كلمة الرئيس السيسي بمناسبة الاحتفال بالذكرى ال42 لتحرير سيناء    رئيس جامعة المنوفية يهنئ السيسي والشعب المصري بعيد تحرير سيناء ال42    السيسي: سيناء شاهدة على قوة وصلابة شعب مصر في دحر المعتدين والغزاة    مع قرب تطبيق التوقيت الصيفي.. هل تتغير مواقيت الصلاة؟    سعر الدولار في البنوك المصرية اليوم الخميس 25 أبريل 2024    ختام فعاليات مبادرة «خير مزارعنا لأهالينا» في الكاتدرائية المرقسية    قطع المياه عن عدة مناطق في القاهرة الكبرى.. اعرف الأماكن والموعد    «الإسكان» تسترد 9587 متر مربع من الأراضي المتعدى عليها بالسويس الجديدة    وزير النقل يشهد توقيع عقد تنفيذ أعمال البنية الفوقية لمشروع محطة الحاويات تحيا مصر 1 بميناء دمياط    الشرطة الأمريكية: توقيف 93 شخصا خلال تظاهرة داعمة لغزة في جامعة في لوس أنجليس    خبير شؤون أمريكية: واشنطن غاضبة من تأييد طلاب الجامعات للقضية الفلسطينية    منظمة التعاون الإسلامي ترحب بتقرير لجنة المراجعة المستقلة بشأن وكالة الأونروا    بعثة الزمالك تطير إلى غانا استعداداً لمواجهة دريمز في الكونفدرالية    باريس سان جيرمان يتحرك لضم نجم برشلونة في الميركاتو الصيفي    فرج عامر: لم نفكر في صفقات سموحة حتى الآن    «الأرصاد»: انكسار الموجة الحارة اليوم.. والعظمى على القاهرة الكبرى تسجل 36 درجة    نشرة مرور "الفجر ".. سيولة بمحاور القاهرة والجيزة    الشواطئ العامة تجذب العائلات في الغردقة هربا من الحر.. والدخول ب20 جنيها    مواعيد المترو بعد تطبيق التوقيت الصيفي.. اعرف جدول تشغيل جميع الخطوط    بيع لوحة فنية للرسام النمساوي جوستاف كليمت بمبلغ 30 مليون يورو في مزاد بفيينا    تعرف على مواقيت الصلاة اليوم الخميس25-4-2024    الرئيس التنفيذي للاتحاد الدولي للمستشفيات: مصر تشهد تطورا في الرعاية الصحية    «الصحة»: تنفيذ 35 مشروعا بالقطاع الطبي في سيناء منذ 2014    لأول مرة .. أمريكا تعلن عن إرسالها صواريخ بعيدة المدى لأوكرانيا    في حماية الاحتلال.. مستوطنون يقتحمون باحات المسجد الأقصى    احتجاجات طلابية في مدارس وجامعات أمريكا تندد بالعدوان الإسرائيلي على غزة    بينهم 3 أشقاء.. إصابة 9 أشخاص في حادث تصادم ميكروباص مع ربع نقل في أسيوط    معلق بالسقف.. دفن جثة عامل عثر عليه مشنوقا داخل شقته بأوسيم    الكنيسة الأرثوذكسية تحتفل بجمعة ختام الصوم غدا| تفاصيل وطقس اليوم    عيد تحرير سيناء.. جهود إقامة التنمية العمرانية لأهالي أرض الفيروز ومدن القناة    6 كلمات توقفك عن المعصية فورا .. علي جمعة يوضحها    حكم الحج بدون تصريح بعد أن تخلف من العمرة.. أمين الفتوى يجيب    تفاصيل اجتماع أمين صندوق الزمالك مع جوميز قبل السفر إلى غانا    مستوطنون يقتحمون المسجد الأقصى في ثالث أيام عيد الفصح    علماء بريطانيون: أكثر من نصف سكان العالم قد يكونون عرضة لخطر الإصابة بالأمراض التي ينقلها البعوض    «الجمهورية»: الرئيس السيسي عبر بسيناء عبورا جديدا    عائشة بن أحمد تتالق في أحدث ظهور عبر إنستجرام    جدول ترتيب الدوري الإنجليزي قبل مباراة مانشستر سيتي وبرايتون اليوم    الأكثر