير»، والجائزة العالمية للرواية العربية «بوكر» عن روايته واحة الغروب 2008.