تقوم دنيا الصحافة والفضائيات ولا تقعد إذا عثرت علي وثيقة لم تنشر من عينة: شعبان عبدالرحيم لم يحصل علي الدكتوراه! أو الموسيقار سيد درويش وأسباب رفضه التلحين لهيفاء وهبي! أو طه حسين ضحك علينا ولم يكن يعاني فقدان البصر!! الخ.. الخ. مثل هذا الكلام الفارغ والكاذب كان سيجد له مكانا ومساحة سواء في خناقات الصحافة أو برامج الفضائيات! لكن الوثيقة السياسية أو الوصية التي كتبها المشير عبدالحكيم عامر قبل 42 سنة ونشرتها مجلة لايف الأمريكية عام 1967، وأعادت الزميلة الجمهورية نشرها في 26 نوفمبر الماضي فلا حس ولا خبر فقط الصمت. كان المشير عامر ملء السمع والبصر منذ قيام ثورة يوليو 1952 وحتي نهاية مشواره في سبتمبر 1967، فقد كان الرجل الأول مكرراً في مصر ولم تكن علاقته وصداقته وزمالته بجمال عبدالناصر القائد والزعيم تخفي علي أحد سواء في مصر أو خارج مصر! وجاءت هزيمة 1967 لتنهي هذه الصداقة الأسطورية والعلاقة التاريخية بين الرئيس والمشير تماما! ولعل أخطر وأهم ما جاء في وصية أو وثيقة المشير عامر هي السطور الأخيرة من وصيته، أنها الأهم والأخطر من حيث الدلالة والأهمية والخطورة! السطور الأخيرة للوثيقة التي كتبها المشير عامر كانت تقول بالحرف الواحد: وإذا كانت هذه الوصية قد كتبت في عجالة فذلك لأنني أخشي ما يخبئه لي القدر، فلقد فقدت الثقة في صديقي وأخي جمال ولم أعد أشعر بأنني آمن منه وأنا أتلقي تهديدات لأنني طلبت محاكمة علنية ومنذ حوالي ساعتين زارني ضابط المخابرات لم أكن لأتكبد عناء النظر إليه أيام مجدي وهدد بإسكاتي للأبد إذا غامرت بالتكلم، وحين قلت له إن أريد الاتصال بالرئيس قال: إذا كنت تحسب أن صداقتك مع الرئيس سوف تحميك فأنت مخطئ!! وحاولت الاتصال بالرئيس هاتفياً ولمدة ثلاثة أيام، وحاولت أن أتصل به ولكن قيل لي أنه مشغول وأنا علي يقين أن ثمة مؤامرة تحاك ضدي وقمت بكتابة هذه الوصية، وتأكدت أنها ستصل إلي أصدقاء موثوق فيهم عند الضرورة، وأنا لا أعرف علي وجه التحديد ما الذي يحاك ضدي ولكن الأمر أيا كان فأنا أدعو الله أن يحمي بلدنا وأن يعيد إليه الحياة بعد هذه النكسة، وأدعو الله أن يلهم هؤلاء الذين سيتقلدون الحكم في المستقبل الصواب للعمل من أجل كرامة وشرف شعبنا ودولتنا. وأخيرا أطلب من الله المغفرة وأدعوه أن يلهم عائلات الشهداء الصبر والسلوان، الله أكبر والمجد لمصر. انتهي ما كتبه المشير عامر بتاريخ 7 سبتمبر 1967 لكن لن تنتهي دلالات مهمة جاءت في سياق الوصية الوثيقة! ولن تكتمل أبعاد الصورة وفهم ما جري في الأيام الأخيرة للمشير عامر خاصة بعد تحديد إقامته واعتقاله إلا بالنبش والتقليب في أوراق مهمة واعترافات خطيرة لأشخاص عاشوا بالقرب من عبدالحكيم وكانوا شهودا علي دور مهم وخطير قام به الاستاذ محمد حسنين هيكل في أزمة الرئيس والمشير! ففي حديث الرئيس جمال عبدالناصر أمام اللجنة التنفيذية العليا للاتحاد الاشتراكي العربي جلسة 3 أغسطس 1967 اعترف بأن المشير عامر بعد أن سافر غضبان إلي المنيا اتصل بهيكل وأبلغه استنكاره التام لجميع تصرفاته! يقصد تصرفات عبدالناصر بالطبع. وفي مذكرات الدكتور ثروت عكاشة روي وقائع تلك الأيام وكما سمعها عكاشة من عبدالناصر الذي قال له: وعند الساعة الثالثة اتصل بي حسنين هيكل وأخبرني بأن المشير قد اتصل به وأنه يرغب في أن يلتقي وإياه في بيتي بعد قليل! وأخبر عبدالناصر الدكتور ثروت عكاشة بأن هيكل حضر جانبا كبيرا مما دار بين الرئيس والمشير من حوارات ومناقشات. اللافت للانتباه أن الأستاذ هيكل في كتابه الوثائقي الانفجار روي بالتفصيل المناقشات التي دارت بين الرئيس والمشير في حضوره. والأغرب - حسب رواية هيكل - أن عبدالناصر طلب منه إبداء رأيه فيما سمعه من مناقشات وهنا يقول هيكل: ويبدو أن جمال عبدالناصر لم يعجبه ما قلت ولم يستطع أن يخفي مشاعره فقال لي علي الفور بضيق ظاهر: إنك خذلتني!! وكان تعليقي أن خذلاني له في هذا الموقف مشكلة نستطيع أن نبحثها فيما بعد! ولن تكتمل تلك الصورة إلا بإعادة رواية السيدة برلنتي عبدالحميد الزوجة الثانية للمشير، ومن أهم ما قالته إن المشير كان يقاوم كل الإغراءات وفشلت كل محاولات إقناعه بالعودة إلي القاهرة وفي النهاية أرسل له جمال عبدالناصر محمد حسنين هيكل فعاد به إلي القاهرة. لكن الأخطر هو قول السيدة برلنتي: إن عبدالناصر حاصر المشير أولا بالمودة العائلية فأرسل لزيارته زوجته وأولاده وكلمه في التليفون معاتبا، وقائلا إنه أرسل أبناءه، ولو كنت تريد أن آتي بنفسي لترجع معي فسوف آتي إليك! وواصل عبدالناصر كلامه في التليفون قائلا للمشير: حابعت لك هيكل يمثلني وأرجو انك ما تكسفنيش المرة دي! وفعلا جاء هيكل فشكا له المشير من أن جمال يريد أن يحول كل من حوله إلي طراطير! وتقول برلنتي:إن أمين حسين عامر - ابن شقيق المشير - أبلغها بأن الوحيد الذي كان مسموحا له بزيارة المشير هو هيكل. وتضيف: إن القوة التي جاءت للقبض علي المشير في تلك الليلة عثروا علي مذكرات المشير عن أسرار حرب يونيو 1967، ولم يظهر لهذه المذكرات أثر بعد ذلك، كما عثروا علي شريط مسجل عليه كل ما دار قبل وأثناء حرب يونيو! أما كيف ذهبت مذكرات المشير عامر إلي الأستاذ هيكل فتلك حكاية أخري فيها ما فيها من تفاصيل وأسرار!