«مستقبل وطن».. أمانة الشباب تناقش الملفات التنظيمية والحزبية مع قيادات المحافظات    تفاصيل حفل توزيع جوائز "صور القاهرة التي التقطها المصورون الأتراك" في السفارة التركية بالقاهرة    200 يوم.. قرار عاجل من التعليم لصرف مكافأة امتحانات صفوف النقل والشهادة الإعدادية 2025 (مستند)    سعر الذهب اليوم الإثنين 28 أبريل محليا وعالميا.. عيار 21 الآن بعد الانخفاض الأخير    فيتنام: زيارة رئيس الوزراء الياباني تفتح مرحلة جديدة في الشراكة الشاملة بين البلدين    محافظ الدقهلية في جولة ليلية:يتفقد مساكن الجلاء ويؤكد على الانتهاء من تشغيل المصاعد وتوصيل الغاز ومستوى النظافة    شارك صحافة من وإلى المواطن    رسميا بعد التحرك الجديد.. سعر الدولار اليوم مقابل الجنيه المصري اليوم الإثنين 28 أبريل 2025    لن نكشف تفاصيل ما فعلناه أو ما سنفعله، الجيش الأمريكي: ضرب 800 هدف حوثي منذ بدء العملية العسكرية    الإمارت ترحب بتوقيع إعلان المبادئ بين الكونغو الديمقراطية ورواندا    استشهاد 14 فلسطينيًا جراء قصف الاحتلال مقهى ومنزلًا وسط وجنوب قطاع غزة    رئيس الشاباك: إفادة نتنياهو المليئة بالمغالطات هدفها إخراج الأمور عن سياقها وتغيير الواقع    'الفجر' تنعى والد الزميلة يارا أحمد    خدم المدينة أكثر من الحكومة، مطالب بتدشين تمثال لمحمد صلاح في ليفربول    في أقل من 15 يومًا | "المتحدة للرياضة" تنجح في تنظيم افتتاح مبهر لبطولة أمم إفريقيا    وزير الرياضة وأبو ريدة يهنئان المنتخب الوطني تحت 20 عامًا بالفوز على جنوب أفريقيا    مواعيد أهم مباريات اليوم الإثنين 28- 4- 2025 في جميع البطولات والقنوات الناقلة    جوميز يرد على أنباء مفاوضات الأهلي: تركيزي بالكامل مع الفتح السعودي    «بدون إذن كولر».. إعلامي يكشف مفاجأة بشأن مشاركة أفشة أمام صن داونز    مأساة في كفر الشيخ| مريض نفسي يطعن والدته حتى الموت    اليوم| استكمال محاكمة نقيب المعلمين بتهمة تقاضي رشوة    بالصور| السيطرة على حريق مخلفات وحشائش بمحطة السكة الحديد بطنطا    بالصور.. السفير التركي يكرم الفائز بأجمل صورة لمعالم القاهرة بحضور 100 مصور تركي    بعد بلال سرور.. تامر حسين يعلن استقالته من جمعية المؤلفين والملحنين المصرية    حالة من الحساسية الزائدة والقلق.. حظ برج القوس اليوم 28 أبريل    امنح نفسك فرصة.. نصائح وحظ برج الدلو اليوم 28 أبريل    أول ظهور لبطل فيلم «الساحر» بعد اعتزاله منذ 2003.. تغير شكله تماما    حقيقة انتشار الجدري المائي بين تلاميذ المدارس.. مستشار الرئيس للصحة يكشف (فيديو)    نيابة أمن الدولة تخلي سبيل أحمد طنطاوي في قضيتي تحريض على التظاهر والإرهاب    إحالة أوراق متهم بقتل تاجر مسن بالشرقية إلى المفتي    إنقاذ طفلة من الغرق في مجرى مائي بالفيوم    إنفوجراف| أرقام استثنائية تزين مسيرة صلاح بعد لقب البريميرليج الثاني في ليفربول    رياضة ½ الليل| فوز فرعوني.. صلاح بطل.. صفقة للأهلي.. أزمة جديدة.. مرموش بالنهائي    دمار وهلع ونزوح كثيف ..قصف صهيونى عنيف على الضاحية الجنوبية لبيروت    نتنياهو يواصل عدوانه على غزة: إقامة دولة فلسطينية هي فكرة "عبثية"    أهم أخبار العالم والعرب حتى منتصف الليل.. غارات أمريكية تستهدف مديرية بصنعاء وأخرى بعمران.. استشهاد 9 فلسطينيين في قصف للاحتلال على خان يونس ومدينة غزة.. نتنياهو: 7 أكتوبر أعظم فشل استخباراتى فى تاريخ إسرائيل    29 مايو، موعد عرض فيلم ريستارت بجميع دور العرض داخل مصر وخارجها    الملحن مدين يشارك ليلى أحمد زاهر وهشام جمال فرحتهما بحفل زفافهما    خبير لإكسترا نيوز: صندوق النقد الدولى خفّض توقعاته لنمو الاقتصاد الأمريكى    «عبث فكري يهدد العقول».. سعاد صالح ترد على سعد الدين الهلالي بسبب المواريث (فيديو)    اليوم| جنايات الزقازيق تستكمل محاكمة المتهم بقتل شقيقه ونجليه بالشرقية    نائب «القومي للمرأة» تستعرض المحاور الاستراتيجية لتمكين المرأة المصرية 2023    محافظ القليوبية يبحث مع رئيس شركة جنوب الدلتا للكهرباء دعم وتطوير البنية التحتية    خطوات استخراج رقم جلوس الثانوية العامة 2025 من مواقع الوزارة بالتفصيل    البترول: 3 فئات لتكلفة توصيل الغاز الطبيعي للمنازل.. وإحداها تُدفَع كاملة    نجاح فريق طبي في استئصال طحال متضخم يزن 2 كجم من مريضة بمستشفى أسيوط العام    حقوق عين شمس تستضيف مؤتمر "صياغة العقود وآثارها على التحكيم" مايو المقبل    "بيت الزكاة والصدقات": وصول حملة دعم حفظة القرآن الكريم للقرى الأكثر احتياجًا بأسوان    علي جمعة: تعظيم النبي صلى الله عليه وسلم أمرٌ إلهي.. وما عظّمنا محمدًا إلا بأمر من الله    تكريم وقسم وكلمة الخريجين.. «طب بنها» تحتفل بتخريج الدفعة السابعة والثلاثين (صور)    صحة الدقهلية تناقش بروتوكول التحويل للحالات الطارئة بين مستشفيات المحافظة    الإفتاء تحسم الجدل حول مسألة سفر المرأة للحج بدون محرم    ماذا يحدث للجسم عند تناول تفاحة خضراء يوميًا؟    هيئة كبار العلماء السعودية: من حج بدون تصريح «آثم»    كارثة صحية أم توفير.. معايير إعادة استخدام زيت الطهي    سعر الحديد اليوم الأحد 27 -4-2025.. الطن ب40 ألف جنيه    خلال جلسة اليوم .. المحكمة التأديبية تقرر وقف طبيبة كفر الدوار عن العمل 6 أشهر وخصم نصف المرتب    البابا تواضروس يصلي قداس «أحد توما» في كنيسة أبو سيفين ببولندا    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



أحمد أبو الغيط يكتب شهادته علي حرب أكتوبر

قرار حظر تصدير البترول كان مؤثراً لكنه تأخر أسبوعاً
الثغرة .. اختراق للجيش المصري أم مصيدة للإسرائيليين

لعل القارئ الكريم يتذكر أنني كتبت في الفترة من 6 أكتوبر 2009 وحتي 24 أبريل 2010 - عيد تحرير سيناء - ثمانية مقالات نشرتها صحيفة الأهرام ومجلة «روزاليوسف» علي مدي هذه الشهور، وكانت هذه المقالات الثمانية حصيلة تجربتي «الشخصية» في العمل مع «مستشار الأمن القومي» المصري في فترة حرب أكتوبر 73 وحيث سردت خلالها مشاهداتي حول الأسلوب العسكري والسياسي الذي أدارت به مصر هذه الحرب التي لا شك أنها كان لها محوريتها الرئيسية في التاريخ المصري الحديث.. وأقصد بذلك تاريخ مصر منذ تبوأ محمد علي باشا مقعد السلطة في مصر وظهور الدولة المصرية الحديثة. لقد تضمنت هذه المقالات الثمانية مثلما قد يتذكر القارئ المتابع، استعراضا لدور «مستشار الأمن القومي» خلال الساعات الأربع والعشرين في اليوم الأول لنشوب القتال في 6 أكتوبر، ثم سرد لمسار الحرب وخلاصاتها ودور هنري كسنجر وزير خارجية الولايات المتحدة عندئذ مع تركيز محدد علي الأزمات العسكرية التي واجهت القيادة المصرية طوال الأسابيع الثلاثة للمعركة وكذلك الإدارة السياسية والدبلوماسية للحرب وحتي وقف إطلاق النار ودخوله حيز النفاذ يوم 28 أكتوبر.. ومن ثم بدء المعركة السياسية التفاوضية وصولا إلي السعي لتحقيق هدف الحرب.
وفي هذا السياق لا يجب أن يفوت المتابع المدقق لمجريات هذا الصدام.. أن المعركة وقد انتهت في شقها المسلح العنيف، فقد كان لمصر قوات رئيسية في شرق قناة السويس.
كما نجحت إسرائيل، وبدعم أمريكي هائل، في إقامة جيب إسرائيلي يمتد من جنوب طريق مصر الإسماعيلية الصحراوي حتي منطقة عتاقة وميناء الأدبية المطل علي خليج السويس في منطقة غرب القناة.. وفرض الحصار علي مدينة السويس وجزء كبير من قوات الجيش المصري الثالث شرق القناة. والمؤكد أنه رغم هذا التواجد الإسرائيلي العسكري في منطقة غرب قناة السويس، إلا أن القيادة المصرية كانت تعي أنها قد حققت وإلي حد كبير الأهداف الاستراتيجية للحرب.. إذ فرضت علي الولايات المتحدة وخلفها إسرائيل حتمية التعامل مع المطالب المصرية في تحريك عملية تفاوضية.. ولو امتد إطارها الزمني.. لاستعادة السيطرة المصرية الكاملة علي شبه جزيرة سيناء. كما كانت هذه القيادة تقدر وبدقة أيضا أن الجانب الإسرائيلي قد وضع نفسه في موضع تحمل الكثير من الأخطار الكبيرة إذا ما قررت مصر استئناف القتال وفرض فتح طريق وبالقوة إلي مدينة السويس ومن خلفها قوات الجيش الثالث أو قوات بدر المتواجدة في مواقعها بشرق القناة. لقد اتسمت هذه المرحلة في الأيام التالية لوقف القتال ببذل جهد هائل للجيش المصري لبناء الاحتياطيات والتمركز حول التواجد الإسرائيلي في الغرب.. وبكثافة مصرية غير مسبوقة.. فرضت علي الجيش الإسرائيلي استمرار الاحتفاظ بمواقع دفاعية وقوات رئيسية.. يتهددها الحصار مثلها في ذلك مثل حصارها للجيش الثالث، خاصة أن منفذ هذه القوات الإسرائيلية علي قناة السويس وإلي أرض مصر خارج سيناء يتسم بالضيق الشديد ولا يتيح إلا عدة كيلومترات من الأرض للإطلال علي غرب القناة في منطقة الجيب.. وهو وضع يعي كل العسكريين المتمرسين أنه يعرض صاحبه كثيرا للمخاطر ويهدد توازن قواته بشكل خطير.
