ماجري في إمبابة محزن ومؤسف ومؤلم! ويمثل جريمة بشعة بكل المقاييس, لا أنظر الي الخسائر البشرية أو المادية, ولكن أنظر الي خسائر الوطن في الحرية والاستقرار والأمل, فهي أكبر وأغلي. مصر الحضارة والرقي, التي قدمت للدنيا مثالا رائعا فريدا يوم ثورتها العظيمة في يناير, تتعرض اليوم لمؤامرة كبري, تتجاوز إمبابة الي أركانها الأربعة, بل تتجاوزها الي أرجاء العالم العربي كله, فقد أدرك المجرمون المحليون والخارجيون أن مصر بدأت تأخذ زمام المبادرة للنهوض والخروج من غرفة العناية المركزة التي وضعت فيها أكثر من ثلاثين عاما, بحيث لا تحيا صحيحة سليمة قوية, ولا تموت مريضة بائسة يابسة! بعد إسقاط النظام في الحادي عشر من فبراير, جري أول اختبار للإرادة الشعبية, وكان الاستفتاء علي التعديلات الدستورية يمثل أرقي صورة للتحضر, والنزاهة المفقودة والشفافية الغائبة, وقال الناس كلمتهم, وتابع الشعب مسيرته الحقيقية للانتقال الي السلطة المدنية بوتيرة منتظمة, وفي فيها الجيش بوعده, الذي قطعه علي نفسه بالعودة الي ثكناته تنفيذا لمهمته الأصلية بالدفاع عن أمن الوطن وحدوده.. ولكن أعداء الوطن في الداخل والخارج, وأصحاب المصالح ممن يغترفون من أموال الشعب البائس الفقير بلا حسيب ولا رقيب, لم يعجبهم ذلك, فتحركوا في أكثر من اتجاه, لتمزيق الوطن وتفتيته, من ناحية, واستعادة النظام السابق بفساده وفاشيته وضعفه أمام الغزاة والطامعين! هناك طبقة مساندة للنظام السابق مازالت قائمة في الصحافة والإعلام والثقافة والعمل العام, مازالت تنوح علي النظام البائد وتبكي عليه, وتتنادي بأدبياته وتصوراته ولكن بصياغة جديدة تهدف من وراء ذلك الي لفت الأنظار عن الأعداء الحقيقيين, وتوجيه الناس الي عدو مفتعل, تلقي عليه اللوم والمسئولية حماية للمجرمين الحقيقيين واللصوص الذين لم يتوبوا, ولم يتعظوا بمن دخلوا فندق طرة لاند وأقاموا فيه انتظارا ليوم العدل العظيم! لقد ظهرت في الفترة الماضية دعوات غريبة مازالت تلقي تعميما وترويجا وتأجيجا, الغرض منها حرمان الشعب من حريته, وقطف ثمار الثورة, وذكرت مصادر أن هناك اجتماعات تتم في الظلام بين أركان النظام البائد وبعض المثقفين والإعلاميين لمواجهة تيارات بعينها, ثم تتبني بعض الجهات والأشخاص مؤتمرات وندوات تحت مسمي القوي الوطنية أو التقدمية, وتشكيل مجالس عليا وصياغة دستور جديد, ومطالبات بتأجيل الانتقال الي الحكم المدني ثلاث سنوات, والإعلان الكاذب أن الاسكندرية صارت إمارة إسلامية, والتدخل الغريب في تشكيل هيئات قومية من تيارات بعينها واستبعاد تيارات أخري, والوقوف في المؤسسات الصحفية والإعلامية عند تغييرات محدودة, وترك أشخاص بذواتهم في مواقعهم, مع المناداة بتقديم انتخاب الرئيس علي تشكيل المجلس النيابي, وغير ذلك من تصرفات وأفكار الغاية منها استعادة النظام السابق في صورة جديدة, لتحقيق مصالح أعداء الحرية والوطن, وأصحاب المصالح من اللصوص الكبار! في هذا الإطار يمكن أن نفهم أحداث إمبابة والجيزة والصعيد, والاعتصامات وقطع الطرقات, واستخدام العنف الذي لم يكن قائما بحال في أيام الثورة العظيمة, ولكنه استجد عقب نجاحها وبداية تطبيق العدالة علي قتلة الشهداء, واللصوص الكبار الذين نهبوا البلد واستباحوها! يتصور بعضهم أن مصر يمكن أن تعود الي الوراء, وإن لم يكن فإن تمزيقها أو تفتيتها وفقا لمخططات كيسنجر, وفلاسفة بلقنة الوطن العربي الإسلامي, هو الحل العلمي الذي يشفي غليل أعداء الحرية والأوطان, وأظن أن هذا ليس ممكنا بدليل التجارب السابقة التي حدثت في العالم العربي, فقد اشعلوا شرارة النار في لبنان عام5791 بعد حرب رمضان, وظلت الحرب الأهلية هناك خمسة عشر عاما, واستعان بعض الأطراف بالغزاة النازيين