بغض النظر عن كل ما سوف تنتهي إليه الأحدث الساخنة التي تعيشها مصرنا الحبيبة الآن فإننا مقدمون علي مرحلة وطنية جديدة تراجع فيها كل الحسابات السابقة, ويعاد تقييم كل الأداء السلبي الذي أوصلنا إلي ما وصلنا إليه. , والذي ظل كثيرون ينكرونه ويرفضون الإنصات إليه, لكن ما هو أهم من هذه المراجعات هو الدروس التي يجب أن نخرج بها من أجل التأسيس لعهد جديد يجب أن يرتكز علي عقد اجتماعي سياسي جديد يكون حكما وحاكما للعلاقة بين الحاكمين والمحكومين, عقد يمكن المحكومين من الاختيار الحر لمن يحكمونهم دون أي إكراه أو تزوير لإرادتهم التي يجب أن تبقي حرة عزيزة وكريمة, لأن هذه الإرادة الحرة هي الضمان الأهم للشرعية والاستقرار معا. أن هذا العقد الاجتماعي السياسي يجب أن يكون أهم ما يشغل بال الحكومة الجديدة وهي تتلمس طريقها, لأنه سيكون بمثابة البوصلة التي تسترشد بها الحكومة طريقها نحو الحكم الرشيد الذي تؤكد التجربة التي نعيشها الآن أنه, ولكي يكون حكما رشيدا يجب أن يرتكز علي مبادئ العدل والحرية أولا واستهداف تحقيق العزة والكرامة والاستقلال الوطني ثانيا; فالعدل الذي يحقق الحكم الرشيد هو العدل الكامل, العدل القانوني, والعدل الاقتصادي, والعدل الاجتماعي, ثم, وهذا هو الأهم, العدل السياسي. وإذا كان العدل القانوني يعني أن يكون القانون فوق الجميع, وأن يكون عاما ومجردا ولا يعرف المحاباة ولا يقر الاستثناءات أو التجاوزات, وإذا كان العدل الاقتصادي يعني التوزيع العادل للثروة الوطنية والقضاء علي كل مظاهر الاستغلال, وإذا كان العدل الاجتماعي يعني القضاء علي التفاوت الطبقي, وعدم التمييز بين المكونات الاجتماعية للوطن علي أي ديني أو طائفي أو طبقي أو عائلي, وتأمين الحقوق الاجتماعية للأفراد وللمكونات الاجتماعية للوطن, فإن العدل السياسي هو الحق العادل لكل المواطنين في الحكم والسلطة. فالحكم والسلطة يجب ألا يكونا حكرا علي أحد سواء كان حزبا أو عائلة أو فردا, ولكن يجب تمكين كل المواطنين من حقهم العادل في السلطة والحكم من خلال تمكينهم من المشاركة في العملية السياسية بكل مكوناتها ومراحلها, وضمان التداول السلمي للسلطة علي أساس من مبادئ الحكم الديمقراطي والمساواة السياسية بين كافة المواطنين. والحرية المطلوبة هي الحرية الكاملة أيضا للمواطنين وللوطن, حرية المواطنين تتحقق من خلال العمل الفعلي والكامل لمبدأ المواطنة المتساوية لكل المواطنين دون أي تمييز سياسي أو طبقي أو ديني أو طائفي أو عرقي, وأن يكون إسناد الوظائف علي أساس الكفاءة والمساواة, والمساواة التي نعنيها هي المساواة القائمة علي تكافؤ الفرص, وألا يكون إسناد الوظائف علي أساس المحاباة والولاءات الفرعية, وبالذات الولاءات السياسية الحزبية الضيقة التي أحدثت في السنوات الماضية انشقاقات حادة وكئيبة, وتشويه في معني الولاء, الذي لم يعد ولاء للوطن بقدر ما كان ولاء للحزب أو للأشخاص بكل ما ترتب علي هذا من إساءات لمعني الوطنية, والولاء للوطن الذي يجب أن يفوق كل ولاء. أما حرية الوطن فهو الشق الثاني لمعني الحرية, فالوطن يجب أن يكون حرا عزيزا مستقلا, وأن يتمتع بالإرادة الحرة, وأن يكون قراره من هذه الإرادة, دون ضغوط أو إملاءات خارجية أيا ما كان مصدرها, وهنا تلتقي هذه الحرية مع أهداف تحقيق الاستقلال الوطني, والعزة والكرامة الوطنية. الإعلاء من شأن هذه المبادئ والأهداف هو أول وأهم ما يجب أن يشغل بال واهتمامات الحكومة الجديدة التي يأتي تشكيلها في ظروف شديدة الصعوبة والحساسية, وهي الظروف التي تفرض علي هذه الحكومة أن تكون حكومة كل الشعب بكل