لقد كانت مصر تقدر هذا الأمر، إلا أن القيادة السياسية المصرية رأت أيضا أن من المهم محاولة التوصل إلي تسوية سياسية سلمية للوضع تتيح الاستفادة بكل إنجازات الحرب ومن خلال إيقاع سريع وبتحركات تركز علي الهدف الاستراتيجي دون الالتفات كثيرا إلي المناورات الصغيرة.
أو أخذ مخاطر إضافية لا داعي لها وهي إحدي صفات الرئيس السادات في كل خطواته الكبيرة. من هنا، فإن المتابع للجهد المصري عندئذ يستطيع أن يتبين أيضا أن مصر.. وفور توقف إطلاق النار اشتبكت في معركة تفاوضية علي محاور ثلاثة.. اقترنت ببعضها البعض، وحققت مصر في نهايتها أولي مراحل التسوية السياسية المتمثلة في فك الاشتباك الأول في يناير 1974 ثم التحرك نحو فك الاشتباك الثاني في عام 75 وأخيرا صدمة زيارة القدس لعام 77 وصولا إلي مفاوضات كامب ديفيد ومعاهدة السلام المصرية - الإسرائيلية.
قد يلاحظ القارئ الكريم أن عنوان هذا المقال وتوابعه هو «شاهد علي الحرب والسلام» وذلك بخلاف المقالات الثمانية الأولي التي كان عنوانها «شاهد علي الحرب».. دون أي إشارة للسلام، إلا أن أسبابي لذلك الأمر تنبع أساسا من أنني وبالإضافة إلي متابعتي لكل المفاوضات التي جرت فور وقف إطلاق النار فقد شاركت في كافة الوفود والجهود المصرية التي دارت في أعقاب زيارة الرئيس السادات للقدس، حيث اشتركت مع أحمد ماهر السيد في وفد التفاوض المصري الذي زار القدس في يناير 1978 مع بدء أعمال اللجنة السياسية.. وكان قد سبقها مؤتمر مينا هاوس في ديسمبر 1977 وكنت أعمل عندئذ سكرتيرا خاصا لرئيس الوفد المصري في هذا الاجتماع الافتتاحي للدبلوماسيين المصريين والإسرائيليين.. وهو الدكتور عصمت عبدالمجيد مندوب مصر الدائم في الأمم المتحدة الذي كان قد استدعي من نيويورك للمساعدة في أعمال المفاوضات لما له من خبرة كبيرة ومعرفة عميقة ووثيقة بخفايا النزاع العربي - الإسرائيلي.
لقد مضيت أشارك في هذه المفاوضات لوزراء الخارجية المصريين بدءا بالسيد محمد إبراهيم كامل في محادثات ليدز كاسل ثم قمة كامب ديفيد في سبتمبر 78 وحتي قمة «مدريد» في عام 91 عندما ترأس السيد عمرو موسي الوفد المصري.. وهي التجربة التي آمل أن أتمكن في مستقبل الأيام أن أكتب فيها وأحلل نتائجها وأبعادها.
لقد كانت سنوات طويلة شهدت جهودا خارقة للدبلوماسية والدبلوماسيين المصريين.. بدأت فور هزيمة 67 واستمرت حتي استخلاص كل شبر من أرض مصر الطاهرة بتحكيم طابا في عام .1988 وهنا لا يفوتني أن أذكر أسماء الكثير من هؤلاء الدبلوماسيين المصريين المرموقين الذين كانوا - عندئذ - في ريعان شبابهم وقوتهم، إلا أن تجربتهم كانت كبيرة وعميقة كما أن التزامهم بمستقبل بلدهم كان يرتفع إلي مستوي هؤلاء الجنود الأبطال في القوات المسلحة وبقية أجهزة الأمن القومي المصري. أذكر منهم بالطبع السفير المقتدر أسامة الباز وكل الطاقم الذي عمل بشكل خاص في بداية مرحلة المفاوضات مثل السفير عبدالرءوف الريدي، الدكتور نبيل العربي، أحمد ماهر السيد، عمرو موسي.
أعود إلي المحاور الثلاثة للتحرك المصري فور توقف القتال.. وحيث قام السيد إسماعيل فهمي المبعوث الخاص للرئيس السادات بالسفر بشكل عاجل إلي واشنطن يوم 29 أكتوبر 73 لمشاورات مع الأمريكيين، واقترن هذا التحرك بالخطوة الموازية والتي تمثلت في محادثات الكيلو 101 بين اللواء عبدالغني الجمسي والجنرال ياريف.. وأخيرا السعي المصري للإعداد لتنفيذ أحد العناصر الرئيسية للقرار 338 الذي يطالب بإجراء مفاوضات بين الأطراف المعنية تحت إشراف مناسب بهدف إقامة سلام عادل ودائم في الشرق الأوسط، وكان تقديري حينئذ مثلما هو الآن.. أن حصار الجيش الثالث قد فرض علي الرئيس السادات اتخاذ خطوات ما كان سيقوم بها إذا ما كان وضع الجبهة استمر علي ما هو عليه حتي 20 أكتوبر علي سبيل المثال. وقد صدق الرئيس علي بدء المحادثات في الكيلو 101 وبسرعة شديدة لتأمين عدم تعرض الجيش الثالث للأخطار.. كما سعي إلي محاولة دفع إسرائيل.. مع استخدام الضغط الأمريكي.. للعودة إلي خطوط 22 أكتوبر، إلا أنها محاولات كنت أثق أنها لا يمكن أن تنجح.. إذ إن تنفيذها كان سيضع الجيش الإسرائيلي في خطر حاد في مواجهة الجيش المصري، وعلي الجانب الآخر ورغم أن زيارة المبعوث المصري إسماعيل فهمي قد تمت في هذا السياق أيضا إلا أن أهدافها كانت تتجاوز كثيرا العودة إلي خطوط 22 أكتوبر.. بل إن الزيارة تعكس بدقة ووضوح كل ما سعي إليه السادات علي مدي السنوات الثلاث السابقة منذ طرحه لمبادرته في مايو 71 وما تليها من تحركات تجاه الولايات المتحدة.
استغرقت هذه المرحلة بمحاورها الثلاثة الفترة من 28 أكتوبر 73 وحتي تحقيق فك الاشتباك الأول الموقع في 21 يناير 74 وتحقيق انسحاب القوات الإسرائيلية من الجيب الإسرائيلي في غرب القناة وابتعاد هذه القوات إلي مدخل ممرات سيناء الرئيسية.
كما شهدت هذه المرحلة أيضا وبوضوح شديد نقطتين مفصليتين في نزاع الشرق الأوسط.. أولهما استمرار الانزواء التدريجي للعلاقة المصرية السوفيتية وبدء اضمحلال الدور السوفيتي بالنسبة لجهد السلام أو الحرب ووصولا إلي انغماس مصر في مكافحة الغزو السوفيتي لأفغانستان في ديسمبر 79 والنقطة الثانية الأكثر أهمية في تقديري.. كانت بزوغ علاقة مصرية أمريكية أدت إلي وقوع تحول استراتيجي للسياسة الخارجية المصرية في السعي لصداقة الولايات المتحدة والاعتماد عليها في مهمة تسهيل المفاوضات التي تستهدف تخليص الأرض المصرية من براثن الاحتلال الإسرائيلي.
بالإضافة إلي ذلك، صاحب هذين التطورين بعد إضافي تمثل في افتراق عميق بين مصر وسوريا.. شريكي الحرب.. في فلسفة ومفهوم هذه المعركة وأهدافها الاستراتيجية.. وهو افتراق كان يطفو ويغوص بين الحين والآخر وعلي مدي السنوات التالية لعام 73 وربما حتي اليوم. إن الحرب.
ومثلما سبق القول في المقالات السابقة.. هي امتداد للسياسة بوسائل أخري.. تتسم بالعنف.
ولقد وعي الرئيس السادات بحكمة هذه المقولة الشهيرة لأبي الاستراتيجية العسكرية «كلاوزفتز» وطبقها بحذافيرها.. وسعي إلي التوصل إلي تسوية سياسية من خلال استخدام المعركة المسلحة.
ولعل القارئ الكريم.. وبعد هذا العرض الموجز لخطوات التحرك المصري السياسي في الأيام والأسابيع القليلة التي تلت وقف إطلاق النار في 28 أكتوبر .73 يستعجل تبين تفاصيل هذه المحاور التي نتحدث عنها وأسرع بالقول إن الهدف المصري المباشر بالنسبة لخطوتي زيارة إسماعيل فهمي إلي واشنطن، وبدء المحادثات في الكيلو 101 بين الجمسي وياريف ومثلما تطرقت إليه سابقا.. كان بالتأكيد. «السعي نحو تخليص الجيش الثالث ومدينة السويس من عواقب الحصار الممتد»، وكذلك التلويح للولايات المتحدة بأهمية استغلال الانفتاح المصري الذي تمثل في هذه الرسائل المتبادلة والمستمرة بين مستشاري الأمن القومي المصري والأمريكي من ناحية والرئيسين السادات ونيكسون من ناحية أخري.. وهي رسائل عديدة كان يتم تبادلها خلال فترة الحرب وما بعدها.
والحقيقة فإن الجانب الأمريكي كان يعي تماما أهمية استغلال هذه الفرصة التي أتاحتها الدبلوماسية المصرية النشطة لكي تعمق التعاون المصري - الأمريكي ويحدث تأثيره الكيفي الكامل في هذه العلاقة.. من هنا وضح الالتزام الأمريكي منذ يوم 28 أكتوبر بأهمية وصول القولات الإدارية للمدينة والجيش المحاصر وعدم السماح لإسرائيل بالمراوغة التقليدية، أو تهديد أوضاع هذا الجيش وسلامته بأي شكل من الأشكال.
وقد كشفت كتابات «كيسنجر» وغيره من مسئولي إسرائيل.. وكذلك كتابات المسئولين المصريين وفي مقدمتهم محمد حافظ إسماعيل، إسماعيل فهمي، الجمسي.. والمؤرخون المصريون الذين كتبوا في الموضوع.. عن الجهد الذي بذل علي الجانبين المصري والأمريكي لتأمين وصول الإمدادات وبدء بناء الثقة المفقودة بين القاهرة وواشنطن.