اليهود, الذين وصلت دباباتهم الي بيروت, وعينوا رئيسا للدولة هناك ثم قتلوه, حين تلكأ في تنفيذ رغباتهم, ولكن الأطراف جميعا خرجت خاسرة, ومازالت تدفع الضريبة حتي اليوم, ومع ذلك لم يجدوا مفرا من التعايش, والعودة الي التفاهم والحياة في مجتمع واحد, يتعاملون فيه معا, وينتجون معا, ويواجهون العدو الحقيقي معا! المحاولات التي يبدو أنها نجحت في العالم العربي مثل السودان والعراق, وتجري في ليبيا واليمن وسوريا, خسائرها أكبر من مكاسبها, وقد أظهرت الثورة أن الأمة روح واحدة, وقلب واحد, وأن التقسيمات العليلة ما هي إلا مرحلة مؤقتة سوف يتم تصحيحها ويدفع صناعها الثمن غاليا. مصر الثورة وهي تواجه الانفلات الأمني المصنوع, ستخرج أقوي مما كانت, لأنها ستواجه صناع الانفلات بالقانون ويد العدالة التي ستطبقها علي جميع المذنبين والمخطئين والمتآمرين, لأن أمامها مرحلة مهمة هي البناء والتعمير. وإذا كان بعضهم يعتمد علي الاستفزاز والإثارة, فإن الحكمة تقتضي من المواطنين جميعا أن يفوتوا الفرصة علي المستفزين, وصناع الاثارة, وليكن القانون هو الطريق الأول والوحيد لمواجهة هؤلاء, وإنزال العقاب بهم دون حرج أو خوف! لقد أعلن مائير داجان رجل المخابرات الصهيوني قبل الثورة, أن كيانه العدواني وراء ما جري في مصر من تمزيق للوحدة الوطنية, واعتقد انه لم يضف جديدا, ولم يقدم خبرا طازجا, فالعدو النازي اليهودي يعمل منذ وجوده الظالم علي أرض فلسطين لإشعال النار في الدول العربية المحيطة والبعيدة, وتجنيد العملاء وأصحاب الضمائر الخربة من أجل إشغال كل بلد بما يجري في داخله, ونسيان الجريمة الكبري التي ارتكبها النازيون الغزاة وهي احتلال وطن عربي وتدنيس مقدساته وتشريد أهله في أرجاء الأرض. وينسي الغزاة أن اللص يعيش طول عمره خائفا من صاحب الحق, وهو مايجب أن تعرفه الأمة جميعا, ولا يفت في عضدها أن بعض ضعاف النفوس انحازوا الي الغازي المحتل, بل واستنجدوا به في بعض الأحيان, وغازلوه طول الوقت, فالأمة نسيج واحد, وإن تباينت معتقداتها وأفكارها, وجميعهم أبناء حضارة واحدة, وثقافة واحدة, هي حضارة الإسلام وثقافته التي ضربت المثل الراقي في التسامح والرحابة واحتضان من يستظلون بها من شتي الأفكار والتصورات. إن الاختلاف والتباين في الحضارة الإسلامية مصدر قوة وثراء, وليس مصدر ضعف وهوان, لسبب بسيط, هو انه اختلاف في اطار الوحدة, وتباين في دائرة التجانس, وهذا سر عظمة الحضارة الإسلامية وتأثيرها الكبير في الحضارة العالمية, فهي حضارة إنسانية في الأساس تتجاوز العنصرية والعرقية والطائفية والمذهبية, حتي لو بدا أن بعض المنتسبين اليها في واد آخر. ومهما يكن من أمر, فإن محاولات حرمان الشعب المصري من حريته لصالح أطراف تري أن الحكم الديمقراطي سوف يحرمها من امتيازاتها غير الطبيعية, وأنه سيدفع بأطراف أخري للمشاركة والظهور في المشهد العام, وسيجعل المشاركة قائمة علي المنافسة الشريفة لا المغالبة بقوة الذراع.. هذه المحاولات لن تنجح. صحيح أنها قد تؤخر الوصول الي الديمقراطية بعض الوقت, ولكنها لن تؤخره الي أجل بعيد. لقد اقترب موعد الانتخابات التشريعية والرئاسية, وهو ماينبغي أن تحتشد له كل الأصوات العاقلة, لنبني دولة المؤسسات والدستور الدائم الذي يحقق الاستقرار الحقيقي, واستقلال السلطات الثلاث. أما الذين يثيرون الانفلات الأمني ويعزفون علي الوتر الطائفي, فيجب أن نعالجهم بالقانون الصارم, ووعي الشعب بأطيافه المختلفة, ولا يظنن أحد أنه سيعلو فوق القانون أيا كان مركزه أو منصبه أو تأثيره, فمصر العظيمة باقية الي ماشاء الله بتسامحها ومودتها وإنسانيتها, أما الأعداء في الداخل والخارج فمصيرهم الي زوال بإذنه تعالي. المزيد من مقالات د.حلمى محمد القاعود