مشاهدة على WATCH IT    هل ترك جنش مودرن فيوتشر غضبًا من قرار استبعاده؟.. هيثم عرابي يوضح    الشرطة الأمريكية تعتقل عددًا من الطلاب المؤيدين لفلسطين بجامعة كاليفورنيا.. فيديو    بسبب روسيا والصين.. الأمم المتحدة تفشل في منع سباق التسلح النووي    المنيا.. السيطرة على حريق بمخزن أجهزة كهربائية بملوى دون خسائر في الأرواح    بالصور.. نجوم الفن يشاركون في تكريم «القومي للمسرح» للراحل أشرف عبد الغفور    الفندق عاوز يقولكم حاجة.. أبرز لقطات الحلقة الثانية من مسلسل البيت بيتي الجزء الثاني    عضو بالشيوخ يطالب بالمساهمة في إمداد مركز طب الأسرة بدمياط بالمستلزمات    الاحتفال بأعياد تحرير سيناء.. نهضة في قطاع التعليم بجنوب سيناء    هل يجوز قضاء صلاة الفجر مع الظهر؟.. «الإفتاء» تحسم الجدل    رئيس «الطب النفسي» بجامعة الإسكندرية: المريض يضع شروطا قبل بدء العلاج    اسكواش - ثلاثي مصري جديد إلى نصف نهائي الجونة الدولية    تيك توك تتعهد بالطعن في قانون أمريكي يُهدد بحظرها    مش بيصرف عليه ورفض يعالجه.. محامي طليقة مطرب مهرجانات شهير يكشف مفاجأة    "في العاصمة الإدارية".. مصر تستضيف كأس العالم للأندية لكرة اليد لمدة 3 سنوات    توجيهات الرئيس.. محافظ شمال سيناء: أولوية الإقامة في رفح الجديدة لأهالي المدينة    منسق مبادرة مقاطعة الأسماك في بورسعيد: الحملة امتدت لمحافظات أخرى بعد نجاحها..فيديو    الزكاة على أموال وثائق التأمين.. الإفتاء توضح أحكامها ومتى تجب    فريد زهران: نسعى لوضع الكتاب المصري في مكانة أفضل بكثير |فيديو    حظك اليوم برج الميزان الخميس 25-4-2024 على الصعيدين المهني والعاطفي    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



المسئولون المصريون الذين طلبوا تأجيل قرار الحرب


أحمد أبو الغيط يكتب : شاهد علي الحرب والسلام
يواصل الدبلوماسى الكبير أحمد أبوالغيط وزير الخارجية فى هذه الحلقة شهادته التاريخية عن حرب أكتوبر، فيكشف لنا عن تفاصيل لحظة فارقة فى تاريخ أمة بأكملها هى لحظة اتخاذ قرار المعركة داخل مجلس الحرب فى نهاية سبتمبر 3791، ويستعرض لنا ما دار فى رءوس القيادات المصرية واختلافهم بين الإقدام والإحجام.. ثم بعدها يفند فرية أن حرب أكتوبر كانت تمثيلية مصرية إسرائيلية أمريكية مشتركة لأهداف سياسية إعلامية، ثم فى النهاية يستخلص برؤيته الاستراتيجية الدروس التى يتعين على الجيل الحالى تعلمها من درس أكتوبر البليغ.
فى مثل هذا اليوم، منذ 37 عاماً.. 30 سبتمبر 1973 أى قبل بداية عبور الجيش المصرى لقناة السويس بستة أيام.. كنا جميعاً نشارك فى إفطار رمضانى بدعوة من الدكتور «عبدالهادى مخلوف»، مدير مكتب مستشار الأمن القومى.. مجموعة صغيرة من دبلوماسيى وزارة الخارجية الذين يعملون تحت رئاسة الدكتور «مخلوف» فى هيئة مكتب مستشار الأمن القومى «حافظ إسماعيل».. كان العدد محدوداً.. المستشار «أحمد ماهر السيد» السكرتير الأول «إيهاب وهبة» السكرتير الأول «أحمد عادل» السكرتير الثانى «فاروق بركة» السكرتير الثالث «محمد الجوالى» السكرتير الثالث «أحمد أبو الغيط» السكرتير الثالث «حسين شلش»..