وقد أسفرت الجهود الأمريكية والتفاهم المصري - الأمريكي عن دخول قول إداري إلي السويس، ومن ثم الجيش الثالث مشكلا من ثلاثين ناقلة عسكرية، وذلك مع دخول وقف إطلاق النار حيز النفاذ.. وأعود إلي يومياتي التي سجلتها ساعة 1715 من يوم الأحد 28 أكتوبر لكي أكتب، إنه وبالإضافة إلي مرور هذا القول الإداري الأول، فقد عقد اجتماع «الجمسي»/ ياريف الأول ساعة 2400 في الليلة السابقة ووضح أن الجانب الإسرائيلي ليس لديه تعليمات ولا يرغب في التحدث في العودة إلي خطوط 22 أكتوبر.. وهي الخطوط التي كان يفترض أن تتوقف عليها إسرائيل ومصر مع دخول وقف إطلاق النار الصادر في 22 أكتوبر طبقا لقرار مجلس الأمن .338 إلا أن إسرائيل تجاوزت هذه الخطوط وقامت في الفترة الممتدة من يوم 22 أكتوبر وحتي 27 أكتوبر بتوسيع مناطق تواجدها بالجيب الإسرائيلي مما أدي إلي حصار الجيش الثالث.. وكان الهدف المصري عندئذ يسعي سواء في واشنطن أثناء زيارة مبعوث الرئيس إسماعيل فهمي أو اللواء الجمسي في خيمة المحادثات بالكيلو 101 إلي تحقيق انقباض التواجد الإسرائيلي إلي داخل خطوط 22 أكتوبر، وأضفت في اليوميات أن الجانب الإسرائيلي يثير موضوع الملاحة في البحر الأحمر والحاجة إلي رفع يد البحرية المصرية عن باب المندب وكذلك المطالبة بتبادل الأسري بين الجانبين.
لقد اتسم هذا اللقاء، الأول بين العسكريين المصريين والإسرائيليين منذ هدنة عام 49 وطبقا لانطباعات اللواء «الجمسي» في تقريره إلي القائد العام، والرئيس السادات وحافظ إسماعيل مستشاره للأمن القومي.. «بالاحترام المتبادل»، وعدت أكتب في اليوميات ساعة 1330 يوم الثلاثاء 30 أكتوبر أن الاجتماعات الثلاثة التي عقدت حتي حينه بين الطرفين المصري والإسرائيلي وبحضور ممثل الأمم المتحدة تتسم بالاحترام الشديد ويستشعر البعض أن هذا الاحترام قد يتحول إلي صداقة وحيث تجاوز الجمسي وياريف البرودة التقليدية في مثل هذه المواقف والاتصالات الافتتاحية، خاصة بعد معركة عسكرية عنيفة لم يمر علي انتهائها إلا أيام قليلة.
أوضحت اللقاءات أيضا أن الجانب الإسرائيلي يرغب في الحصول علي قتلاه داخل مواقعنا وتبادل الجرحي والأسري ويرد عليه اللواء الجمسي بأن موضوعات الأسري مرتبطة بالعودة الإسرائيلية إلي نقاط التراجع التي يمكن للطرفين المصري والإسرائيلي الاتفاق عليها باعتبارها تمثل خطوط 22 أكتوبر، أو شيئا شبيها بذلك، ولعل هذه الإشارة تمثل أول بادرة مصرية بالمرونة التي تصر علي رفع الحصار عن الجيش الثالث، وحيث قال الجمسي: فلتعودوا إلي الدفرسوار وحولها ونتحدث بعد ذلك في مسائل الأسري والقتلي.
وأن القوات المصرية لا يمكن أن تقبل بالحصار الدائم علي الجيش الثالث.
علي الجانب الآخر، جاء في محضر اللقاء الثالث بين ياريف/ والجمسي وطبقا لليوميات لهذا اليوم الثلاثاء 30 أكتوبر.. أن الجانب الإسرائيلي يرغب في تمثيل سياسي في المحادثات ولكي يبدأ الجانبان في مناقشة تفاصيل الفصل بين القوات، وكذلك المضي في البحث في فض الاشتباك بينهما.. وبالتالي قامت مصر بترقية اللواء الجمسي إلي مساعد وزير حربية، ومن ثم يستطيع التكلم أيضا بموقف سياسي وليس فقط الموضوعات العسكرية.
وتوضح اليوميات أن «الجمسي» كان قد كلف بأن يعرض علي الإسرائيليين المفهوم المصري لفك الاشتباك.. وهو المتمثل في تحقيق الانسحاب الإسرائيلي من غرب القناة وصولا إلي خط جديد شرق الممرات الرئيسية في عمق سيناء، وذلك في مقابل السماح بتبادل الأسري والجرحي والبحث عن القتلي ورفع اليد المصرية عن باب المندب.. والبدء في تطهير قناة السويس وعقد مؤتمر السلام. وسجلت أيضا في هذا اليوم قولي: أعتقد أن الجانبين سيتوصلان خلال الاجتماعات القادمة إلي وضع ثابت متفق عليه فيما يخص موضوعات الأسري وإمدادات الجيش الثالث ومدينة السويس بشكل دائم.. كما سنبدأ من اليوم - 30 أكتوبر - في إمدادهم بأسماء الأسري الإسرائيليين لدينا.. كما وافقنا علي تبادل فوري للأسري الجرحي.. وهو مطلب إسرائيلي ملح وافقنا عليه في مقابل إمدادات الجيش الثالث.
وكان الانطباع السائد لدينا في مصر أن اختيار الجنرال ياريف من قبل جولدا مائير يعكس رغبتها في وضع رجلها لتحمل مسئولية المفاوضات مع المصريين وحتي لا تتيح الفرصة لديان وزير الدفاع بأن يعقد الموقف بوضع أحد رجاله من المتشددين.
وكان انطباع الجمسي أن ياريف - حسب تقرير قدمه الجمسي إلي القيادة السياسية - هو رجل مائير ويتسم بالاتزان والموضوعية وله اتصال مباشر بالقيادة السياسية الإسرائيلية مما يمكن أن يكون له فاعلية إذا ما تعقدت الأمور.
نصل في هذه المرحلة إلي زيارة السيد إسماعيل فهمي، مبعوث الرئيس السادات إلي واشنطن.. الذي أعلن عن تعيينه وزيرا للخارجية المصرية وهو متواجد في العاصمة الأمريكية، حيث كتبت في اليوميات ساعة/ 1345 من الثلاثاء 30 أكتوبر أن: إسماعيل فهمي سيعرض تصور مصر للخطوات المقبلة وتتمثل في المطالبة ب:
انسحاب إسرائيل إلي خط 22 أكتوبر.
التصور المصري في فك الاشتباك «الانسحاب من الغرب إلي شرق الممرات/ مسألة باب المندب/ الأسري».
موعد إعلان عودة العلاقات الدبلوماسية المصرية - الأمريكية.
موعد البدء بتطهير قناة السويس.
توقيت عقد مؤتمر السلام وجميع عناصره. والمرحلة التي يعقد خلالها.. وعلاقة ذلك بالانسحاب الإسرائيلي من غرب القناة.. وتقديري أن إسرائيل سترفض قطعا هذا الطرح.
الانسحاب النهائي وأهمية إتمامه في مرحلة واحدة وليس علي مراحل متدرجة.
إنهاء حالة الحرب مع الانسحاب الكامل ومرور سفن إسرائيل بالقناة.
وضعية شرم الشيخ وهل تتواجد بها قوات دولية من عدمه.
النظر في فكرة اقتراح وجود شخصيتين سياسيتين من الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي لمراقبة وقف إطلاق النار.
وأضفت أخيرا في هذه الفقرات المسجلة ليوم الثلاثاء 30 أكتوبر.. أن مفاوضات إسماعيل فهمي ستكون صعبة وطويلة.
وأتذكر أثناء المشاركة في العشاء التقليدي اليومي مع السيد حافظ إسماعيل وبوجود أحمد ماهر السيد قولي أمامه وفي معرض تقييم الحرب وطبقا لليوميات يوم 30 أكتوبر: «إن مصر قد حققت الهدف من الحرب إذ فرضت القوة المصرية المسلحة - التي لم تدمر خلال الصراع الدموي، بل والتي ظلت قادرة علي العمل النشط - حتمية التحرك السياسي الذي نشهده حالياً».
«كما أن هذه القوة المسلحة حققت ضرب فكرة الأمن الإسرائيلي بإغلاقها باب المندب وبهذا فلا قيمة لسيطرة إسرائيل علي مضيق تيران».
«إن المؤشرات.. توضح أنه ينبغي لنا أن ننجح بالتالي في تحقيق الانسحاب الإسرائيلي الكامل في خلال شهور قليلة في مقابل تنازلات لإسرائيل في مسائل المرور بقناة السويس وإنهاء حالة الحرب وضمان حدود مصر وإسرائيل حسب القانون الدولي».
ننتقل الآن إلي نتائج زيارة الوزير «إسماعيل فهمي» إلي واشنطن وحيث سجلت في يومياتي المعلومات الأولية التي ضمنها برقيته الأولي إلي الرئيس «السادات».. ووزعت علي «حافظ إسماعيل» بصفته المستشار للأمن القومي.. وتضمنت اليوميات ساعة 2315 من مساء الثلاثاء 30 أكتوبر أن «كسنجر» أوضح في لقائه بالوزير المصري، اهتمامه بمسألة الجيش الثالث وأنه سيتناول هذا الموضوع في لقائه مساء نفس اليوم مع الرئيس «نيكسون» للنظر في تبني موقف أمريكي حازم بشأنه، ثم تطرق كسنجر إلي موضوع حظر البترول العربي وأن هذا الحظر يضعف من قدرة الإدارة الأمريكية في الداخل وبالتالي يجعل من الصعب عليها الضغط علي إسرائيل.. مضيفاً اقتناعه بأنه ليس في صالح أي من الأطراف استسلام الجيش الثالث.. وأضفت بقولي هنا.. «وكأنهم يصدقون بأن بإمكان إسرائيل القضاء علي هذه الوحدات المصرية التي صقلت في معركة نيران غير مسبوقة.. أو وكأن الاحتياطيات المصرية الهائلة التي بدأت تنتشر حول الجيب سوف تتركهم يعملون ضد الجيش الثالث دون عقاب مماثل لقوات الجيب».. وكتبت أيضاً في هذه الفقرة أن الوزير «إسماعيل فهمي» بادي التفاؤل وأنه سيحصل علي رؤية الرئيس «نيكسون» في مساء يوم 30 أكتوبر.. وإن كنت قد أضفت معلومة ذات أهمية بأن تقرير هيئة المعلومات يوضح أن تعيينات الجيش لا تكفيه حالياً لأكثر من 36 ساعة.. ولعل ذلك يفسر الحديث للقائد العام «أحمد إسماعيل علي».. وكذلك «حافظ إسماعيل».. وأخيراً الرئيس «السادات» عندما تحدثوا جميعاً للجانبين الأمريكي والسوفيتي وللمسئولين المصريين بأن الجيش سيسعي لفتح طريق إلي الجيش الثالث عنوة ومن خلال معركة كبيرة.
