أشرت في مقال أكتوبر2 الذي نشرته الأهرام في16 أكتوبر الماضي, إلي أن إسرائيل الآن تفرض تحديا كبيرا بالنسبة لمصر يتطلب اهتماما واستنفارا وتعبئة مماثلا لما حدث عام1973 وكان ذلك راجعا إلي رصد وتشريح العقل الإسرائيلي الراهن وما ألم به خلال السنوات الأخيرة إذ أصبحت إسرائيل أكثر بعدا عن الوصول إلي تسوية سلمية للصراع في الشرق الأوسط, وأكثر مراهنة علي استخدام اختلال توازن القوي لتنفيذ أهدافها وتحقيق مصالحها وتحدي القوي الإقليمية والدولية لدرجة دفعتها في بعض الأحيان إلي رفض مطالب وضغوط الولاياتالمتحدةالأمريكية. ومع وجود نزعات عدوانية لدي قادة إسرائيل, وغياب وضعف قوي السلام داخلها يصبح الخطر أكثر وضوحا مما يستدعي إعادة النظر في الواقع الإستراتيجي في المنطقة وكيفية التعامل معه. وقد وردت تعليقات عديدة من القراء حول هذا الموضوع انقسمت إلي أربعة اتجاهات رئيسية: الأول, تجاوب مع المقال ورأي ضرورة إعادة تدشين عملية التطوير والتنمية في مصر في مختلف المجالات حتي لو تطلب ذلك البدء من الصفر, متجاهلا بذلك كل النجاحات التي حققتها الدولة في السنوات الماضية, وغافلا عن أن ذلك يعني إهدار أموال هائلة أنفقتها الدولة في إطار عملية التنمية. والثاني, اعتبر أن المقال دعوة للانتباه والاهتمام بما يدور علي الجانب الشرقي من مصر وليس دعوة لليأس, معتبرا أن مصر قادرة علي مواجهة هذا التحدي مهما بلغت قوته. أما الثالث, فربط مواجهة هذا العنفوان الإسرائيلي بإجراء ما يمكن تسميته ب تغييرات في المشهد السياسي الداخلي, مؤكدا أن إعادة تنشيط روح أكتوبر لن تتم دون تهيئة مناخ الحرية والمساواة ومحاربة الفساد. بينما طرح الاتجاه الرابع سؤالا مهما مفاده: كيف يمكن أن تستعيد مصر قوتها للتعامل مع مثل هذا التحدي؟. وهنا نصل إلي مربط الفرس كما يقال, فلا يوجد ما يدرأ الأخطار قدر الحفاظ علي حالة من التوازن الإستراتيجي الشامل الذي يشكل رادعا لأطراف خارجية قد تغرها القوة من جانب, أو تدفعها الحماقة الأيديولوجية من جانب آخر. وبصراحة فإنه يمكن تعداد عدد من مظاهر الخطر الإسرائيلي من أول تلك الحالة من الفوضي التي تثيرها عند الحدود الشرقية المصرية برفضها لوقف الاستيطان ومن ثم دفع المنطقة كلها إلي صراع جديد لا يعرف أحد شكله, ولا يحدد أحد نطاقه, ولكن آثاره سوف تأتي إلي مصر بشكل أو آخر. وهناك بالطبع ما تسعي إليه إسرائيل من تفوق سواء في الأسلحة التقليدية أو أسلحة التدمير الشامل بكل أنواعها, وما يمكن أن يؤدي إليه الشعور بالتفوق إلي أحلام إمبراطورية تستعيد بها إسرائيل ما انكمشت به منذ حرب أكتوبر1973, وأخيرا فربما كان أكثر المخاطر حدة أن يجري التفوق في عناصر القوة الإسرائيلية في مجراه دون توازن كاف من عناصر قوة مقابلة علي الجانب المصري فيكون ذلك مغريا بسياسات وسلوكيات إزاء سيناء علي وجه الخصوص لا بد من ردعها مقدما من خلال إقامة توازن للقوة لا تخطئه عين في إسرائيل. ويصبح السؤال الملح هو كيف ترفع مصر من عناصر القوة لديها؟ لقد أثار هذا السؤال علي الدوام نقاشا عاما داخل مصر, وطرحت أفكار عديدة عن كيفية استعادة مصر لدورها وريادتها الإقليمية. وظهرت في هذا السياق فكرة ضرورة تبني المشروع الإقليمي الذي يمكن أن يجعل مصر الدولة الإقليمية الكبري في المنطقة, ويفرض علي أي ترتيبات أو تحولات رئيسية فيها أن تمر عبر بوابة القاهرة. واسترجع البعض فكرة المشروع القومي العربي الذي طرحته مصر في عهد الرئيس الراحل جمال عبد الناصر من أجل مواجهة الاستعمار والاحتلال الإسرائيلي للأراضي العربية, والذي دعا إلي تحقيق الوحدة بين الدول العربية من خلال طرح مشروع نهضوي يقاوم الاستعمار ويدعم استقلال القرار العربي. كما دعا البعض الآخر إلي استخدام ما يسمي ب القوة الناعمةSoftPower لاستعادة دور مصر الإقليمي, الذي يتمثل في امتلاك القدرة علي تغيير الأولويات لدي الطرف المقابل باستخدام أدوات غير عنيفة تحمل قيما معنوية أخلاقية تكون أكثر جاذبية لدي الأطراف الآخرين, مثل الأداة الثقافية والحضارية وغيرهما, أو بمعني أدق امتلاك ما يسميه البعض ب تقنية كسب العقول والقلوب. لكن القوة الصلبةHardPower مازالت تحظي بمكانة خاصة في عالمنا هذا, ويتأسس مفهوم القوة وفقا لهذه النوعية, علي وجود علاقة سلوكية بين طرفين يقوم في إطارها الطرف الأول, بالاستناد إلي القدرات والإمكانيات المتاحة له, بفرض تأثيرات معينة في الطرف الثاني تدفعه إلي سلوك الاتجاهات التي تحقق أهداف الأول أو علي الأقل تتماشي معها في فترة محددة أو ممتدة, وفي مجال واحد أو عدة مجالات. والقوة بهذا المعني تكتسب خصائص عديدة منها أنها أداة لتحقيق هدف معين, وليست هدفا في حد ذاته, وأنها ليست قيمة مطلقة بل نسبية حسب قدرات كل دولة, وأنها علاقة لا يشترط أن تكون بين طرفين فقط, خصوصا في ظل تشابك وتقاطع المصالح بين دول العالم المختلفة. وتتمثل العناصر التي تشكل أسس القوة في: الأرض والشعب والحكومة. بالنسبة لعنصر الأرض فينقسم إلي ثلاثة محددات: هي الموقع الجغرافي, والمساحة, والموارد الاقتصادية. وبالتطبيق علي مصر نجد أنها تحظي بموقع استراتيجي فريد من نوعه, إذ تمثل نقطة تلاق بين قارات العالم الثلاث: آسيا وأفريقيا وأوروبا, كما تطل علي مسطحات مائية ذات أهمية استراتيجية كبيرة, إذ يبلغ طول ساحلها علي البحر المتوسط995 كيلو مترا, وعلي البحر الأحمر1941 كيلو مترا. بينما تربط قناة السويس بين البحرين المتوسط والأحمر ويبلغ طولها نحو195 كيلو مترا وعرضها360 مترا في المتوسط. أما من ناحية المساحة فتبلغ حوالي1002000 كيلو متر مربع, حيث تنقسم مصر إلي أقاليم رئيسية ثلاثة هي: الوادي والدلتا اللذان تبلغ مساحتهما نحو40 ألف كيلو متر مربع بما يمثل نحو4% من مساحة الدولة, والصحراء الشرقية وتبلغ نحو280 ألف كيلو متر مربع وتمثل نحو28% من إجمالي المساحة, والصحراء الغربية وتصل إلي نحو680 ألف كيلو متر مربع وتمثل نحو68% من المساحة الكلية. أما شبه جزيرة سيناء فتصل مساحتها إلي نحو60 ألف كيلو متر مربع. وتبلغ المساحة المأهولة78990 كيلو