كان يعمل معنا أيضاً مجموعة أخرى من أعضاء بعض الأجهزة المصرية العاملة فى حقل الأمن القومى.. من المخابرات العامة/ الحرس الجمهورى.. وبعض المتخصصين الآخرين فى المسائل الاقتصادية.. مجموعة صغيرة العدد ولكن يحكمها الانضباط الشديد ولديها اطلاع كبير على كل أوضاع الدولة المصرية فى كل المجالات.. سواء الوضع الاقتصادى/ التموينى/ الأمنى/ علاقاتنا الخارجية/ وتطورات الموقف العسكرى وحيث كان يصلنا بشكل دورى.. ربما يومى.. تقرير عن نشاطات العدو وتحركاته أمام قواتنا بالجبهة، بالإضافة إلى أى نشاطات استطلاعية يقوم بها على خطوط وقف إطلاق النار أو حتى محاولات اختراق العمق للتحقق من وضع ما.. يثير اهتمامه أو قلقه أو للحصول على معلومات عن قواتنا وتسليحها وغير ذلك من مسائل.
وأستذكر فى هذا المجال أن «حافظ إسماعيل» كتب على أحد تقارير الاستطلاع الجوى الإسرائيلى فى مايو 73 وهو تقرير دقيق يتسم بالإيجاز ولكن يعرض لتفاصيل خط الطيران والأهداف المحتملة للطلعة موضوع التقرير وتعده إدارة المخابرات الحربية والاستطلاع.. وحيث دخلت طائرتا ميراج إسرائيليتان للاستطلاع.. إلى المنطقة ما بين جنوب البحيرات المرة والسويس واتجهتا جنوباً إلى منتصف الساحل المصرى على البحر الأحمر ثم عادتا أدراجهما شمالاً ودخلتا من فوق نقطة بالقرب من شرم الشيخ إلى قاعدتهما فى سيناء.. وأقول كتب «حافظ إسماعيل» إن استطلاع العدو سوف يزداد فى الفترة القادمة بشكل مكثف.. فوق الإسكندرية ومناطق الدلتا.. وتنبهت لهذه التأشيرة وأهميتها.. إذ إن توقع «حافظ إسماعيل» زيادة محاولات الاستطلاع معناه أن العدو سيسعى إلى الحصول على معلومات لمسائل تشغله ربما بخصوص النوايا المصرية أو لمعرفة التغيرات فى الأوضاع المصرية.. وأخذت أتحدث مع «أحمد ماهر».. وقلت إن هذا أمر غريب.. ولماذا يتوقع المستشار «حافظ إسماعيل» هذا الوضع.. واستخلصت نتيجة مفادها أن ذكر «الإسكندرية».. أى الميناء.. يعنى أنه سيصلنا فى الغالب معدات جديدة سيعلم بها العدو ويسعى لرصدها.. وضحك «أحمد ماهر».. وقال فعلاً.. هذه قراءة دقيقة للموقف.. إنها مقاتلات قاذفة جديدة.. سوخوى .17 وصواريخ متوسطة المدى SCUD/B وهى تفاهمات مصرية/ سوفيتية جاءت نتيجة للعقود الموقعة بين مصر والاتحاد السوفيتى فى نهاية عام .72 كان «حافظ إسماعيل» قد أبلغه بها فى إحدى مناقشاتهما.