ثم عدت للكتابة والتسجيل ساعة 2050 من الأربعاء 31 أكتوبر، بأننا نقترب من النجاح في تسوية موضوع الجيش الثالث وأن ذلك سيتحقق من خلال، إما التوصل إلي تسوية دائمة بإمداده يومياً بالتعيينات والمياه وليس بأي أسلحة أو ذخيرة.. علماً بأنه كان لديه منها الكثير.. أو بتأمين انسحاب إسرائيل إلي خط جديد يسمح لقوات الجيش الثالث بالاتصال الأرضي مع قواته في غرب القناة وجنوب الجيب الإسرائيلي، وكانت تعليمات الرئيس «السادات» الصادرة إلي وزير الخارجية في واشنطن تؤكد عليه أيضاً أن يطرح بالكامل الأفكار المصرية في فض الاشتباك مثلما ذكر سابقاً.. إلا أن الرئيس أكد أيضاً عدم الموافقة علي تبادل الأسري إلا في مقابل الانسحاب إلي خط 22 أكتوبر.. وهي نفس الأفكار التي تحدث بها اللواء «الجمسي» مع «ياريف» في الكيلو 101 وأخذت برقيات وزير الخارجية تتوالي.. وأخذت أسجل كل ما أقرأه بإيجاز شديد.. وجاء في فقرات اليوميات ساعة 800 من يوم الجمعة 2 نوفمبر.. اقتناعي بأن برقيات وزير الخارجية تعكس التفاؤل بشكل يفرض أهمية الحذر.. وحيث تضمنت قول «إسماعيل فهمي» في برقيته المرفوعة للرئيس أن «نيكسون» «سيرغم» إسرائيل علي تنفيذ طرح مصر في فض الاشتباك من خلال تأكيد وقف إطلاق النار، وتسكين قوات حفظ السلام الدولية، الانسحاب الإسرائيلي إلي خط 22 أكتوبر، فتح طريق للجيش الثالث مع عدم دخول معدات عسكرية، كما قال «نيكسون» للوزير «فهمي» أثناء المقابلة بينهما إن الطرح أو المشروع المصري يعتبر «بناء» في حين اعتبره «كسنجر» «معقول»، وفي هذا السياق.. فإن من الضروري الإشارة إلي فقرة بالغة الأهمية في سياق أحاديث الوزير «إسماعيل فهمي» والتي سجلتها من جانبي بالكثير من الاهتمام.. وهي طلب وزيرنا من الجانب الأمريكي تعهداً كتابياً بأن إسرائيل لن تقوم أو تبادر بعمليات عسكرية بقواتها في الجيب الإسرائيلي بغرب القناة، وقد تضايقت بشدة من هذا المطلب حيث تصورت أن الجانب الأمريكي وإذا قدم لنا هذا التعهد.. فسوف يطلب في المقابل تعهداً مصرياً مماثلاً... وهو ما لا يمكن لنا تقديمه وأراضينا محتلة، كما أن طلبه منا.. ورفضنا له سوف يكشف نوايا مصرية لا يجب الكشف عنها في حينه علماً بأن الكثيرين في القوات المسلحة كانوا يعملون للإعداد لضربة جديدة.. إما لفتح الطريق لوحدات الجيب الثالث بالقوة والسعي لغلق الطريق أمام انسحاب الجيش الإسرائيلي عن طريق الوصول إلي المعابر الإسرائيلية علي القناة، وتقديري الآن وبعد استرجاع هذه المسألة، في الأغلب أن الوزير «فهمي» قرر أهمية تحقيق الاستقرار في الجبهة وبما يؤمن عدم محاولة أي من الطرفين هز الموقف أثناء مرحلة التفاوض الحساس الجارية في حينه.. كما لعله رأي أهمية اختبار حقيقة ومصداقية النوايا الأمريكية تجاهنا، وعلي أي الأحوال فقد حصل الوزير «فهمي» علي هذا التأكيد الكتابي وعاد به إلي القاهرة وكتبت في حينه وبعد الاطلاع عليه أن «صياغة التعهد سخيفة وتتسم بالميوعة.. وقد وقعها «كسنجر» بالحروف الأولي».
وأخذ الوزير «إسماعيل فهمي» يسرد عناصر مقابلتيه مع كل من «نيكسون»، و«كسنجر» حيث أوضحا بجلاء إعجابهما بالعمل العسكري والسياسي المصري وأن الولايات المتحدة ستوفد شخصية أمريكية مرموقة للعمل كنقطة اتصال بالقاهرة، كما أكدا له أن أمريكا هي القادرة علي تحقيق الأهداف المصرية في الوصول إلي سلام عربي - إسرائيلي.. وإن لم يفتهما التحدث أيضاً في مسألة الحظر البترولي وضرورة رفعه وإنهائه، وأخذت الإيماءات والإيحاءات من «نيكسون» و«كسنجر» تتكرر في ضرورة أن يتحدث الطرفان المصري والأمريكي بشكل مباشر وبدون وسطاء.. وكأنهما يشيران إلي إبعاد السوفيت.. وكتبت في ذات الفقرة «أن من الخطورة بمكان إخراج السوفيت من الموضوع وإلا انفرد بنا الأمريكيون» واستمرت مقابلات «إسماعيل فهمي» مع «كسنجر»، وكتبت خلاصة ما قرأت وذلك ساعة 2315 من الجمعة 2 نوفمبر.. أن «كسنجر» يعاود المناورة وربما التراجع عما التزم به معنا.. إذ أبلغ وزير الخارجية أنه يحتاج للمزيد من الوقت لإقناع الجانب الإسرائيلي بقبول الأطروحات المصرية من حيث فض الاشتباك.. ثم عاد في اليوم التالي السبت 3 نوفمبر لكي يكرر نفس الموقف وحاجته لإقناع «جولدا مائير» الموجودة في واشنطن بقبول المطروح مصرياً.. وسجلت ساعة 2230 من هذا السبت «أنه ربما يسعي كسنجر لتعطيل أي اتفاق يمكن التوصل إليه في واشنطن مع «إسماعيل فهمي».. والانتظار لحين زيارة الوزير الأمريكي لمصر والمنطقة يوم 7 نوفمبر وبحيث يحقق شيئا كبيراً عندئذ.. ثم عدت أكتب ساعة 800 من الاثنين 5 نوفمبر أن كسنجر استمر في مناوراته ومراوغاته مع وزير خارجيتنا.. وأنه أي «كسنجر» يحتاج للمزيد من الوقت لتحقيق العودة إلي خط 22 أكتوبر وربما يبلغنا بنتيجة جهوده أثناء زيارته للقاهرة.. كما أنه يبحث أيضاً في وسائل بديلة للتغلب علي موضوع خطوط 22 أكتوبر، ثم أشار «كسنجر» في هذه المقابلة الأخيرة له مع «إسماعيل فهمي» قبل مغادرة الأخير من واشنطن لكي يكون في استقبال الأمريكي بالقاهرة.. عما إذا كان من الممكن النظر في الدخول إلي مؤتمر السلام فوراً ودون النظر إلي مسألة خط 22 أكتوبر مضيفاً أنه ينوي أن يتحدث أثناء زيارته للقاهرة مع الرئيس حول الطرح المصري لفض الاشتباك.. وأضاف «كسنجر» أخيراً أنه يحتاج لشهرين علي الأقل لكي ينجح في إقناع الكونجرس والرأي العام الأمريكي بالسياسات والمناهج الأمريكية الجديدة في التعامل مع أزمة الشرق الأوسط.. ثم أنه ينوي بعد ذلك التقدم بمشروع أمريكي للسلام.
لقد قرأت في الفترة الأخيرة.. وللمرة الثانية مذكرات الوزير «إسماعيل فهمي» التي سجلها في كتابه «التفاوض من أجل السلام في الشرق الأوسط».. وأنصح كل صاحب اهتمام بهذه الحقبة أن يستعيد قراءتها لأنها تكشف وبشكل تفصيلي ما جاء في هذه الشهادة لي.. مع بعض الاختلافات خاصة أني أري جدوي عدم التطرق من جانبي إلي تفاصيل كثيرة قد تكون غير ذي صلة بالموضوع المثار هنا ويمكن أن تؤدي إلي فقدان القارئ متابعته لجوهر الأمور.
وأعود الآن إلي تناول المحور الثالث للتحرك المصري.. وأقصد به موضوع الإعداد للمفاوضات مع إسرائيل وعقد المؤتمر الدولي للسلام تحت الإشراف المناسب طبقاً للقرار 338 الصادر عن مجلس الأمن يوم 22 أكتوبر. وكان الرئيس «السادات» قد طلب من الجانب السوفيتي إيفاد شخصية سوفيتية عالية المستوي لمناقشة الأمر معنا.. وقد وصل بالتالي «فاسيلي كوزنتسوف» نائب وزير الخارجية السوفيتية للتحدث معنا في الموقف.
وكان اعتقادي عندئذ.. ومثلما كتب السيد «حافظ إسماعيل» في كتابه «أمن مصر القومي»، أنه كان من الأوفق أن يبعث السوفيت بوزير الخارجية العتيد «جروميكو» وحتي يكون لديه القدرة علي اتخاذ القرار والتواجد علي قدم المساواة مع «كسنجر» الذي كان قد أعلن أيضاً عندئذ عن حضوره للقاهرة.
ولا شك أن من يعرف المسئولين السوفيت من رجال الصف الثاني فسوف يصل إلي الخلاصة أنهم ورغم حرفيتهم العالية وقدرتهم علي فهم المسائل بدقة.. إلا أن النظام السوفيتي عندئذ لم يكن يتيح لأي منهم أي حرية حركة أو اتخاذ قرار، وعلي أي الأحوال جرت محادثات «كوزنتسوف» مع الرئيس «السادات».. ومع «حافظ إسماعيل» وبهدف الاتفاق علي مجموعة من التفاهمات والعناصر المتعلقة بالإعداد لمؤتمر السلام الذي استقر الأمر عندئذ علي عقده في جنيف.
وكان التشاور المصري السوفيتي يؤشر إلي استمرار تمسك الرئيس «السادات» بعدم عقد مؤتمر السلام مادام لم تحل مسألة خطوط 22 أكتوبر.. إلا أن الرئيس «السادات» قرر - أثناء مشاوراته مع «كوزنتسوف» - القبول أو الاستعداد للقبول بالبدء في تحضيرات عقد مؤتمر السلام لحين إمكان إقناع إسرائيل بالانسحاب إلي خط 22 أكتوبر ثم يبدأ المؤتمر فوراً.. كما أوضحت تعليقات «مستشار الأمن القومي المصري» مع «كوزنتسوف» أن مصر لن تتمسك كثيراً بموضوع التواجد في باب المندب.. وأخيراً انتهز كل من الرئيس «السادات» و«حافظ إسماعيل» زيارة «كوزنتسوف» للتأكيد علي أهمية استمرار الإمداد العسكري لمصر.. ثم استقبل الرئيس السفير السوفيتي يوم 5 نوفمبر وحيث طلب إمداد مصر بشكل عاجل بمقاتلات «ميج 21» كما طلب كميات كبيرة من القواذف المضادة للدبابات «المالوتكا» ودبابات t62 وصواريخ كتف مضادة للطائرات «ستريلا».. وسلم السفير السوفيتي الرئيس «السادات» في نفس المقابلة رسالة من «برجنيف» سكرتير عام الحزب الشيوعي السوفيتي يحيي فيها بطولة الجيش المصري وأن هذا الجيش قام بمعجزة مستخدماً أسلحة متطورة وحديثة للغاية.. وكتبت في اليوميات في نفس اليوم تعقيباً علي الرسالة.. «وكأن السوفيت لا يصدقون أنفسهم رغم موقفهم السابق من رفض العمل العسكري ضد إسرائيل»، ومضت رسالة «برجنيف» تحذر مصر من «كسنجر» وما سماه السوفيت «ألاعبيه» مع وصفه بأنه خادم الإمبريالية وضرورة ألا تخدع مصر بما يقول». وتضمنت اليوميات في نهاية يوم الاثنين 5 نوفمبر ساعة .2330 أن الرئيس يتحدث مع الكثير من ضيوفه من العرب بأن «جيش إسرائيل في غرب القناة في مصيدة كبيرة وأننا يمكننا أن نضربه.. ولكننا نحاول أن نوازن بين فائدة ضرب الجيش الإسرائيلي أو استمرار التمسك بوقف إطلاق النار ولتحقيق الهدف سياسياً ودون فقدان دماء شباب مصر».
