الوضع مأساوي, فالتقارير العالمية المتتالية التي تتحدث عن حقيقة الوضع الغذائي الذي يحياه العالم اليوم بالأرقام تؤكد أننا علي مشارف أزمة عالمية قاسية ستطول الجميع. إذ ستنال من دول العالم الأول بعد أن تجهز علي الدول النامية.فقد نشرت صحيفة فايننشال تايمز البريطانية تقريرا أمريكيا يحذر من انخفاض حاد في الإمدادات الغذائية خلال السنوات المقبلة بعد التغيرات المناخية الشديدة التي شهدها العالم في الأعوام العشرة السابقة من ارتفاع في درجات الحرارة وفيضانات وحرائق أهلكت معها المحاصيل الغذائية ولا سيما الزيوت والحبوب.ويشير جدول الأرقام القياسية لأسعار الأغذية لدي منظمة الأممالمتحدة للأغذية والزراعة الفاو إلي ارتفاع أسعار السلع الغذائية العالمية بمقدار12 % خلال الفترة ما بين2005-2006, وبنسبة24 % لعام2007, وبما يقرب من50 % حتي منتصف عام2008 ثم قفزت أسعار السلع الغذائية الرئيسية إلي قرابة الثلثين في العامين الماضيين, وسجل الأرز والذرة والقمح مستويات قياسية, مما أدي إلي اندلاع أعمال شغب واحتجاجات في الكثير من الدول النامية التي ينفق فيها السكان ما يزيد عن نصف دخلهم علي الغذاء. في الوقت ذاته, يشير تقرير للفاو إلي انقراض ما يزيد عن75 % من المحاصيل الغذائية خلال القرنين الماضيين, وإلي احتمال قفز هذا المعدل إلي97 % بحلول2055, بينما سترتفع احتياجات العالم من الغذاء حينها إلي أكثر من70 %. ومن المرجح أن تظل الأسعار علي ارتفاعها عدة سنوات وسط غياب ملامح انفراجة قريبة للاقتصاد العالمي, خاصة بعد الأزمة العالمية الحالية التي قفزت بأعداد فقراء العالم إلي أكثر من مليار نسمة, بينما تسببت في معاناة أكثر من5,2 مليار آخرين من سوء التغذية, وفقا للتقديرات الاخيرة للأمم المتحدة. ولعل أكثر الشعوب عرضة للتأثر بهذا الخطر هي الشعوب الافريقية بالتأكيد التي تعاني من طقس جاف في معظم أوقات العام ونقص في مياه الأمطار وارتفاع معدلات الفقر وتدهور البني التحتية.لكن المركز الأول في التقريرالذي أعدته منظمة مابل كروفت العاملة مع برنامج الغذاء العالمي التابع للأمم المتحدة في مجال تطوير تصنيف دول العالم غذائيا كان من نصيب أفغانستان علي اعتبار أنها الدولة الأكثر عرضة لنقص الغذاء في العالم, بينما جاءت المراكز التسعة الباقية في قائمة الدول العشر الأكثرعرضة لنقص الطعام والمجاعة لدول أفريقية, وشملت الكونجو وبوروندي وإريتريا والسودان وإثيوبيا وأنجولا وليبيريا وتشاد وزيمبابوي. من جهة أخري, اعتبر التقرير أن فنلندا هي الأكثر حظا من حيث توافر الأمن الغذائي- بحسب تصنيف المنظمة نفسها- فيما حلت الولاياتالمتحدة في المركز.158 ولكن ما هي الأسباب التي قد تكون أسرعت بالأمن الغذائي إلي الهاوية وأنذرت العالم بثورة جياع هائلة, محطمة معها مفاهيم الاكتفاء الذاتي؟من العبث أن يلقي اللوم وحده علي التغير المناخي والاحتباس الحراري الذي رفع حرارة الأرض بشكل ملحوظ في الاعوام الاخيرة وما نتج عنه من فيضانات عارمة, فالأسباب عديدة وتتباين ما بين الزيادة السكانية الهائلة التي سيفوق تعدادها التسعة مليارات نسمة بحلول2050 في وقت يتراجع فيه المخزون العالمي من الغذاء بنسبة4,3 % سنويا منذ عام1995 والأزمة العالمية للمياه التي تعد أحد الاسباب القوية للأزمة.فالزراعة تعد أكبر مستهلك للمياه باستئثارها بحوالي70 % من إجمالي كميات مياه الضخ, في الوقت الذي تواجه فيه واحدة من كل خمسة بلدان نامية نقصا في المياه منذ عام2003 بسبب الشح في مصادر المياه. أما أكثر الأسباب المثيرة للجدل فهو ما يعرف بالوقود الحيوي الذي يعتمد إنتاجه في الأساس علي تحويل الكتلة الحيوية الممثلة في صورة حبوب ومحاصيل زراعية أو زيوت وشحوم حيوانية إلي إيثانول كحولي أو ديزل عضوي ورغم حداثة عهد العمل بهذا النوع من الوقود, فإنه لقي شعبية كبيرة بين الدول الصناعية التي اتجهت إلي زراعة أنواع معينة من النباتات خصيصا لاستخدامها كوقود, مثل الولاياتالمتحدة التي قفز الإنتاج فيها مثلا من53 مليون لتر في عام2003 إلي280 مليون لتر في عام2005, ومثل البرازيل التي استعاضت به تماما عن استيراد البترول.ويبلغ معدل النمو في صناعة الوقود الحيوي نحو15% سنويا, كما يتوقع أن يزداد الطلب العالمي عليه بنسبة30% خلال الفترة المقبلة, وهو ما دفع بالمعهد الدولي لبحوث السياسات الغذائية بالولاياتالمتحدة إلي توقع ارتفاع أسعار الذرة في العالم بنسبة71 % في السنوات القليلة المقبلة, بعدما رفع الاسعار بقيمة30 % في عام.2008 وعلي الرغم من كثرة الإحصائيات والأرقام الصادمة, فإن التحرك العالمي لاحتواء الأزمة ليس علي المستوي المطلوب حتي الآن, فهو لا يعدو أن يكون مجرد محاولات ومؤتمرات هزيلة لا تخرج بقرارات ملزمة للدول المشاركة, فيما اتجه البعض إلي وصف نتائج هذه الاجتماعات بالفشل.ففي عام2005 عقدت قمة مجموعة الثماني بأسكتلندا وطلبت من البنك الدولي إعداد خطة تحدد نطاق الاستثمارات المطلوبة للبلدان للتكيف مع تغير المناخ وتسريع وتيرة الانتقال إلي اقتصاد نظيف, ودعت منظمة الفاو في عام2007 لمؤتمر رفيع المستوي بشأن الأمن الغذائي, وأطلقت في ديسمبر من العام نفسه مبادرتها للتصدي لارتفاع أسعار المواد الغذائية بهدف مساعدة أشد البلاد فقرا علي زيادة إنتاجها من الغذاء.