عرف الثوار الطريق إلي المستقبل والحرية, ساروا فيه منذ الخامس والعشرين من يناير وحتي الآن بخطي واثقة, وكأنهم سلكوا هذا الطريق من قبل, وعرفوا دروبه ومسالكه, وحفظوها عن ظهر قلب, واستوعبوا في وجدانهم وقلوبهم وعقولهم كافة مطالب الحركة الوطنية المصرية. خاصة في العقد الأول من القرن الحادي والعشرين, تلك المطالب التي تتركز حول الديمقراطية والحرية وتداول السلطة, وتغيير الأسس والركائز التي تؤطر حقل الممارسة السياسية في مصر والتي تتركز بشكل واضج لا لبس فيه حول الاستبداد والفساد. استلهم الثوار كافة المطالب الفئوية لقطاعات من الشعب مختلفة, من العمال والموظفين والمعلمين والمهنيين والاحتجاجات والاعتصامات الجزئية, التي شهدتها الارصفة والشوارع في القاهرة والمحلة الكبري وغيرها من الأماكن والمدن المصرية, تلك الاحتجاجات, التي ربما اعتقد أصحابها, في لحظة يأس بأن صرخاتهم ذهبت مع الريح, لأنهم لم يكونوا يدركون كغيرهم أن مطالبهم المشروعة والمتواضعة في العيش الكريم والحرية والكرامة قد وجدت طريقها إلي عقل ووجدان هؤلاء الثوار, وربما شكلت هذه المطالبات الاقتصادية والسياسية عبر هذه السنوات ومن خلال تراكمها وتجاهل النظام لها, خلفية المشهد الثوري الراهن والنواة الي أطلقت شرارة الغضب. عرف الثوار كيف ينتقلون من مرحلة إلي أخري, من مرحلة التنظيم والتعبئة والحشد الي مرحلة الفعل والتنفيذ, من مرحلة صياغة المطالب والشعارات إلي مرحلة الإعلام والترويج لها ومخاطبة الرأي العام ووسائل الإعلام, من مرحلة الفراغ الأمني إلي مرحلة الدفاع الذاتي وتشكيل لجان الحماية والأمن. زاوج الثوار بين الإبقاء علي المواجهة وبين التفاوض, حول مطالبهم والحوار حولها, ويبدو أنهم يفاوضون حتي الآن بطريقة تتفوق علي أسلوب ومنهج المفاوض العربي, الذي يفترض أن تتوفر لديه الخبرة الدبلوماسية والاستشارات النظرية من قبل مستشاريه, حيث يتمسكون حتي الآن بمطلب الحد الأقصي لكي يدفعوا إلي بلورة وصياغة وتجسيد المطالب الأخري في حيز التنفيذ والواقع, وضمان عدم الارتداد عنها واستمرار المواجهة كأداة ضغط قائمة ومستمرة لدفع المطالب المشروعة إلي الأمام. استلهم الثوار روح الحضارة المصرية وعمق التاريخ المصري, حيث تميزت الثورة بالطابع السلمي في مواجهة العنف الذي ووجهت به, ورفض التدخل الأجنبي حتي اللفظي منه, والتنظيم الحضاري الذي أعاد الي الوعي والوجدان المصري قيم التضامن والتكافل والمساواة, وهي تلك القيم التي اعتقدنا أنها في الطريق الي التفكك لتحل محلها قيم الأنانية والفردية والتسلط والمصالح الذاتية. لقد استحضرت ثورتهم ومطالبهم الشعب المصري كفاعل سياسي من طراز فريد, وأخرجته من غياهب الظلمات التي أدخلته فيها سياسات الاستبداد والفساد, حيث لم يكن لهذه السياسات من هدف سوي الاحتفاظ بالشعب المصري غائبا ومغيبا محاطا بسياج الفقر والخوف والقمع, ومن ثم فإن الثورة المصرية المدنية الديمقراطية تستمد خصوصيتها وتفردها عن الثورات الأخري فهي تعتمد علي مختلف أطياف وفئات الشعب وخرجت من عمق تاريخ هذا الوطن واستلهمت أنبل تقاليده الحضارية والثقافية. وإذا كانت ثورات التحرر الوطني خلال القرن العشرين قد استهدفت تحرير الإرادة الوطنية من الاستعمار والاحتلال الأجنبي, فإن الثورة الديمقراطية في مصر تستهدف تحرير المواطن وتحرير ارادته من التسلط والخوف, وتحويل المواطنة من مجرد شعار ومبدأ من المباديء الدستورية, إلي واقع سياسي واقتصادي وقانوني ملموس, لا يختلف حول مدلوله أحد, وتنظيم وتشريع كافة الضمانات والآليات التي تؤكد ذلك. لقد كشف سير الأحداث والوقائع خلال الثورة عن عمق الفارق الحضاري والسياسي والعقلي بين الثوار وبين بعض خصومهم إن لم يكن جميعهم, كانت وقائع الأربعاء الأسود2 فبراير عام 2011 فارقة, في موقع الثوار مقارنة بمواقع خصومهم. حاول بعض خصوم الثورة في ذلك اليوم مواجهة الثوار في ميدان التحرير بالخيول والجمال, وفي وضح النهار, وأمام كاميرات مختلف الفضائيات, ودافع الثوار عن أنفسهم