وأجد من الضروري ونحن نقترب من التعامل مع زيارة «كسنجر» للقاهرة وآثارها المهمة التي كنا جميعاً نتوقعها.. أن أتطرق إلي ما جاء في كتاب «حافظ إسماعيل» حول السوفيت والأمريكيين وعلاقات مصر وموقفها بينهما.. وحيث قال «مستشار الأمن القومي المصري» إن الرئيس السادات استمر يمارس الضغط علي السوفيت من أجل استكمال تسليح قواتنا - مثلما جاء ذكر ذلك في مقابلته مع السفير السوفيتي - وحتي نكون في وضع يمكننا من فتح طريقنا عنوة إلي قواتنا في شرق السويس فيما لو فشلت جهودنا السياسية.. ولهذا لم يعد الرئيس يخفي ضيقه بموقف السوفيت، عندما لم تبلغ استجابتهم لمطالبنا مستوي تطلعاتنا، ويصل «حافظ إسماعيل» بالتالي إلي تقييم نهائي للتصرفات السوفيتية معنا بقوله «إن السوفيت أسهموا.. مرة أخري في أن تفلت من بين أيديهم المبادرة.. فتنتقل إلي الأمريكيين الذين كانوا علي استعداد للاستجابة للاحتياج المصري المباشر بفتح طرق الإمداد إلي شرق السويس وإن استبعدوا إعادة القوات الإسرائيلية إلي خط 22 أكتوبر وبذلك تأكد دور الولايات المتحدة وأصبحت وحدها المعنية بتحقيق التقدم بممارسة ضغطها علي إسرائيل ولم تدع الولايات المتحدة المبادرة تفلت بعد ذلك من يدها.. حتي نهاية الطريق».
كان الجميع ينتظر بترقب وباهتمام كبير وصول «كسنجر» وزير الخارجية الأمريكية لأول مرة إلي القاهرة.. وهي زيارة افتتاحية تلتها زيارات عديدة أدت إلي وقوع تطورات رئيسية في منحي العلاقة الأمريكية المصرية.. وأسلوب تناول مسألة التسوية.. سواء علي المستوي المصري - الإسرائيلي أو السوري الإسرائيلي.. وأخيرا كيفية التعامل مع القضية الفلسطينية التي كانت واستمرت ومازالت جوهر النزاع في الشرق الأوسط وذلك رغم كل الاتفاقات والتي وقعت خلال هذه الفترة وما تلاها علي كل الجبهات العربية الإسرائيلية.
وأقول إن الجميع كان يحمل الكثير من التوقعات.. كما أن مجموعة عمل مكتب «حافظ إسماعيل».. وتحت الإشراف المباشر والحكيم للسفير الدكتور «عبدالهادي مخلوف» مدير مكتب مستشار الأمن القومي.. سعت لترتيب الأوراق وعرض المذكرات والتقييمات والقراءات.. وتم طرح أفكار «كسنجر» التقليدية وأسلوبه في العمل من واقع تجربة مفاوضات فيتنام التي دارت علي مدي عدة سنوات سابقة ومنذ شغل «كسنجر» منصب مستشار الأمن القومي في يناير 69 بإدارة الرئيس «نيكسون» الأولي.. وكذلك أثناء استحواذه علي منصبي مستشار الأمن القومي ووزير الخارجية لفترة انتقالية خلال فترة رئاسة «نيكسون» الثانية والتي لم تستكمل نتيجة لأحداث وخفايا فضيحة «ووترجيت» الأمريكية.
وكان المستشار «حافظ إسماعيل» يقرأ بنهم كل ما نكتبه حول أسلوب «كسنجر» في التفاوض.. ووصل الوزير الأمريكي مساء يوم 6 نوفمبر القاهرة.. والتقي بالرئيس «السادات» صباح الأربعاء 7 نوفمبر.. وكتبت في يوميات يوم الخميس 8 نوفمبر ساعة 1240 أن الرئيس و«كسنجر» توصلا وبسرعة إلي اتفاق يستهدف تحقيق الاستقرار بالجبهة وقد «أرسلاه» إلي إسرائيل عن طريق «سيسكو» مساعد «كسنجر» بالخارجية الأمريكية وينص علي:
يتعين علي مصر وإسرائيل أن يلتزما بدقة بوقف إطلاق النار الذي دعا إليه مجلس الأمن في قراراته التي بدأت بالقرار 338 .
تبدأ المحادثات فورا بين البلدين بهدف تسوية مسألة العودة إلي خطوط 22 أكتوبر ضمن خطة لاتفاق «لفك الاشتباك» وفصل القوات تحت إشراف الأمم المتحدة.
يتعين أن تحصل مدينة السويس علي إمدادات يومية من الطعام والماء والأدوية ونقل الجرحي منها.
- لا تفرض أي عوائق تمنع نقل إمدادات غير عسكرية إلي الضفة الشرقية للقناة.
- تحل مراكز تفتيش تابعة للأمم المتحدة محل مراكز إسرائيل علي طريق القاهرة/السويس. وفي نهاية الطريق من ناحية السويس.. يمكن للضباط الإسرائيليين أن يشتركوا مع مسئولي الأمم المتحدة في التفتيش والتأكد من طبيعة الإمدادات غير العسكرية.
- وفور إتمام نقاط التفتيش التابعة للأمم المتحدة علي طريق القاهرة السويس يبدأ تبادل أسري الحرب بمن فيهم الجرحي.
ثم عادت اليوميات لنفس اليوم لكي تذكر أن «كسنجر» تحدث مع الرئيس «السادات» طارحا فكرة تحقق انسحاب الجيش الإسرائيلي بشكل كامل من الجيب في الغرب والعودة إلي شرق القناة.. في مواقع الجيش الثالث.. وهو نفس الطرح الأرعن الذي كان كل من الجنرال «ياريف» الإسرائيلي قد قدمه إلي اللواء «الجمسي» في محادثات الكيلو 101 علي طريق مصر/ السويس الصحراوي.. وكذلك تطرق إليه «كسنجر» علي «حافظ إسماعيل» في اليوم الثاني لانطلاق العملية المصرية العسكرية يوم 7 أكتوبر.. وقد رفض الرئيس «السادات» بحزم هذه الفكرة.. مثلما رفضها كل المسئولين السابق الإشارة إليهم.. ثم ذكر «كسنجر» للرئيس فكرة ربط تسوية خطوط 22 أكتوبر بموضوع التوصل إلي اتفاق لفك الاشتباك أو فصل القوات المصرية/ الإسرائيلية وبدء الانسحاب الإسرائيلي التدريجي إلي الشرق من القناة. واقترح «كسنجر» أيضا أن تنظر الأطراف في عقد مؤتمر السلام المشار إليه في القرار 338 في أوائل ديسمبر وحضور كل من أمريكا والسوفيت المؤتمر ومشاركتهما في كل اللجان وكذلك استجابته لطرح مصري بأهمية تنفيذ فض اشتباك مواز أيضا بين إسرائيل وسوريا وعلي نمط ما بدأنا بحثه مع الأمريكيين بالنسبة للجبهة المصرية.. وعاد «كسنجر» أخيرا لكي يطرح عدة نقاط كان يري أن لها أهميتها.. في مقدمتها إنهاء حظر البترول المفروض علي الصادرات إلي أمريكا وكذلك عدم استمرار الدول البترولية في تخفيض إنتاجيتها حسب قراراتها منذ 20 أكتوبر.. وهو اليوم الذي اتجهت فيه هذه الدول إلي فرض هذه المواقف. ومازلت في هذا الصدد أعترف بأن هذه الخطوة العربية كانت ذات تأثير وأهمية.. إلا أنني أيضا علي اقتناع بأنها جاءت متأخرة وكان ينبغي القيام بها والإعداد لها فور وضوح تبني الولايات المتحدة لمواقف مؤيدة وداعمة عسكريا لإسرائيل.. أي علي الأقل أسبوع سابق لصدور القرار العربي فعلا.. ولعل عدم جاهزية الأشقاء العرب لهذه الخطوة فور وقوع الحرب.. وكذلك عدم إحاطتهم بشكل دقيق بموعد الضربة العربية العسكرية قد أبطأ من إيقاعهم في مواجهة الموقف. وعلي أي الأحوال فقد تمسك الرئيس «السادات» في مواجهة مطالب «كسنجر» بأن العودة إلي مستوي الإنتاج السابق - قبل الحظر - والعودة إلي التصدير مرتبط في الحقيقة بانسحاب إسرائيل.. ودون تحديد مفهوم دقيق لذلك الأمر.
تطرق «كسنجر» أيضا في لقائه بالرئيس «السادات» إلي مسألة إغلاق مصر باب المندب أمام السفن والتجارة الإسرائيلية.. قائلا إنه يأمل أن نغض الطرف بهدوء عن هذا الحصار. وهنا يجب أن أضيف أن مصر كانت قد تغافلت عمدا عن مرور سفينة ليبيرية ناقلة للبترول عبر باب المندب يوم أول نوفمبر في طريقها إلي ميناء إيلات كإشارة إلي مرونتها إذا ما كانت مواقف الولايات المتحدة إيجابية وكذلك إذا ما قامت إسرائيل بالاستجابة للمطالب المصرية.
وأعلم أن نقاشا عميقا دار في هذا الشأن بين «مستشار الأمن القومي المصري» من جانب والقائد العام للقوات المسلحة المصرية «أحمد إسماعيل علي» من جانب آخر.. وكان الأخير يرغب في التصدي لإغراقها خاصة أنها كانت تحت رؤية ومراقبة ومدي إحدي غواصاتنا بالمنطقة.. وقد فضل «حافظ إسماعيل» عدم التعرض لها وذلك حفاظا علي فاعلية مهمة الوزير «إسماعيل فهمي» في واشنطن.. مع إبلاغ الأمريكيين باحتفاظنا بمواقفنا وحقوقنا في التعرض للسفن مستقبلا.. وكتبت في يوم هذه الواقعة «أن هذه الخطوة تعتبر بمثابة تنازل عن سيطرتنا علي البحر الأحمر.. وهي لاشك تتم في مقابل فتح طرق الإمداد للسويس والجيش الثالث».
وفي هذا السياق كله.. أصدر الرئيس «السادات».. وفور عودته من زيارة سريعة لكل من الكويت/ والسعودية يوم 2 نوفمبر تعليماته المشددة باعتراض جميع السفن المتجهة إلي إيلات مرة أخري.
