فرحانة انا, والفرح ليس مهنتي ولا عادتي, والفرح الفلسطيني نادر مثل ندرة صدق الرؤساء العرب, وندرة التزامهم بهموم شعوبهم, فالفلسطيني إذا ما ضحك قال مباشرة: اللهم اعطنا خير هذا الضحك. وكيف يفرح ونصال الغدر تكسرت علي نصال المجازر طيلة عقود. منذ قرأ والدي علي مسمعي كتاب الأطفال الأول من تأليف كامل كيلاني ومنذ ان استوعبت شموخ صورة القائد الخالد جمال عبدالناصر المعلقة علي أحد جدران بيتنا الفلسطيني, ومنذ ان قرأت الانفجار اول كتاب يقع بين يدي للاستاذ محمد حسنين هيكل, يوم لم تتجاوز سني الثالثة عشرة, وأنا مصرية الهوي والهوا. قال هيرودتس: مصر هبة النيل ونسي ذلك اليوناني الحكيم أن يضيف والشعب المصري هبة مصر وهبة الأمة العربية هذا الشعب العظيم الذي شيد الأهرام, وهزم جحافل المغول في عين جالوت, وصمد أمام الصليبيين, وأمام حقد العدوان الثلاثي ونهض مثل العنقاء من رماد النكسة ليلقن الجيش الذي لا يقهر درسا لن ينساه إلي أبد الآبدين, وأسقط أخيرا, بهمة وعزيمة حرة نظام الفساد والخنوع. أحببت منذ صباي عبقرية الاستاذ محمد حسنين هيكل,وتعقبتها ولاحقت مؤلفاته وبحثت عن مقالاته, حتي اصبحت هدايا ذكري مولدي, مؤلفات الاستاذ او صورا له, اما أم الهدايا فكانت, اقراصا تحتوي علي احاديث صحفية لم يتسن لي مشاهدتها, اذكر علي سبيل المثال, حديث للاعلامي الكبير عماد الدين اديب مع الاستاذ, وآخر للاعلامية جزيل خوري, ولن انسي روائع طه حسين وتوفيق الحكيم ونجيب محفوظ ويوسف ادريس واحسان عبدالقدوس ومحمود السباعي وغيرهم من عمالقة الأدب والإبداع الانساني الراقي, التي كانت تلزمني والدتي بقراءتي لها, كيلا اتعقد من عبقرية محمد حسنين هيكل! واعتدت ألا أنام إلا علي صوت عبدالحليم حافظ وسيد مكاوي والشيخ امام وكنت أعتذر لهم حينما أخونهم في ليلة ما مع صوت فيروز. ليوم الجمعة كان لجدي طيب الله ثراه منذ سنين عديدة طقس خاص فكان عليه أن يعد فنجان القهوة المهيلة ويضعه علي الصينية, وأن يضع الصينية علي التربيزة قرب المذياع وأن يبعد كل شيء جانبا وأن يتفرغ من كل ما يشغله ليسمع بصراحة مقال الأستاذ في الأهرام وكان علي الرغم من مرور خمسين عاما يحفظ عن ظهر قلب جملا وفقرات من تلك المقالات الصحفية الأدبية الرائعة, وذات يوم اختبرته ليعيد علي سمعي ما كتبه الأستاذ عندما كان علي ظهر يخت الحرية مع الرئيس الخالد عبدالناص عائدين إلي مصر حينما اعترضهم العدو؟ ياه!! تلك أيام كان يستمع فيها جدي إلي برامج اذاعة القاهرة وصوت العرب والبرنامج الثاني, ويشاهد تليفزيون مصر. فماذا فعل الخانعون حتي أبعدوه عنهم وعن صحيفة الأهرام وعن روز اليوسف! كيف سرقوا العروبة واختطفوا عروس النيل؟ اجتهد زبانية نيكسون بابا وزبانية بوش بابا وسلاطين الفول والزيت ليخفوا نور الله. كلما زرت القاهرة, لان اتنفس هواء العروبة ولان اتلمس البركة والكرامة علي باب هيكل, تمنيت ان استطيع دخول مبني الأهرام لكني عجزت, فلم تكن قدراتي الجسدية والنفسية تحتمل رؤية الأهرام بحال غير الحال الذي رسخه جدي في عقلي وضميري. فما كنت لاحتمل التساؤل: أين محمد حسنين هيكل؟ الأهرام هي خوفو وخفرع و... والأهرام هي محمد حسنين هيكل. كانت الأهرام طيلة عقود سند مصر وصوتها الحر, وكانت ظهر فلسطين,وعرفت العالم بثورة شعبنا الفلسطيني واستقبل محررها المقاتل الشاب خالد والقائد أبا عمار وعرفهما بأبي خالد. كنت ابحث عن مصر التي عرفتها وعرفها جدي وأبي وأحببتها في عيونهما وفي قصائد عبدالصبور ودنقل والأبنودي وفرقة رضا. حزنت وأنا أبحث ولكني لم أيأس فقد كنت علي ثقة بأن هذا الشعب الأصيل الذي شاهدناه في ميدان التحرير وفي خان الخليلي وفي الحسين وفي عين شمس والذي يبدو مثل المياه الساكتة لابد أن يفك العروس من أسرها. كما بشرني بذلك الاستاذ قبل الثورة بثلاثة اشهر. ها هم يا أستاذ الاساتذة يعودون. الشبان والشابات. التلامذة والعمال والفلاحون. عادوا وعاد نور الله, جاءوا من كل حي ومن كل كفر ومن كل غيط ومن كل مصنع. جاءوا ينظفون البلد, ينظفون الهواء والشوارع. جاءوا ينظفون حروف الأهرام وصوت الاذاعةوصور التليفزيون. جاءوا يصرخون ارفع رأسك يا أخي! جاءوا يقولون لنا تعالوا زوروا مصر فلن يبهدلوكم وينتهكوا كرامتكم في المطار وفي غرف أمن الدولة,فمصر تغيرت. مصر عادت. مبروك يا أبا علي هيكل. مبروك يا كل قمم مصر الاحرار. مبروك يا الأهرام ويا العربي ويا كل الصحف الحرة. ذهب البلطجية وبقيت الكلمة الحرة النظيفة. شكرا مصر, شكرا يا احرار ارض الكنانة, يا من أبدعتم ثورة عصرية جديدة لا مثيل لها سوف تبقي خالدة كما بقيت الأهرام وكما بقي النيل, وكما بقي ويبقي وسيبقي المصري والمصريون. أنا فرحانة أنافرحانة. هل تسمح لي يا استاذ بأن أفرح؟ الفرح ليس مهنتي والفرح نادر في حياتي, فأنا فلسطينية وحضرتك تدرك ذلك.