تابعت ببالغ الاهتمام مقال د.عبد المنعم سعيد المنشور بجريدة الأهرام يوم السبت2010/11/13بعنوان أقاليم التنمية الدفاعية. وقد حرص من خلاله علي تأكيد أهمية الحراك السكاني والتوجه الاستثماري صوب الأقاليم الحدودية من منظور أمني يحقق التوازن الاستراتيجي لمصر. مع جيرانها, وينهض في الوقت نفسه بالمستويات المعيشية لقاطني هذه الأقاليم ارتكازا علي ما تنعم به من ثروات طبيعية وفرص جاذبة للاستثمار. وقد أسعدني قوله بحق إن إعادة تشكيل الكتلة السكانية يتطلب نقلة نوعية من خلال التعليم وتنمية المهارات البشرية حتي يصبح للبعد الكمي للسكان القوة الفاعلة المنشودة في تحقيق الأمن القومي, وهو ما يضع التنمية البشرية في مقدمة الأولويات القومية, وكذلك ما ألمح به من أن القرارات المحلية لن يصير لها قيمة دون قرارات قومية تضع كل ما هو محلي في إطار شامل وهي عبارة بليغة تحوي في طياتها رسالة مهمة مفادها التسامي في فكرنا الاستراتيجي والاقتصادي لما هو أبعد من النظرة الضيقة المحلية إلي آفاق أوسع وأكثر شمولا تضع الصالح القومي فوق كل اعتبار. وإنني إذ أشاطره الرأي فيما ورد بمقاله من توجه عام نحو تنمية ما اسماه بأقاليم التنمية الدفاعية, أود أن أوضح بعض الملاحظات والإيضاحات التالية: أولا:أن ثمة قناعة تامة لدي متخذي القرار بأهمية التنمية الشاملة كقوة ناعمة لها تأثيراتها في حسابات موازين القوي الإقليمية, وكما أن هناك إدراكا كاملا بمخاطر النمو السكاني وتركزه الشديد في الدلتا والشريط الضيق لوادي النيل, ومن الدعوة إلي زيادة المعمور المصري, والتوجه نحو تعمير المناطق الصحراوية, والحق أن القيادة السياسية قد أكدت في أكثر من مناسبة أهمية هذا التوجه الاستراتيجي, منها ما ورد في كلمة السيد رئيس الجمهورية أمام المؤتمر القومي الثاني للسكان في2008/6/9 بقوله: لنعيد رسم الخريطة السكانية.. ولنحقق توزيعا جغرافيا أفضل للسكان علي محافظات الجمهورية. والواقع أن جميع الدراسات التخطيطية التي أجريت في السنوات الماضية طرحت إشكالية الاستيعاب المكاني للأعداد السكانية المتزايدة في ظل محدودية المعمور المصري الحالي, ففي خلال الثلاثين سنة القادمة, من المتوقع زيادة السكان بنحو65 مليون نسمة, وهو ما يربو علي90% من التعداد السكاني الحالي, مما يثير إشكالية الاختلال بين النمو السكاني والحيز المكاني, ويطرح بالتالي مجموعة تساؤلات بشأن كيفية استيعاب هذه الزيادات السكانية علي مستوي المحافظات وأقاليم الجمهورية, وماهية الطاقات الاستيعابية لكل منها في ضوء مقوماتها الاقتصادية ومزاياها النسبية, وما يمكن توطينه من أنشطة اقتصادية جاذبة للسكان, ومدي توافر الامكانات والقدرات للمحافظات والامتدادات الصحراوية لامتصاص الزيادات السكانية المرتقبة. وحقيقة الأمر أن الإدراك الواعي بهذه الإشكالية تجلي في الرؤية الاستراتيجية للتنمية المكانية لمصر التي ارتكزت علي ثلاثة محاور, يتعلق أولها بإعادة تخطيط المدن الكبري والمراكز الحضرية القائمة, وثانيها, بتنمية وتعمير المناطق الجديدة والحدودية النائية( وهو ما يتفق مع موضوع المقال) وثالثها, إنشاء مجموعة من المحاور التنموية والمدن الجديدة بالمناطق الصحراوية كمراكز عمرانية جديدة وأقطاب للنمو في إطار السعي الدائم لإعادة تشكيل الخريطة السكانية لمصر( كما ما ورد بالمقال) ومن خلال هذه الرؤية التنموية المتكاملة, بزغت المدن الجديدة والمشروعات العملاقة, مثل