واتفق أخيرا علي إعادة العلاقات الدبلوماسية المقطوعة بين مصر والولايات منذ عام 67 وأجدني اليوم أعود لقراءة اليوميات المسجل بها كل هذه اللقاءات وبعد مرور 37 عاما بالكثير من الاهتمام والتدقيق.. إذ كنت لا أستشعر الرضا لما كنت أرصد بعض عناصره وفي حدود رؤيتي وتجربتي وقتها والمتاح لي من معلومات وتقييمات أيضا.. إذ كنت قد كتبت أن الجميع بهيئة مكتب «حافظ إسماعيل» يستشعرون القلق.. بل يمكن القول إنهم غير سعداء أو مستريحين لنتائج اللقاء.. إذ فتح الأمريكيون لنا طريقا للجيش الثالث في مقابل تبادل الأسري والانزواء عن باب المندب ومع استمرار بقاء إسرائيل في مواقعها وعدم الانسحاب إلي خطوط 22 أكتوبر.
من هنا.. يمكنني توقع استمرار حصار الجيش الثالث لفترة طويلة غير معروف مداها الزمني.. إذ إنه تم الربط بين النقاط الست المتفق عليها والسعي إلي تحقيق فك الاشتباك أو فصل القوات.. والمؤكد أن البحث فيها والتوصل إلي اتفاق حولها سيستغرق شهوراً وسوف تسعي إسرائيل لتحقيق مطالب ومكاسب ونحن لا نستطيع الاستجابة لها.. كما سوف تحاول إسرائيل ربط خطوة فض الاشتباك بالخطوات التالية.. ومن ثم بالتسوية النهائية وسيستغرق ذلك وقتا.. ربما ستة شهور.. يكون الجيش الثالث خلالها قد ترهل وهو تحت الحصار.
وعدت في اليوميات في مواجهة هذا الموقف مثلما قرأته.. أطرح علي نفسي ذات السؤال المحوري.. عما إذا كانت لدينا وقتها قدرة عسكرية علي فتح طريقنا إلي الجيش الثالث بالقوة أم أننا نحتاج للمزيد من الوقت.. وهو سؤال لاشك لم تكن هناك إجابة عليه سوي لدي القليل من العسكريين المصريين العالمين بخلفيات الأوضاع وإمكانيات القوات المسلحة وشكل الإمداد السوفيتي.. والقوات العربية ومعداتها التي بدأت تتقاطر علينا من كل حدب وصوب.
وحول هذا الوضع.. فإن من المهم أيضا تناول وعرض فحوي استقبال الرئيس «السادات» ساعة 1130 يوم 6 نوفمبر - اليوم السابق للقائه مع «كسنجر» - للجنرال «لاشنكو» كبير الخبراء السوفييت لدي الرئيس «عبدالناصر» وحيث طلب الرئيس وبإلحاح ومرة أخري مقاتلات ميج 21 وقد ألمح «لاشنكو» بشكل غير مباشر إلي عدم وجود كفاية لديهم من هذا الطراز!! كما طلب الرئيس صواريخ «كوادرات» سام 6 معدل لمواجهة مقذوفات شرايك التي كانت المقاتلات القاذفة الإسرائيلية تستخدمها بكثافة ضد رادارات بطاريات الصواريخ المصرية ويجيب لاشنكو: إن السوفيت ليس لديهم أي أنواع جديدة أو معدلة عما هو لدينا من بطاريات.. وطلب الرئيس ثلاثين طائرة بشكل فوري من طراز M500 «ميج 25» وأجابه «لاشنكو» أن عدد 30 طائرة لن يكون مؤثرا.. أي بمنطق العكس.. فلا داعي لها.. وعقب الجنرال السوفيتي رغم كل هذه الإجابات بقوله إن خبراءه سيدرسون مطالب مصر واحتياجاتها وسيعللون جهدهم لمقابلتها والاستجابة لها. وأضاف السوفيتي أنه يري أن قوات إسرائيل في غرب القناة في وضع خطير للغاية ويمكن القضاء عليها بعملية عسكرية.. وأنه لا يعرف - أي «لاشنكو» - من هو المحاصر ومن هو المحصور. وقد وافقه الرئيس علي تلك القراءة وهذا المفهوم مضيفا أن «أحمد إسماعيل» قد جهز لعملية كبيرة لتنفيذها إذا ما اقتضي الأمر.. وتساءل «لاشنكو» بالتالي وردا علي رؤية الرئيس «السادات»، «ولماذا لا تنفذوها بدعوي تنفيذ القرار 242 وكذلك فرض العودة إلي خطوط 22 أكتوبر». ولعل من الأهمية بمكان في هذا السياق أن نمضي في استعراض محاولات الرئيس «السادات» للحفاظ علي قدر من العلاقة الإيجابية مع السوفييت وحيث إن المؤكد أن الرئيس ورغم انفتاحه الكامل وتوجهه المطلق في التحرك علي المسار الأمريكي الواعد.. إلا أنه كان أيضا يعي أن عناصر القوة المصرية المسلحة هي الأساس لتطويع الموقف الأمريكي والإسرائيلي وللوصول إلي الصيغة المرضية له.. من هنا استمر الرئيس يحاول مع السوفيت ويناور للحصول علي ما يمكن له الاستحواذ عليه منهم. من هنا استقبل مرة أخري السفير السوفيتي يوم الأحد 11 نوفمبر وعاود المطالبة بالمقاتلات الميج 21م ف خاصة أن تقديره أن حالة الطيران المصري بعد الخسائر والتضحيات أصبحت حساسة. وبهدف الدفاع عن مطالبه في المقاتلات، أوضح الرئيس السادات للسفير السوفيتي أن مصر لديها تفوق واضح في الدبابات في الغرب والعدو متوتر فعلا بسبب ذلك وقد يحاول العدو ضربنا بقواته الجوية.. من هنا يجب أن نكون علي استعداد لملاقاته.. وعاد الرئيس للتأكيد علي قدرتنا علي تصفية الجيب بالغرب.. واختتم الرئيس حديثه بالتعبير عن الضيق من الموقف والتصرفات السوفيتية معنا وطلب موافاته بتفسير للموقف والتصرفات السوفيتية مؤكدا أن امتناعهم عن إرسال المقاتلات يمثل رسالة واضحة لنا.. ووعد السفير السوفيتي بإبلاغ «برجنيف» فورا بالموقف واستفسر عما إذا كنا نقبل بأنواع أخري من المقاتلات.. وعقبت من جانبي في معرض التعليق عقب قراءاتي لهذا المحضر.. «أخشي أن يرسل لنا السوفييت مقاتلات «ميج 17» وقد ختم الرئيس المقابلة بقوله.. أنه «يرفض الشكوك السوفيتية في مصر وتصرفاتها».
أعود الآن إلي النقاط الست وقراءاتي لها وزيارة «كسنجر» للقاهرة وتأثيراتها.. وأستأذن القارئ الكريم في الاقتباس من كتاب «حافظ إسماعيل» مستشار الأمن القومي بقوله «إن الرئيس لخص نتائج زيارة كسنجر» في اجتماعه بمعاونيه بقوله إنه أمضي أغلب وقت المحادثات مع «كسنجر» من أجل فض الاشتباك مع الولايات المتحدة وليس إسرائيل كما كنا نظن. واعتبر الرئيس أنه بدأ بذلك صفحة جديدة مع الولايات المتحدة. وكان تقديره أنها وحدها القادرة علي تحريك الموقف بدون التعاون مع الاتحاد السوفيتي». ولقد كشفت هذه الكلمات بوضوح التوجه المصري القادم. كما لاشك أن ردود فعل السوفييت، مثلما أوضحت مواقف الجنرال «لاشنكو» أظهرت عدم نية الاتحاد السوفيتي في المضي بعيدا في تقوية مصر أو بناء قدراتها.. إلا بتأكيدات صارمة لم يكن الرئيس «السادات» علي استعداد لتقديمها أو حتي التفكير فيها في تلك الظروف.. ومرة أخري حسم الأمر.. واتجهت مصر إلي طريق الخطوة بخطوة والتدرج وبناء الثقة مع أمريكا.
وقد مضي الرئيس وفور إقرار النقاط الست وتوقيعها يوم 11 نوفمبر إلي إصدار تعليماته إلي اللواء «الجمسي» بالبدء في تناول موضوع فك الاشتباك مع الجنرال «ياريف».. وحيث عاودا اجتماعاتهما في اليوم التالي مباشرة. وقد يكون من المناسب في هذه المرحلة من مناقشة موضوع النقاط الست القول بأن الجانب المصري لم يستسغ أحاديث الإسرائيليين وتسريباتهم حول تضمن هذه النقاط نصا خاصا برفع الحصار عن باب المندب وقد طلب وزير الخارجية المصري وقف الإعلان عن الاتفاق لحين توضيح الأمر.. كذلك لاحظ الجانب المصري بدء سلسلة من المضايقات الإسرائيلية في مسائل الإمداد للسويس والجيش الثالث.. وهي مضايقات كانت قد دفعت بالعميد «أحمد بدوي»، قائد الفرقة السابعة مشاة وقائد قوات بدر في الشرق مع بدء الحصار إلي رفض مرور بعض التعيينات والمياه إليه.. بل وأفرغ بعض «الجراكن» من المياه أمام الإسرائيليين وقوات الأمم المتحدة.. لقد لقي هذا الموقف تقديرا كبيرا في مصر ولدي القيادة المصرية... وكشفت عن معدن مصري رائع.. لقد توقع الكثيرون عندئذ أن هذا الرجل سوف يكون له شأنه في قيادة القوات المسلحة في مستقبل الأيام مثلما تحقق فعلا مع تعيينه وزيرا للدفاع.. إنه شخصية أخري من شخصيات الجيش المصري الذين ظلموا في فترة سابقة وفي أعقاب هزيمة 67 . مثله في ذلك مثل الفريق «العرابي» قائد الفرقة 21 المدرعة ورئيس الأركان المقبل وكلاهما تعرض لوضع مسيء لكنه لم يفل عضدهما أو يضعف من معنوياتهما ووفائهما لبلدهما.
ومع توقيع هذا الاتفاق - مثلما قلت - ساعة 1500 من الأحد 11 نوفمبر - وهو ذات اليوم من ذات الشهر لتوقيع اتفاق الهدنة في الحرب العالمية الأولي - كتبت ساعة 1600 أقول إن الكثير من اللغط سيدور حول هذا الاتفاق كما ستكون هناك تفسيرات متضاربة.. إلا أن المؤكد أننا نسير علي طريق «التسوية» ويجب أن نحشد أكبر ضغط سياسي وعسكري للإسراع من هذه التسوية التي يمكن أن تقوم - كبداية - علي انسحاب إسرائيل إلي شرق الممرات مع تخفيف الوجود المصري العسكري شرق القناة ووضع قوات حفظ سلام دولية.. وعبرت عن أملي أو توقعي أن يتم ذلك الموضوع في خلال شهرين أو ربما ستة أسابيع مع عقد مؤتمر السلام.