مترا مربعا, بنسبة7.8% من إجمالي المساحة. أما بالنسبة للموارد الاقتصادية, فيتسم الاقتصاد الوطني المصري بأنه أحد أكثر اقتصادات المنطقة في تنوع القطاعات المشاركة فيه من زراعة وصناعة وسياحة وخدمات وغيرها. وقد وصل الناتج المحلي الإجمالي, وفقا لبيانات البنك الدولي, إلي188 مليارا و334 مليون دولار عام2009, بينما وصل نصيب الفرد من إجمالي الناتج المحلي إلي2269 دولارا في العام نفسه. وتبلغ القيمة المضافة لقطاع الزراعة في الناتج المحلي الإجمالي عام2009, وفقا لبيانات البنك الدولي,11%, في حين تبلغ في قطاع الصناعة35%, وفي قطاع الخدمات53%. وقد أنتجت السياسة الاقتصادية التي انتهجتها الحكومة في الفترة الأخيرة تداعيات إيجابية عديدة أهمها جذب مزيد من الاستثمارات الخارجية التي وصل حجمها في الفترة بين عام2005/2004 وعام2009/2008 إلي42.4 مليار دولار. كما تمكنت الدولة من تحقيق تنوع جغرافي في جذب الاستثمارات خاصة في محافظات الصعيد, التي ارتفعت نسبتها من الشركات المؤسسة من9.8% في عام2007/2006 إلي17% في عام2009/2008, كما شهدت مصر تأسيس نحو30 ألف شركة جديدة في الفترة من يوليو2004 حتي يونيو2009, بالإضافة إلي قيام حوالي6 آلاف شركة بتوسيع نشاطها خلال الفترة نفسها. أما العنصر الثاني من عناصر القوة فهو عدد السكان, الذي وصل في داخل مصر حتي أول يناير2010 إلي77 مليونا و701 ألف و561 نسمة. المهم في هذا العدد أن التوزيع العمري فيه يكشف عن حقيقة مهمة هي وصول شريحة الشباب إلي أعلي مستوي لها في الهرم السكاني بمصر, علي حساب شريحتي الأطفال والشيوخ. وقد بدأت هذه الظاهرة في التبلور منذ عام1995 ومن المتوقع أن تصل إلي ذروتها عام2045, وبالطبع فإن هذه الحقيقة يمكن أن تنتج تداعيات إيجابية وسلبية في آن واحد, لكن أهم ما يمكن أن تفرضه من تداعيات إيجابية هو انخفاض معدل الإعالة, وارتفاع عدد الأسر التي تحصل علي دخل. وبالطبع, فإن هذه الشريحة يمكن, في حالة توجيهها بشكل فعال, أن تسهم في عملية التنمية, وبالتالي تصبح أحد عناصر قوة الدولة حيث بلغت قوة العمل,24 مليونا و651 ألفا خلال عام2008, فيما يتمثل العنصر الثالث في الحكومة, حيث تتسم مصر بوجود نظام سياسي مستقر يقوم بإدارة شئون الدولة, وتتسم القرارات السيادية التي تتخذها الدولة بقدر كبير من العقلانية والرشادة وفق أسس محددة تحكم المصالح العليا للدولة. ووفق هذه السياسة عملت علي الحفاظ علي توازن عسكري كاف للدفاع عن مصر وسلامة أراضيها دون تورط في معارك أو حروب لم تحدد لا مكانها ولا زمانها. كل ذلك كان ضامنا لأمن وسلامة مصر خلال العقود الثلاثة الماضية, وبقيت أرض مصر المحررة حرة لأبنائها طوال هذه الفترة. ولكن توازن القوي ليس مسألة استاتيكية, بل هو ديناميكية, والطرف الآخر الإسرائيلي لا يكف عن العبث بأمن المنطقة كلها, ويصبح السؤال هو ما الذي تفعله مصر حتي تبقي التوازن الاستراتيجي مستمرا وفاعلا؟ وموعدنا الأسبوع القادم. [email protected] المزيد من مقالات د.عبد المنعم سعيد