* تعزيز القوات الجوية
مضى الإفطار الرمضانى.. وأخذنا نتبادل أطراف الحديث الهادئ بعد الإفطار ثم تلقى صاحب الدعوة اتصالاً تليفونياً.. وتحدث قليلاً وعاد إلينا لكى يقول إنه سوف يستأذن فى الذهاب للقاء المستشار «حافظ إسماعيل» الذى كان هو المتحدث على الجانب الآخر.. وانصرفنا جميعنا.. ومرت أيام قليلة.. وجاءت حرب أكتوبر.. وفى يناير/ فبراير 1974 ومثلما سبق أن كتبت.. طلب الدكتور «عبدالهادى مخلوف» أن أقوم بإعادة جرد وتسجيل وفهرسة الأوراق الأكثر أهمية وحساسية بمكتب مستشار الأمن القومى.. وأخذت أنهل من قراءة الأوراق أثناء هذا الجرد الذى استغرق أسابيع ممتدة.. قرأت من محاضر مقابلات ولقاءات ومفاوضات الرئيس «السادات» مع القيادة السوفيتية على مدى الفترة من نهاية 1970 وحتى منتصف .73 ولاحظت العراك الذى كان يدور بيننا وبين السوفيت حول أوضاعنا العسكرية واحتياجاتنا من السلاح والمعدات ورغباتنا فى زيادة قدرات الردع لدينا لكى نستطيع أن نفرض على الجانب الإسرائيلى إرادتنا.. على الأقل فيما يتعلق بسيطرتنا على سماواتنا وأراضينا.. من هنا كان الملاحظ أن الكثير من المناقشات كانت تدور حول الحاجة لتعزيز القدرات الخاصة بقواتنا الجوية وتسليحها لكى تتمكن من التصدى للتهديدات الإسرائيلية للعمق المصرى.. وهو ما كان يمثل خشية كبيرة دائماً لنا.. كما كان الاهتمام ينصب على زيادة قدرات الدفاع الجوى وزيادة عدد بطارياته وبما يؤدى إلى وضع القوات البرية المصرية وكل المناطق الحيوية المصرية تحت الستارة المؤثرة لنظام دفاعى جوى كان يمثل وقتها.. أحد أقوى الدفاعات الجوية فى العالم.. وفى إطار هذا التسجيل.. اطلعت على هذه الوثيقة الهامة الخاصة باجتماع الرئيس «السادات» مساء يوم 30 سبتمبر.. نفس ليلة الإفطار الذى حضرناه فى منزل الدكتور «عبدالهادى مخلوف».. والذى غادرنا وقتها للمشاركة فيه وتسجيل كل مناقشات الرئيس مع أعضاء القيادة المصرية أو فيما سمى مجلس الأمن القومى المصرى.. وكنت قد تطرقت بإيجاز إلى محتويات المحضر فى المقال المنشور بالأهرام يوم 6 أكتوبر .2009 وفوجئت منذ عدة أسابيع بعد ذلك باتصال من الدكتور «عبد الهادى مخلوف» الذى طلب أن أرسل إليه سيارة لكى يبعث مع سائقها مظروفاً يرغب فى إطلاعى على محتوياته.. وفتحت المظروف.. ويالها من مفاجأة كبيرة.. لقد احتفظ الدكتور «مخلوف» بصورة المحضر الذى سجله لهذا الاجتماع التاريخى للإعداد لحرب أكتوبر.. لقد كان ما قرأته فى قصر عابدين فى يناير/ فبراير .74 هو التفريغ الكامل للوثيقة.. ثم أجدنى بعد ذلك ب 37 عاماً أطلع على الأصل بخط «عبدالهادى مخلوف»... وأخذت أحاول أن أفك طلاسم وشفرة خط صاحبها... واسترجعت قراءة المحضر... واستشعرت الدموع فى عينى... لقد كانت أياماً رائعة وتحديات هائلة... وكانت إرادة القتال لدى الرئيس واضحة وقوية ولديه من التصميم ووضوح الرؤية ما يكشف عن إيمان هائل بالوطن والله.
وقد لا يستشعر الكثير من أبناء وطننا اليوم، ممن تقل أعمارهم عن الخمسين، الظروف التى عاشها هذا الجيل من أبناء مصر.. الذين حاربوا معركة أكتوبر.. وأيضاً تعرضوا لصدمة ومأساة 5 يونيو .67 لقد كانت الضربة الإسرائيلية موجعة.. ولكنها لم تكن قاضية.. إلا أن الإحساس الهائل بالحاجة لرد الاعتبار والحفاظ على دور مصر وتأثيرها فى المنطقة... وهى الدولة والوطن الذى حمل لواء الدفاع عن المنطقة وثقافتها وحضارتها على مدى أكثر من ألف عام.. قد فرض ثقله على أبناء هذا الجيل.. ومن ثم جاء التصميم.. والعمل.. والتخطيط.. والتدريب.. والتصدى.. والتحدى.. وكل ما هو إيجابى فى هذه الشخصية المصرية التى ما هى إلا انعكاس لصلابة جرانيت أسوان أو شدة وقسوة صحراء درب الأربعين.