قواه وتياراته السياسية وليس مجرد حكومة حزب واحد أيا كان هذا الحزب. إن الأحداث الأخيرة التي مازالت أصداؤها تتردد والتي مازالت تجربتها لم تكتمل بعد تجعل من دعوة تشكيل حكومة وحدة وطنية مخرجا آمنا من الأزمة الراهنة, وأن تكون هذه الحكومة خطوة أو بداية أولي للتأسيس لوفاق وطني وشراكة وطنية حقيقية تبدأ منها خوض مشوار الإصلاح الوطني الطويل والشامل; السياسي والاقتصادي والاجتماعي والثقافي والتعليمي. إن تشكيل مثل هذه الحكومة يفتح أبواب مصالحة وطنية صادقة النوايا عمادها الوحدة الوطنية بين الشعب بكافة قواه وتياراته وأحزابه, وبين الجيش باعتباره عماد قوة الوطن وضمان هيبته وعزته, وبها يبدأ مشوار الإصلاح وتأسيس العقد الاجتماعي السياسي الجديد, والاتجاه إلي صوغ دستور ديمقراطي أضحي أملا ومطلبا وطريقا للنهضة والعزة الوطنية شرط أن يرتكز هذا الدستور علي المبادئ الأربعة التالية: الأول: أن تكون السيادة للشعب والحاكمية للشعب, وأن يكون الشعب هو مصدر السلطات يفوضها بإرادته ويستبدلها بإرادته. الثاني: المواطنة المتساوية بين المواطنين في كافة الحقوق والواجبات دون تمييز. هذه المواطنة تتحقق من خلال تمتع كل الأفراد بحقوق والتزامات مدنية وقانونية متساوية, ومن خلال توفير ضمانات وإمكانيات ممارسة كل مواطن لحق المشاركة السياسية الفعالة, وتولي المناصب العامة دون تمييز, وكذلك مجمل الحقوق الاجتماعية والاقتصادية, حتي يتمكن المواطن من ممارسة مواطنته, وحتي تكون للمواطنين معناها الذي يتحقق بموجبه انتماء المواطن وولاؤه لوطنه, وتفاعله الإيجابي مع المواطنين الآخرين نتيجة امتلاكه القدرة الفعالة علي المشاركة الفعلية, والقوة بالإنصاف. فالمواطنة حق وأداء, فإذا لم يتوافر الحق لن يتحقق الأداء. الثالث: سيطرة أحكام القانون والمساواة الكاملة أمامه دون تمييز, أي مرجعية القانون وسيادته علي الجميع من دون استثناء انطلاقا من حقوق الإنسان بشكل أساسي وبالذات حق المواطنة المتساوية. والقانون يجب أن يكون الإطار الذي ينظم العلاقة بين المواطنين فيما بينهم, وبينهم وبين الدولة ومؤسساتها من جهة أخري, كما ينظم العلاقة بين المؤسسات بما يؤمن القواعد الحقوقية للعدالة والمساواة, والفصل بين السلطات الثلاث: التنفيذية والتشريعية والقضائية, ومنع أي تعد من السلطة التنفيذية علي السلطتين التشريعية والقضائية, وتمكين السلطة التشريعية من مراقبة ومحاسبة السلطة التنفيذية, وإعلاء شأن القضاء وتأمين حريته واستقلاليته وحياديته الكاملة. الرابع: التداول السلمي والديمقراطي للسلطة بين القوي السياسية. فهذا التداول هو الحد الفاصل بين كون السلطة ديمقراطية أم احتكارية واستبدادية, وهذا التداول يتحقق من خلال الحكم الديمقراطي والانتخابات الديمقراطية النزيهة وغير المزورة. هذه المبادئ الأربعة هي الكفيلة بجعل الدستور ديمقراطيا, لكن الدستور ليس وحده الضمانة الكافية لتحقيق الإصلاح والحكم الرشيد المأمول, فإلي جانب الدستور ينبغي تأمين الحريات والحقوق السياسية والاجتماعية والاقتصادية, وخاصة حرية الرأي والتعبير, وتأسيس الأحزاب, لكن الأهم هو تأمين حرية وعزة وكرامة الإنسان, وأن يشعر المواطن أنه عزيز وكريم في وطنه, يتمتع بالفرص المتكافئة دون تمييز, وأن تسود الحرية العادلة والمساواة العادلة, وأن يدرك أن الاحتكار باتت له نهاية; احتكار السلطة, واحتكار الثروة, واحتكار الفرص, واحتكار المواطنة. من هنا نستطيع أن نبدأ وأن نصحح وأن نبني وطنا كريما, وأن نمتلك طريقا آمنا للخروج من الأزمة الراهنة. المزيد من مقالات د. محمد السعيد إدريس