مشروع شمال خليج السويس ومشروع موانئ الحاويات بشرق بورسعيد, ومشروع توشكي وشرق العوينات للتنمية الزراعية المتكاملة, وكل ذلك في إطار استهداف إعادة نشر العمران وزيادة نسبة المعمور المصري من6% إلي20% خلال العقود الثلاثة القادمة. ثانيا: ان ما طرح بالمقال من تصور لأربعة أقاليم دفاعية ممثلة تحديدا في إقليم سيناء والقناة, وإقليم البحر الأحمر, وإقليم مطروح وإقليم جنوبي يضم مثلثا تنمويا فريدا( توشكي/ شرق العوينات/ درب الأربعين) قد يحتاج إلي مراجعة حيث أن المفهوم العلمي للإقليم له محدداته الاقتصادية والمناخية والتخطيطية, ولا تتوافق المعايير المحددة لتعريف الإقليم, مع التصور المطروح بالمقال, وهو يمثل إجمالا المناطق الحدودية لمصر, وثمة خلط واضح بين المحافظة بحدودها الإدارية وبين مفهوم الإقليم, وهو أوسع وأشمل من نطاق المحافظة, فإقليم البحر الأحمر المقترح هو في واقع الأمر محافظة البحر الأحمر, وإقليم مطروح هو محافظة مطروح, كما أن منطقة المثلث( توشكي/ شرق العوينات/ درب الأربعين) تشكل جزءا من إقليم أرحب هو إقليم وسط الصعيد أو ما يسمي بإقليمأسيوط والذي يضم أسيوطوالوادي الجديد. وبالتالي, فإن التصور الإقليمي الوارد بالمقال يغفل أن مصر مقسمة فعليا إلي سبعة أقاليم اقتصادية طبقا لقانون التخطيط العمراني السابق(3 لسنة1982), والذي تم دمجه ضمن قانون البناء الموحد رقم119 الصادر عام2008, ومن ثم لا يأخذ بعين الاعتبار أن الاقاليم المقترحة تقع بالفعل في نطاق الأقاليم الاقتصادية للجمهورية والتي أجري لكل منها مخطط إستراتيجي شامل يراعي الأبعاد المكانية والعلاقات المتداخلة والمتشابكة بين المحافظات الواقعة في نطاق كل إقليم, منها إقليم سيناء والقناة, والذي يضم محافظتي سيناء ومحافظات القناة الثلاث( وهو ما يقترحه المقال) ومنها إقليم الإسكندرية, والذي يغطي محافظات الإسكندرية ومطروح والبحيرة في ظل العلاقات الارتباطية بين المحافظات الثلاث ولا شك أن الحاجة ماسة باستمرار إلي مراجعة وتعميق هذه الرؤي الاستراتيجية ومكوناتها في هذه الأقاليم. ثالثا: أن نجاح التنمية بالمناطق الصحراوية الحدودية يقتضي عدم التعامل معها كجزر منعزلة, ليس لضعف ركائزها الاقتصادية وإنما لإمكان تعزيز هذه الركائز وجعلها جاذبة للاستثمار والاستيطان السكاني ما لا يتأتي إلا من خلال الربط بينها وبين مناطق الاكتظاظ بوادي النيل والدلتا, أي الربط بين المناطق الحدودية شرقا وغربا وجنوبا( مناطق اللا معمور) والمعمور المصري وهو الأمر الذي راعته المخططات الإنمائية حيث يتم الربط شرقا بين القاهرة ومدن القناة من خلال محاور( القاهرةالسويس).( القاهرةالإسماعيلية),( القاهرة بورسعيد) مع امتداد هذه المحاور لتتصل بالطرق الرئيسية داخل سيناء وحتي حدودنا الشرقية, كما يتم الربط شرقا بين شمال وجنوب الصعيد وبالبحر الأحمر من خلال محاور التنمية( الكريمات الزعفرانة),( الشيخ فضل رأس غارب),( كوم أمبو برنيس),( أسوان شلاتين),( قنا سفاجا)( الغردقةالمنيا) وفي هذا الإطار تمتد هذه المحاور غربا لتربط وادي النيل بالصحراء الغربية, وأهمها محاور( أسيوط الخارجة),( أسوان توشكي شرق العوينات),( ديروط الفرافرة),( أسيوطالداخلة).. الخ. رابعا: أن مخططات التنمية في مصر تراعي ما هو أبعد من الإقليمية بأخذها البعد الدولي في الاعتبار فالطريق الساحلي الدولي يربط مصر شرقا وغربا بالدول المجاورة, والمخططات الإنمائية لمناطق