ولذلك فقد رأيت من الأهمية بمكان أن أعود فى مقال اليوم إلى ما تضمنه هذا المحضر.. محضر اجتماع قرار الحرب.. وما شهده من اتجاهات أوضحتها المناقشات بين أقطاب السلطة السياسية والعسكرية والأمنية فى مصر فى هذه اللحظة.
* أجتماع مجلس الحرب
يبدأ الاجتماع ساعة 2130 فى منزل الرئيس «السادات» على النيل فى الجيزة بالترحيب بالمجموعة.. ومن بينهم الدكتور «محمود فوزى» وزير الخارجية/ السيد «عزيز صدقى»/ الفريق «أحمد إسماعيل على» وزير الحربية/ الدكتور «عبدالقادر حاتم» وزير الإعلام/ السيد «أحمد ثابت» وزير التموين/ السيد «حافظ بدوى» رئيس مجلس الشعب/ السيد «عبدالعزيز كامل» / السيد «ممدوح سالم» وزير الداخلية/ الدكتور «حافظ غانم» / و«حسن التهامى» و«حافظ إسماعيل» مستشار الأمن القومى/ «عبدالفتاح عبد الله» وزير الدولة لشئون مجلس الوزراء/ الدكتور «أشرف غربال» مساعد مستشار الأمن القومى. وقام بتسجيل المحضر، كل من الدكتور «عبدالهادى مخلوف» والسيد «عثمان نورى» مساعد مستشار الأمن القومى.
يقول الرئيس إنه يعقد هذا الاجتماع لكى يضع الحضور فى الصورة وبهدف مراجعة الموقف العام فى مصر والتحرك فى مواجهة تحديات هذا الوضع.. وتابع الرئيس «السادات» شرحه بالقول... «إن أيا من حكام مصر على مدى خمسة آلاف عام لم يواجه الوضع الذى نواجهه حالياً... كما أنه لا مسئول مصرى واجه ما يواجهه الرئيس من تحديات على مدى سبعة آلاف عام من التاريخ المصرى المكتوب. وإن هذه الأوضاع بالتالى تفرض على صاحب القرار المصرى، وهذه المجموعة الصغيرة من المسئولين المصريين، واجب اتخاذ القرار المصيرى وأن تقرر مصر لنفسها ولا تترك القرار لأحد آخر». ثم ذكر الرئيس «السادات» أنه يرغب فى تحليل الأوضاع حولنا وداخلياً... ففيما يتعلق بتحليل الوضع الدولى وارتباطه بالصراع مع إسرائيل فإن المؤكد، والحديث للرئيس «السادات»، أن أمريكا تستمر فى دعمها الكامل لإسرائيل رغم تفوق الأخيرة بشكل كبير على كل الأطراف العربية مجتمعة... وأن من الواضح بالتالى أن الولايات المتحدة تسعى وتحاول أن تفرض على مصر شروط إسرائيل ووجهات نظرها فى علاقتها بمصر وبالنزاع العربى الإسرائيلى. كما أن واشنطن - وفى محاولة تحقيق أهدافها تجاهنا - تطرح بعض أفكار تستهدف تحريك الموقف... ومن بينها فكرة إعادة تشغيل وفتح قناة السويس ثم بدء مفاوضات تالية بين مصر وإسرائيل... وهنا فإن الموقف والمقترح يمثل خطورة شديدة إذ سوف يصبح الأمر هو فتح القناة وإتاحة الفرصة لإسرائيل بحق المرور دون أى تسوية شاملة للنزاع... بل هذا سوف يمثل حلا جزئيًّا ناقصا وخطيراً ويعرض مصالح مصر لخطر جسيم».