تابعت مصر في الأسبوع التالي لانتهاء زيارة «كسنجر» للقاهرة... جهودها من أجل البدء في تنفيذ النقاط الست وتأمين إمداد مستقر ومستمر للجيش الثالث ولمدينة السويس.. وكذلك الاستمرار في الإعداد لعقد مؤتمر جنيف للبحث في التسوية الشاملة للنزاع العربي - الإسرائيلي ومع التحرك بالتوازي للعمل علي نسج علاقة مصرية - أمريكية متطورة وبذل جهد نحو محاولة يائسة للحفاظ علي علاقات مصر بالاتحاد السوفيتي.. وأيضا الاستمرار في تعظيم الأوراق المصرية عن طريق التعاون والتنسيق النشط مع الأطراف العربية وبالذات البترولية منها.. مع الصبر والتعاون البناء مع سوريا، حفاظا علي وحدة شركاء القتال.. خاصة أن الأداء السوري من وجهة نظر الكثير من المسئولين المصريين كان يتسم إما بالتشدد أو برفض أي تحرك سياسي لمتابعة النجاح في المواجهة المسلحة بعمل سياسي واع. واعتقادي في الحقيقة، اليوم أننا ربما كان يجب علينا أن نبذل المزيد من الجهد لإقناع سوريا بصواب التحرك النشط المصري ذي الإيقاع السريع لاستغلال الزخم الذي أوجده الصدام المسلح والضغوط العسكرية علي قوات إسرائيل علي جبتهي قتال تفرقهما مئات الأميال.. كما كان يجب أيضا السعي للحفاظ علي ثقتها في التوجهات المصرية.. وكان تقديري وقتها.. مثلما هو الآن.. أن الطرفين حاربا معركة رائعة وطبقا استراتيجية عامة واضحة لتوزيع القدرات الإسرائيلية علي جبهتين إلا أنهما لم ينجحا أن يعملا باتساق كامل أثناء إدارة العمليات.. والحقيقة أن ذلك الأمر كان يتطلب الكثير من التحضير والإعداد والتنسيق والتشاور قبل بدء العمليات العسكرية وخلالها وما بعدها.. وهو الوضع الذي كان يتصف في تقديري بعدم الكمال... ويبقي أن الجانبين لم يتفاهما علي الأهداف النهائية للصدام المسلح.. كما أثق أنه لم تكن لديهما رؤية واضحة لما بعد توقف القتال.. وما يتبع هذا دائما من دراسة مسبقة لأي سيناريوهات يجب توقعها ودراستها والعمل علي أساسها فور ظهور هذا الاحتمال أو ذاك ومواجهته بهذا الخيار أو غيره.
كانت هناك لحظات صعبة في تلك العلاقة وكتب الكثيرون.. ومن بينهم السيد/ محمود رياض أمين عام الجامعة العربية وقتها: إن الشكوك كانت تنتاب القيادتين تجاه بعضهما البعض وكان هناك اقتناع لدي القيادة السورية أن مصر تحركت بسرعة وبمفردها.. وعلي الجانب المصري.. فكان الاقتناع أن سوريا لم تتفهم متطلبات العمل السياسي فور انتهاء الصدام المسلح، كما أن سوريا تصورت أن مصر لم تكن مضطرة للقبول بوقف إطلاق النار. لقد مرت العلاقة بين الشريكين بفترات بالغة الصعوبة.. وأتذكر أنه وفي إطار الإعداد لمؤتمر جنيف دارت خلافات مصرية - سورية إلي الحد أنني أطلعت في وقتها علي بعض الاتصالات التليفونية المسجلة المسجلة بين وزيري خارجية مصر وسوريا، «فهمي» وخدام تضمنت الكثير من الحدة والمواجهة.. الأمر الذي صدمني كثيرا، ومرة أخري أقدر أن غياب الفهم المشترك لأهداف العمل المسلح من ناحية وعدم الاتفاق بين الشريكين علي الإطار السياسي والتحرك في اتجاهه في الفترة التالية من ناحية أخري.. أدي إلي هذا التعقيد.. وأدي بالتالي إلي افتراق متدرج.. ثم نهائي مع مبادرة الرئيس السادات في نوفمبر 77 وذلك رغم محاولات حقيقية وجادة للرئيس السادات علي مدي عدة سنوات تلت وقف القتال في أكتوبر 73. حاول خلالها تحقيق مصالح سوريا والدفاع عن مطالبها في مواجهة إسرائيل ومع الأمريكيين.
لقد قرأت خلال العامين الأخيرين أكثر من كتاب ودراسة حول الحرب العالمية الثانية ولقاءات ومشاورات القيادتين السياسيتين والعسكريتين علي جانب الحلفاء.. بريطانيا وأمريكا.. وكشفت هذه الكتب المدي الذي ذهب إليه الجانبان البريطاني والأمريكي في التنسيق بينهما والجدل والخلاف من ناحية أو التفاهم والوئام من ناحية أخري.. إلا أنها لم تكن فقط حربا ضد ألمانيا ولكن أيضا فيما بينهما كحلفاء.. ونجحا سويا في هزيمة ألمانيا ودول المحور وتقديري اليوم مرة أخري.. أنه كان ينبغي أن تكثف القيادات العسكرية والسياسية المصرية والسورية تنسيقها ولقاءاتها ومفاهيمها المشتركة وحتي لا يصلا إلي هذا الوضع الذي واجههما في نوفمبر 73.
أعود إلي المحور الأخير للحركة المصرية وهو محور العمل علي تحقيق فض اشتباك كبير للقوات يفتح الطريق لبدء التدرج في اتجاه تسوية الموقف وتناول بعد «الأراضي» والانسحاب منها.. وهي مهمة استمر اللواء «الجمسي» يقوم بها مع «ياريف» لعدة أسابيع تالية بعد توقيع اتفاق النقاط الست في 11 نوفمبر.. وبالتوازي يعمل عليها أيضا الجانب المصري ممثلا في الرئيس السادات والخارجية المصرية وهي تحركات إن كشفت عن شيء فهي توضح منهجية العمل المصري منذ توقف القتال.. وهو السعي الحثيث لعمل سياسي يصل بنا إلي نهاية الطريق.. وهو تخليص الأرض المصرية.. والعمل بالتوازي علي التسوية الفلسطينية.. ويجب الاعتراف هنا أن الأيام كشفت عن نجاح إسرائيل في المناورة والمراوغة مع كل من مصر والولايات المتحدة وبما أدي إلي فقدان الإيقاع للتسوية بعد عام 75 - مرحلة فض الاشتباك الثاني - وما تلاه من سكون.. فرض علي الرئيس السادات التفكير في تجهيز صدمة جديدة.. ولم تكن صدمة عسكرية هذه المرة.. ولكن عمل سياسي صادم للكثير من العرب وسوف نكتب بإذن الله في هذه المسائل في سلسلة مقالات أخري حول جهد السلام في الشرق والأوسط خلال هذه الأعوام.
قبل أن أعود إلي تناول مسألة مفاوضات الكيلو 101 وموضوع الإعداد لمؤتمر السلام في جنيف أجد أن من الهام التطرق إلي علاقة السيد حافظ إسماعيل كمستشار للأمن القومي مع السيد إسماعيل فهمي وزير الخارجية الجديد الصاعد.
فقد كان فهمي يقدر أن وزير الخارجية هو من ينبغي له أن يجري الاتصالات مع وزير الخارجية الأمريكية وليس مستشار الأمن القومي المصري.. كما أن التطورات السياسية والاقتراب من التحضير لمؤتمر جنيف كان يفرض أن تتناول الخارجية وليس الأمن القومي هذه التحضيرات.. وهو ما تم فعلا وبذلك بدأ انزواء السيد حافظ إسماعيل.. خاصة وقد ابتعد تدريجياً عن الإيقاع الذي انطلق فيه الرئيس السادات في تحركه تجاه الولايات المتحدة تحديدا.. وكشفت التيارات الدفينة أو المعلنة داخل القيادة المصرية عن وجود توجهات مختلفة.. وأخذ بالتالي دور وزير الخارجية يتصاعد في مقابل اضمحلال دور مستشار الأمن القومي ونتذكر جميعا في مكتب مستشار الأمن القومي واقعة تكليف وزير الخارجية.. للدكتور عبدالهادي مخلوف.. مدير مكتب مستشار الأمن القومي بموافاته بصورة كاملة من كل المكاتبات والرسائل التي دارت بين حافظ إسماعيل وكسنجر خلال فترة أسابيع الحرب وذلك بناء علي تعليمات الرئيس وقد سأله الوزير إسماعيل فهمي لماذا لم توزعوا صورة من هذه الرسائل علي الخارجية وأجابه الدكتور مخلوف: إن تعليمات الرئيس كانت حظر إطلاع أحد علي هذه المكاتبات وأنه عندما وجه بالعكس.. فقد تمت إحاطة الخارجية بالملف كله.. وهنا لا يجب أن يفوتني أن أقول إن مراسلات حافظ إسماعيل إلي كسنجر لم تكن تتم باعتبار كسنجر وزيراً للخارجية بل بكونه مستشارا أيضا للأمن القومي الأمريكي وحتي تخليه عن هذا المنصب للجنرال برنت سكوكروفت في فترة تالية.
لقد كان هناك بعض التوتر.. إلا أنه انزوي تدريجيا بانتهاء مسئوليات حافظ إسماعيل في فبراير 74 وعودتنا جميعا إلي وزارة الخارجية وبقية الأجهزة المصرية التي تم إعارتنا سابقا منها إلي جهاز الأمن القومي المصري برئاسة الجمهورية ويجب أن أعترف هنا.. أنه وبرغم عدم تكليفي عندئذ بالعمل في مكتب وزير الخارجية والاكتفاء بتعيين المستشار أحمد ماهر السيد صديقي الحميم ومناصري طوال حياتي الوظيفية والشخصية في مكتب وزير الخارجية فقد كنت أستشعر أن الوزير فهمي يحمل مشاعر طيبة للغاية تجاهي كما وافق عندما طلب منه الدكتور عبدالهادي مخلوف تأمين مواقع جيدة لأعضاء مكتب مستشار الأمن القومي عند نقلهم بالخارج وتم تعييننا جميع في مواقع تتيح لنا المزيد من تراكم التجربة والمعرفة توطئة لمهام أكبر كانت تنتظرنا وأخذ الوزير إسماعيل فهمي يعد لمؤتمر جنيف.. وكتبت بعض الفقرات في اليوميات وبما يكشف مراحل التقدم في التجهيز والإعداد.. وكان الحديث يدور حول مشاركات لمصر - الأردن - سوريا - إسرائيل.. كما قيل إن وفدا فلسطينيا وآخر لبنانيا سيشاركان في المرحلة التالية للمؤتمر.
وهي مرحلة لم تتحق.. كا لم تشارك سوريا في المرحلة الأولي..وعقد المؤتمر ليوم واحد وانقضي دون أي تقدم.
وعاد التركيز ينصب علي محادثات الكيلو 101 واتصالات كسنجر مع الخارجية المصرية للاتفاق علي فض الاشتباك مثلما استقر عليه الأمر في محادثات الرئيس السادات مع كسنجر يوم 7 نوفمبر.
وسجلت في يومياتي لهذه الفترة.. وبالتحديد يوم 13 نوفمبر الثلاثاء ساعة 1800 أن أحمد ماهر يتحدث من واقع أحاديث له مع المستشار حافظ إسماعيل عن تفاهم مصري- أمريكي لم يفوتني تسجيله سابقا في اليوميات عن فض اشتباك يأخذ إسرائيل إلي الشرق من القناة ويفتح الطريق أيضا إلي تسوية شاملة للنزاع بترابط محكوم بين المراحل، خاصة أن كسنجر كان قد تحدث مع الرئيس السادات أيضا عن أهمية التوصل إلي تسوية فلسطينية تنهي النزاع.. وأنه تصور حسب اليوميات المسجلة ساعة 2300 من يوم الخميس 15 نوفمبر.. وجود دولة فلسطينية في الضفة الغربية وغزة يحدد العرب لها حدودها وقد دار هذا من خلال حديث للرئيس السادات مع وزير خارجية الأردن الذي كان الملك حسين قد أوفده إلي القاهرة في هذا اليوم.