وعن الميدان الذي اعتصموا فيه طوال يومي الأربعاء والخميس, وتمكنوا من البقاء والسيطرة علي ميدان التحرير عبر تنظيم أنفسهم في مواجهة هذه الاعتداءات. لنا أن نتصور نمط التفكير والعقلية التي وقفت وخططت لمثل هذه الاعتداءات, فهو نمط للتفكير والتدبر يعود إلي عصر المماليك منذ ما يفوق القرنين, عندما أبلغ مراد بك أحد أمراء المماليك بنبأ الحملة الفرنسية, قال لمبلغيه اتركوهم فسوف ندهسهم تحت سنابك الخيل وكان مراد بك في غيبوبة تامة عما جري في أوروبا أنذاك من تنوير ونهضة واختراعات وتطوير لفنون القتال واستحداث أسلحة جديدة كان من بينها البندقية والمدفع, وذهب مراد بك وغيره من أمراء المماليك ضحية تخلفهم وجهلهم بالتطور الحاصل في العالم, ولم تصمد أسلحتهم البدائية في الميدان ولاذوا بالفرار, ودافع الشعب بكل قواه عن مصر في مختلف الأحياء, وشكل قيادة شعبية من المشايخ والعلماء والتجار للوقوف ضد الحملة الفرنسية. وكما لو كان التاريخ يعيد نفسه ساخرا هذه المرة, فأنصار الخيل والليل والبيداء والإبل, لايعرفون شيئا عن عالم الانترنت وثورة الاتصالات ومواقع التواصل الاجتماعي, علي هذه الشبكة العنكبوتية, ولا يعلمون أن إحدي أدوات الثورة ومصادرها كانت تلك التقنيات الحديثة للتواصل والتنظيم والتعبئة وأن هذا الشباب الثوري قد أتقن استثمار واستخدام هذه المنتجات العصرية بديلا لضعف البني الحزبية والقيادية طوال هذه العقود. وجد الثوار في هذه التقنيات أساليب أقل تكلفة وأبعد عن السيطرة والهيمنة التي تفرضها دوائر النظام, وتكفل لهم حرية الحركة والأمان, وتوفر عليهم مشقة الانتقال والتواصل وجها لوجه, كما كان عليه الحال إبان الثورات والانتفاضات الأخري في مصر والعالم. تمثل الفارق بين الثوار وبين خصوصهم في وقوف الثوار علي آخر ما أنتجه العصر من أساليب وتقنيات في الاتصال والتواصل, ومن ثم دخلت ثورتهم في روح وقلب العصر ليس تقنيا فحسب بل وسياسيا كذلك, فالعصر كما هو عصر الانترنت هو كذلك عصر الديمقراطية وحقوق الإنسان. في حين أن هؤلاء الخصوم يعودون بالتاريخ إلي الوراء إلي عصر الخيل والإبل, وكأن العالم قد توقف عند هذه الوسائل البدائية, والتي ترتبط بالصحراء والقبائل وحروب داحس والغبراء وعنترة بن شداد وأمراء المماليك. وبصرف النظر عمن كان هؤلاء القادمون من نهايات العصور الوسطي, وتبرؤ مختلف الدوائر الرسمية الحكومية والحزبية منهم وإنكار أية صلات بمثل هذه الجماعات فإن موقفهم ونمط تفكيرهم لاينفصل بحال عن سياق الممارسة السياسية المعهودة في دوائر النظام والمعروفة للرأي العام في مصر وخارج مصر, تلك الممارسات التي كادت ان تضعنا خارج التاريخ, بل وخارج دائرة التحضر والمدنية, في الوقت الذي وضعنا فيه الثوار في قلب وروح العصر والمبادئ الإنسانية والسياسية التي تمثل محتواه ومضمونه وشتان ما بين الأمرين. امتلك الثوار زمام المبادأة منذ البداية, لم تستطع أجهزة الأمن والاستخبارات التنبؤ بوقوع العاصفة, استخدمت هذه الاجهزة علي كثرتها وتسليحها وامكاناتها قياسا بسيطا وأحاديا, مضمونه ان عدد المتظاهرين ونوعية المظاهرات لن تخرج عن سابقاتها, وأن الأمور سوف تكون تحت السيطرة, تجاهلت هذه الاجهزة أو لم تكن تعرف قانون التراكم والطفرات النوعية التي تتشكل علي مدار السنين والزمن من واقعات صغيرة وجزئية حتي تفضي إلي نقلة نوعية تدفع بالأمور إلي اللاعودة وليس بمقدور أحد أن يعيد المارد إلي القمقم, كان ظاهر الاشياء لاينبئ بمحتواها وباطنها, علي السطح كانت المؤشرات تؤكد السير في ذات الاتجاه وذات السياسات, بينما نواة الغليان والثورة كانت كامنة في انتظار اللحظة المناسبة. ليس بمقدور أحد التنبؤ بما سوف تؤول إليه الأمور ولكن بمقدور أي منصف أن يقول إن التحول والتغير سوف يشق مجراه, وأن مصر لن تعود القهقري إلي الوراء, وأن شعبها دخل التاريخ المصري والعربي بل والعالمي بوعيه وحكمته, بل هو يصنع تاريخا جديدا يعلو فيه صوت الضمير والمواطن والشعب. المزيد من مقالات د. عبد العليم محمد