وأخذ الرئيس يشرح عناصر التفكير والتحركات المصرية فى مواجهة مناورات إسرائيل وأمريكا بقوله «إننا وبدلاً من القبول بالطرح الأمريكى/ الإسرائيلى فقد مضينا بعرض القضية على مجلس الأمن وحققنا انتصاراً كبيراً فى شهر يوليو 73 عندما نجحنا فى عزل إسرائيل والولايات المتحدة وحصلنا على 14 صوتاً مؤيداً لمشروع القرار المقدم للتسوية فى مقابل الفيتو الأمريكى وبما كشف عن تأييد دولى كبير لوجهة النظر المصرية والعربية».
وتطرق الرئيس إلى الإطار العربى للجهد المصرى للتحضير للمعركة الدبلوماسية والنضالية ضد إسرائيل وأخذ يشرح محاولاته لتأمين أرضية تعاون عربى عميق وذلك رغم التناقضات العربية السائدة والتى تعوق حشد الموارد لدعم مصر فى جهدها الدبلوماسى والعسكرى.. وأشار الرئيس «السادات» إلى أن التهديد الإسرائيلى لا يقتصر على مصر وأراضيها أو الأراضى الفلسطينية والعربية الأخرى المحتلة.. بل إن التهديد يشمل الجميع ولا يغيب عن المراقب المدقق أن يلحظ أن المسافة بين رأس محمد فى سيناء بالقرب من شرم الشيخ والإسماعيلية على سبيل المثال.. هى نفسها المسافة بين رأس محمد والمدينة المنورة مثلاً أو سوهاج.. وهو مالا يغيب عن العدو أيضاً. وأشار الرئيس «السادات» فى استعراضه للموقف إلى أن السعودية والكويت يشتريان حالياً السلاح لمصر.. ثم اقترب الرئيس بعد ذلك من الوضع الداخلى بالبلاد.. وأكد أن الاقتصاد المصرى أصبح مستنزفاً.. وهو استنزاف يراه أخطر كثيراً من التهديد العسكرى.. إذ إن ارتفاع الأسعار قد أصبح خطيراً.. كما أن النمو الاقتصادى توقف بالكامل.. وعاد الرئيس يتحدث عن الوضع الدولى، مشيراً إلى خطورة تجميد جهود التسوية بين القوتين العظميين واستمرار بناء إسرائيل للمستوطنات فى أراضى سيناء، مشيراً إلى أخطار انفجار الوضع الداخلى نتيجة لسريان اليأس إلى النفوس وأن هذا الانفجار المحتمل... وإذا ما وقع... فسوف تتمكن إسرائيل من تحقيق كل أهداف ونتائج هزيمة مصر فى عام 67 وذلك دون أن تطلق طلقة واحدة. وعاد الرئيس لكى يتحدث عن الاتحاد السوفيتى، مضيفاً إنه صحيح أن السوفيت يدعمون مصر ويقفون معها إلا أنهم لا يزالون أيضاً ينهجون الأساليب القديمة لهم... ويقدمون السلاح بالشكل الذى يبقى مفاتيح الموقف فى يدهم. ثم اختتم الرئيس تقديمه للموقف بالقول «إن القوات المسلحة المصرية قد جرى إعدادها على مدى الفترة من أكتوبر 72 إلى اليوم 30 سبتمبر 73 بشكل يتيح لها قدرات وإمكانيات كبيرة للعمل العسكرى... وأن الأمر يتطلب بالتالى أن نقرر قرارنا بالمضى إلى المعركة المسلحة... وأنه يطلب رؤية الجميع فى هذا القرار... مشيراً إلى أن المطلوب من هذا الجيل من المصريين أن يسلم الجيل القادم من أبناء الوطن أوضاعاً مصرية مستقرة وبلداً غير محتلة أراضيه».