شرق العريش ورفح شرقا ومركزي مطروح والسلوم غربا وما يجري من تطوير للمواني المصرية علي امتداد ساحل البحر المتوسط كل ذلك يعزز هذا الربط المنشود وبالمثل يدعم طريق أسوان وادي حلفا ومخططات تنمية توشكي ودرب الأربعين وشلالتينوما يجري تنفيذه من مشروعات تنموية بهذه المناطق والطرق الدولية الأخري المقترحة بالجنوب الجاري تنفيذها أو تخطيطها كل ذلك يدعم أيضا من خط الدفاع الأمني الاستراتيجي بالجنوب كما ورد بحق المقال. والواقع أن أحدث التقارير الشاملة والدراسة التخطيطية التي تم الانتهاء منها خلال العام الماضي والخاصة بمشروع ممر التنمية والتعمير وهي الفكرة التي سبق أن طرحها أد. فاروق الباز تعد بمثابة تتويج للمجهودات التخطيطية السابقة وتأتي مؤكدة للتوجيهات الاقتصادية والعمرانية سالفة الذكر. فهي ترتكز إلي عمود فقري تنموي بطول1200 كم بامتداد مصر يربطها شمالا بدول البحر المتوسط من خلال ميناء عالمي دولي( مقترح العلمين أو خليج السلوم) وجنوبا بالسودان من خلال طرق ربط متعددة ومنطقة تجارة حرة بأرقين, كما أن هذا المشروع يتضمن ثلاثة عشر محورا عرضيا تربط المدن الرئيسية والمراكز الحضرية في الوادي والدلتا بالمناطق الجديدة المزمع تنميتها بالصحراء الغربية. مع الاشارة إلي تكامل هذه المحاور العرضية مع نظيراتها الممتدة إلي الصحراء الشرقية وسيناء. وهذا المشروع القومي الكبير هو بحق أمل مصر في الألفية الثالثة, حيث تمر مساراته بمناطق الاستصلاح الزراعي ومناطق التنمية الصناعية والثروات التعدينية ومراكز التنمية السياحية, وتقع عليه وحوله المدن الجديدة ال44 المقترح إقامتها وهذا المشروع لا يحقق الربط فقط بين الوادي والدلتا ومناطق التنمية الجديدة علي امتداد المحور الطولي والمحاور العرضية وإنما اتسع نطاقه ليصبح مخططا استراتيجيا للصحراء الغربية بكاملها شاملا محاور الربط العريضة غرب ممر التنمية( محور الواحات البحرية واحة سيوة, محور أسيوط الفرافرة, محور الأقصر الخارجة, محور توشكي درب الأربعين)( الوارد بالمقال) وتبرز اهمية هذا المشروع القومي علي وجه الخصوص بالنظر إلي طاقته الاستيعابية من النشاطات الاقتصادية ولا يقوم علي مجرد الفكرة التقليدية لاستصلاح الأراضي, وبالتالي قدرته علي زيادة فرص العمالة واستيعاب السكان, حيث يقدر له استيعاب حوالي50% من الزيادة السكانية المتوقعة بمصر عام2050 والتي تربو علي65 مليون نسمة كما سبق الذكر. أن تنفيذ هذا المشروع الاستراتيجي الحيوي لا يعزز فقط من الأمن القومي لمصر, وإنما يتيح بشكل جذري حقيقي الظروف الاقتصادية والعمرانية الملائمة لإعادة توزيع الخريطة السكانية علي نحو يحقق طفرة نوعية معرفية بما يهيئه من سبيل لإقامة مشروعات عالية التقنية خاصة في مجالات الطاقة الجديدة والمتجددة ومن أساليب تقنية متقدمة في مجالات الاستزراع وتحلية مياه البحر والتصنيع, ومن مرئيات لاحداث تنمية بشرية واجتماعية مواكبة متقدمة في مجالات الاستزراع وتحلية مياه البحر والتصنيع ومن مرئيات لاحداث تنمية بشرية واجتماعية مواكبة للتنمية الاقتصادية والعمرانية. واني لأغتنم هذه الفرصة لأتقدم بوافر الشكر والتقدير لسيادتك لطرح هذا الموضوع الهام والذي يعكس حرص الصحافة الوطنية المستنيرة وكتابها المرموقين علي إثارة القضايا القومية ذات البعد الاستراتيجي التي تستوجب التفاف كافة المواطنين حولها بما يحقق أفاقا أرحب لطموحات التنمية والعمران في بلدنا العظيم.