سارت محادثات الجمسي - ياريف واستمر الجدل بين الجانبين.. سواء بالنسبة لتفسير اتفاق النقاط الست.. أو مفهوم فض الاشتباك ونقل التسوية إلي مرحلة سياسية بدلا من التحركات العسكرية.. وطرح الجنرال ياريف يوم 15 نوفمبر في الاجتماع الحادي عشر للجانبين.. أفكارا تقوم علي أهمية عدم ظهور غالب أو مغلوب نتيجة لهذه المحادثات وتحقيق فض الاشتباك مع أهمية تحرك مصر لإعادة السكان إلي مدن ومناطق القناة واستعادة الحياة المدنية إلي هذه المناطق.. وأن تنسحب إسرائيل إلي خطوط دفاعية قوية تردع العدوان وتغني عن بناء خطوط جديدة مؤقتة ومع تسكين قوات حفظ سلام دولية بين الجانبين مستقبلا مع تطور الانسحابات.. كما أكد ياريف أهمية وضرورة تأمين الاتصالات المباشرة بين مصر وإسرائيل.. وهي نقطة كانت إسرائيل تعطيها تركيزها واهتمامها المحوري واستفسر اللواء الجمسي هل يعني ذلك أن إسرائيل تعرض الانسحاب إلي الشرق من القناة لمسافة بعيدة مع عدم تأثرأو انسحاب القوات المصرية إلي الغرب.. فأجابه ياريف بالإيجاب وإن أضاف مع تخفيف للتواجد المصري علي طول القناة نحو الشرق وحتي تستطيع إسرائيل أن تثق في صدق النوايا المصرية وبالتالي التحرك سويا للمزيد من التسويات والانسحابات في فترة تالية وتساءلت من جانبي في اليوميات المسجلة ساعة 2400 من الجمعة 16 نوفمبر.. هل نقبل وهل نرضي بستارة من القوات..أشك وأضفت لعلنا نقبل بفرقة ونصف للتواجد بالشرق.. وسوف تكشف الأيام التالية حقيقية مواقف الطرفين ونواياهما إلا أن الأمر الهام الذي ينبغي أن أوضحه بشأن هذه النقطة.. أن القوات المسلحة المصرية كانت تتواجد وبشكل متعاظم وبحشد رئيسي غير مسبوق حول الجيب الإسرائيلي.. كما كانت دائمة الاستفزاز للإسرائيليين والتعرض لهم.. وكان الجانب الإسرائيلي يخشي احتمالات عمل مصري مفاجئ إلي الحد أنه أقام مجموعة تحصينات وخندقاً واسعاً عميقاً مضاداً للدبابات حول كل الجيب لتقييد مسارات ومحاور أي هجوم مصري محتمل ضده.
لقد كشف الانسحاب الإسرائيلي من الجيب بعد توقيع اتفاق فض الاشتباك في أسوان في 21 يناير 74. عن وجود حجم ضخم للغاية أيضا للجانب الإسرائيلي داخل الجيب.. بما يؤشر إلي أنه إذا ما كان الجانب المصري قد قام بالهجوم لتصفية هذا الجيب لكانت قد دارت معركة هائلة ربما تجاوزت كثيرا ما سبقها من صدام في حرب أكتوبر.. خاصة أن مساحة الأرض كانت ضيقة ومحصورة من ناحية.. وبها حجم هائل من القوات من ناحية ثانية، فقد أحصي الجانب المصري مع عودة القوات الإسرائيلية إلي الشرق عبر الكباري - أنه كانت تحت نظر قواتنا وفي مدي ضربها - أكثر من 600 دبابة إسرائيلية بخلاف آلاف المركبات الأخري ورغم هذا الحديث من جانب ياريف إلا أن جلسات المفاوضات التالية كشفت مرة أخري عن تراجع الجانب الإسرائيلي ودار لغط بين الجانبين وبدأ الصبر المصري في النفاد واستشعرت ذلك علي مستوي أحاديث أعضاء المكتب أو حتي أحاديث العسكريين المصريين العاملين معنا.. وأخذت الآراء تتفاوت.. وقال البعض.. فلنتحرك عسكريا.. وقال البعض الآخر.. فلنأخذ إسرائيل إلي مؤتمر جنيف وهي موجودة بالغرب في الجيب حيث إن أوضاعها العسكرية الضاغطة وطول امتداد خطوط مواصلاتها واتصالاتها تضعفها كثيرا وتفرض عليها المرونة السياسية في المؤتمر..وقد رأي وزير الخارجية إسماعيل فهمي.. طبقا لليوميات أنه يجب حث كسنجر علي إنهاء مسألة الوجود الإسرائيلي في غرب القناة قبل بدء مؤتمر جنيف حتي تكون المفاوضات ذات توجه إيجابي واستراتيجي وزادت كثافة الرسائل بين فهمي وكسنجر.. وكنا مازلنا نحصل علي صورة كاملة من كل التقديرات والمعلومات التي ترفع للرئيس من أي جهة بالدولة.. وبالذات الدفاع/ الخارجية/ الداخلية/ المخابرات العامة.. واستمر كسنجر يضغط بالنسبة لمسألة المرور البريء في باب المندب.. وقام الجانب الأمريكي بإبلاغنا بأن عددا من السفن المتجهة إلي إيلات ستمر في المضيق خلال أيام.. حول 20 نوفمبر أو ما بعدها.. وأجاب الجانب المصري عليكم أن تبلغونا مقدما باسم كل سفينة.. وكان الهدف بطبيعة الأحوال محاولة الإبقاء علي شكل من أشكال السيطرة علي المضيق رغم أن القرار المصري عندئذ كان رفع الحصار بهدوء وعقد الاجتماع الثاني عشر بين الجمسي وياريف يوم الثلاثاء 20 نوفمبر وسجلت: لا اتفاق.. وقد عرض الإسرائيليون انسحابا إلي الشرق في مقابل تخفيف قوات الجيش الثالث وبقاء الجيش الثاني علي ما هو عليه.. ولم نوافق.. وكان الواضح أن الأطراف استمرت تناور علي بعضها البعض دون التزام بعد بموقف استراتيجي نهائي.. ووضح أن الجانب الإسرائيلي يسعي لإضاعة الوقت.
جاءت رسالة كسنجر إلي حافظ إسماعيل يوم الأربعاء 21 نوفمبر.. يرد فيها علي ما وصله من وزير الخارجية المصرية حول موضوع فض الاشتباك قبل مؤتمر جنيف.. وتضمنت الرسالة الأمريكية.. أنه تقرر تأجيل مؤتمر جنيف لكي يعقد في 17 ديسمبر.. وفي الحقيقة فقد عقد بعد ذلك بعدة أيام في 21 ديسمبر.
وطلب كسنجر الحضور إلي مصر قادما من سوريا يوم 14 ديسمبر.. مضيفا أن من الخطأ تصميم مصر علي تنفيذ أو مناقشة فض الاشتباك قبل مؤتمر جنيف.. لقد كشفت الرسالة عن محاولات كسنجر لتطويع مواقف الطرفين بشكل يحقق في النهاية المصالح الأمريكية.. ومضي الجمسي وياريف في العمل لمحاولة الإسراع بخطوات فض الاشتباك.
وعقد اجتماعان بينهما يومي 22/23 نوفمبر.. وكتبت في ساعة 1700 من الجمعة 23 نوفمبر: أعتقد أن الجانبين علي وشك التوصل إلي اتفاق.. وأن إسرائيل تعرض الآن الانسحاب من الشرق إلي مسافة 12 كيلو متر من الحد الأمامي لقواتنا في سيناء مع وجود ستارة رمزية لقواتنا في الشرق.. وأجاب الجمسي بطرح مصري يقترح انسحاب إسرائيل إلي مسافة 60 كم من الحد الأمامي لقواتنا.. ورفضت إسرائيل وكتبت: باعتقادي أننا سنتوصل إلي اتفاق مهم يؤمن الانسحاب الإسرائيلي إلي خط الممرات وبقاء قواتنا في مواقعها الحالية مع تخفيف واضح لها ونشر قوات حفظ سلام دولية بينهما.. وبدء مؤتمر السلام.
أخذ الجانبان المصري والإسرائيلي يتقاضيان وتصورت من كل ما قرأته عندئذ أننا فعلا نقترب من تفاهم.. وفجأة تجمد الموقف الإسرائيلي.. واضطررنا للذهاب إلي جنيف دون نتائج.. وعاد كسنجر إلي المنطقة مرة ثالثة في يناير 74 وكشفت الأوراق والكتب التي نشرت بعد ذلك في الأعوام التالية أن كسنجر تدخل مع الإسرائيليين وفرض إبطاء الإيقاع لكي يقوم هو وليس الأطراف بصياغة الاتفاق.. اتفاق فض الاشتباك الأول الموقع في 21 يناير.. يلاحظ القارئ هنا أنني لم أتعرض لتفاصيل اتفاق فض الاشتباك كما لم أتعرض لمؤتمر جنيف حيث أفضل أن تكون الرواية لمن شارك فيها وكتب عنها. وأتذكر قيامنا - أي هيئة مكتب حافظ إسماعيل - بزيارة الجبهة في السويس وإلي الجيش الثالث يوم 25 يناير..ورأيت صورة رائعة للجندية والروح النضالية للجيش المصري.. رأيت قوات رائعة.. ومعدات مصانة وأفراداً وجيشاً لا ينسي.. ومرة أخري استشعرت كل ما هو رائع في الشخصية المصرية عندما تواجه التحدي.. كان حافظ إسماعيل يتواجد في أسوان.. ولكن علي هامش اجتماعات الرئيس السادات مع كسنجر وعاد بعد ذلك إلي القاهرة.. ومضي في طريق آخر لخدمة الوطن.. وكتب في كتابه «أمن مصر القومي».. أنه وكما كان توقيع اتفاقية فض الاشتباك يمثل نهاية للوضع العسكري المعقد علي الجبهة المصرية.. ونقطة بدء مستقرة لعلاقات مصر الخارجية.. فقد أصبح أيضا بداية لمرحلة جديدة.. ولقد أحسست في هذا الإطار أن الوقت قد حان لكي أخطو خارج دائرة رئاسة الجمهورية بعد 29 شهرا من العمل مستشاراً للأمن القومي وذلك تنفيذا لما استقر عليه الأمر في لقاء مع الرئيس السادات.
وانتهي بالتالي عملنا مع حافظ إسماعيل في مستشارية الأمن القومي.
ويبقي أملي كبيراً في المزيد من الكتابة والتقييم لظروف الحرب وما حدث خلالها وذلك من خلال نظرة نقدية لكل مشاهداتي في هذه الفترة وفيما يتعلق بتفاصيل ما كتبت فيه حول هذه المرحلة.. فقد يكون من المناسب قراءة مجموعة كتب إسماعيل فهمي، الجمسي، محمود رياض، الشاذلي، «أحمد إسماعيل»، «جمال حماد» وغيرهم.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.