* اقتراح بالتأجيل
كانت هذه المقدمة القوية تعكس فى الحقيقة قرار الرئيس «السادات» بالحرب والدخول فى المواجهة المسلحة... إلا أنه لم يبُلغ حتى هذه اللحظة من التقديم والشرح المشاركين الآخرين بتوقيت المعركة وأهدافها وفلسفتها. وجاءت ردود أفعال المسئولين المشاركين بشكل يكشف الكثير من صعوبات الوضع الداخلى من ناحية... وكذلك بعض اختلافات الرؤية بالنسبة لشكل المعركة من ناحية أخرى... وتحدث البعض عن صعوبة الوضع العربى واستمرار الاختلافات العربية وتأثيرها السلبى على قدرة مصر لحشد موقف عربى متكامل شامل... وأن المطلوب فى هذه اللحظة هو توفير المزيد من الوقت لمصر لكى تعيد حشد الطاقات العربية وأنه من الضرورى ألا تنفرد مصر بالمعركة أو تتحمل الأمر بمفردها وبالتالى فإن هذه الرؤية ترى أهمية إتاحة ستة شهور إضافية للمزيد من التجهيز السياسى وإتاحة وتأمين المشاركة العربية والدعم العربى المادى لمصر بشكل مطلق.
واقترب وزير التموين من المسألة بالتأكيد على أهمية قيامه بإطلاع الرئيس والمشاركين فى الاجتماع على الصورة الحقيقية للوضع التموينى بالبلد لكى يكون الجميع على إحاطة بالموقف.. مشيراً إلى أن أكثر ما يهم المواطن المصرى فى هذه اللحظة التى ستدخل فيها مصر معركة عسكرية.. هو تأمين التموين وأسعار السلع الأساسية وتنظيم أعمال التوزيع والبطاقات وغير ذلك من مهام.. مع محورية أن تبقى السلع متاحة طوال معركة الصدام المسلح.. وأخذ الوزير «أحمد ثابت»، يشرح - وبالكثير من التفاصيل - الأوضاع التموينية الصعبة بالبلاد.. ومنها العجز فى الأرز وكمياته.. والصعوبات التى تواجه وزارة التموين والداخلية والزراعة فى توفير الأراضى لزراعة الأرز وقيام المزارعين بتخزينه أملاً فى ارتفاع أسعاره.. كما تطرق الوزير أيضاً إلى الصعوبات التى تواجه الحكومة فى توفير الزيوت والشحوم واستيرادها من الخارج.. والقمح والحاجة لتوفير العملات الصعبة للحصول عليه من الأسواق الخارجية.. مضيفاً أنه يؤكد أهمية توفير 3/4 شهور من المخزون السلعى من الأرز والقمح والاحتياجات الأساسية الأخرى قبل بدء القتال خاصة مع احتمال التعرض للموانئ المصرية وخطوط الملاحة إلى مصر والبحث عن الموانئ البديلة وغير ذلك من اهتمامات.. واستغرق شرح الوزير وقتاً طويلاً حيث قال: «يجب فرض تسليم الحيازات للمحاصيل المطلوبة» وانتهى الوزير بالقول.. إن الصورة الحالية مثلما يراها تشير إلى أن الجهاز التموينى المصرى ليس جاهزاً بعد لتوفير الاحتياجات المطلوبة من كل السلع الأساسية ولمدة تسعين يوماً على الأقل.. من هنا فهو يطلب بعض الوقت الإضافى لتوفير هذا المخزون من الشراء من الخارج إذا ما توافرت الموارد المادية. وتدخل البعض الآخر بالحديث عن أهمية التعرف على الإطار الزمنى الذى ستدور خلاله المعركة المسلحة ولكى يمكن الاستجابة لمتطلبات التموين. كما أشاروا إلى قدرة الدولة المصرية على فرض إجراءاتها وقراراتها فى تأمين العمل بالبطاقات التموينية وكل ما يتعلق بتوريد المحاصيل.. وأوضحت المناقشات والتعقيبات أن الغالبية تؤمن بأهمية الانطلاق إلى المعركة إلا أن من الهام الاتفاق ليس فقط على أهداف المعركة ولكن إطارها الزمنى وأسلوبها.. حيث ذُكر إمكانية التركيز على حرب استنزاف ممتدة وأكثر اتساعاً عما دار بين مصر وإسرائيل فى الفترة من 68 حتى .1970 وتدخل وزير الحربية حيث شرح وبوضوح ومصداقية شديدتين قائلاً «إن الظروف الحالية والعسكرية لا تمكن مصر أو تتيح لها تحرير كامل الأرض فى ضربة واحدة شاملة... وأن أوضاع القوات المسلحة أصبحت مطمئنة إلا أن الوقت والتطورات والدعم الأمريكى لإسرائيل وقبض اليد السوفيتية عن مصر فى إمدادات السلاح بشكل مفتوح كلها تؤشر إلى أن التطورات العسكرية لن تكون لصالح مصر إذا ما انتظرنا كثيراً وأكد وزير الحربية أنه «لا يرى إمكانية لقيام مصر بتخليص سيناء كلها من خلال الإمكانيات الموجودة». وشرح رؤيته للموقف مؤكداً «أن الفارق بين الجيشين المصرى والإسرائيلى يزداد لصالح إسرائيل.. والأسلحة تتآكل فى أيدى المحاربين المصريين والذخيرة تستهلك.. وقد مضى على القوات المصرية فى الخنادق ما يقرب من ستة أعوام وهذا له تأثير كبير على معنوياتها.. وأن المعنويات هى نصف أى معركة». واعترض وزير الحربية على رؤية بعض الحضور فى «أن نبدأ بمعركة استنزاف ثم نحولها إلى معركة» شاملة.. مؤكداً أن المعركة يجب أن تكون ممتدة وفى إطار زمنى طويل وليس من خلال صدام لمدة 48 ساعة مثلاً.. ثم شرح «أحمد إسماعيل» خطته للمعركة، مشيراً إلى نيته فى توجيه ضربة رئيسية قوية إلى العدو.. وتلقى ضربة العدو المضادة وأن هذا الأمر يجب أن يتم بشكل عاجل.. ولا تسمح الظروف بالتالى بأى تأجيل لشهور مثلما قال بعض الحضور. وعاد الحديث يدور حول أهداف المعركة المسلحة وحيث طرح تنفيذ قرار مجلس الأمن 242 مع أهمية إعداد موقف مصرى متكامل فيما يتعلق برؤية مصر لمعنى القرار 242 ومسألة الاعتراف بإسرائيل.. وقال الدكتور «أشرف غربال» إننا يجب أن نتفهم أن حروب اليوم أصبحت ذات إطار زمنى قصير وأنه مضى عهد وزمن الحروب الطويلة التى تستغرق شهوراً وسنوات.. وأن المسألة لن تستغرق أياماً.. وفى أقصى تقدير أسابيع وليس شهوراً مؤكداً أن الوضع الدولى سيفرض ثقله علينا.. وأن العالم أصبح لا يسمح بحروب طويلة.. والأمر ليس فى يدنا بمفردنا.. من هنا توصل الدكتور «غربال» إلى نتيجة مفادها.. أنه ولما كان المجتمع الدولى والعلاقة بين القوتين العظميين لن يتيح هذه الحرب الممتدة.. فإنه ينبغى - بالتالى - السعى لتحقيق أكبر مكسب عسكرى فى أضيق إطار زمنى ثم التحرك بعد ذلك وبشكل فورى للعمل السياسى لتسوية مشكلة مصر مع إسرائيل.. مشيراً إلى أن النزاع العربى - الإسرائيلى سيستغرق أجيالاً ويجب أن نسلم الجيل القادم المشكلة الفلسطينية فى أحسن أوضاعها من وجهة نظر مصالحنا.
ثم دار نقاش هام بين المشاركين حول سلاح البترول وكيفية توظيفه لصالح الصدام المسلح. وقال الدكتور «عزيز صدقى» إن استخدام النفط كسلاح يجب أن يتحقق لأن انقطاعه سوف يفرض على الجميع التحرك.. وقال الدكتور «أشرف غربال» إننا لا يجب أن نسعى لوقف إمدادات البترول للعالم الخارجى لأن ذلك سيؤدى إلى نشوب حرب ضد العرب... إلا أن تخفيف الإنتاج والصادرات يمكن أن يحقق الهدف المطلوب.
* سلام مابعد الحرب
وانتقل الحديث إلى «حافظ إسماعيل» مستشار الأمن القومى... فقال إن من الهام أن نحدد رؤيتنا لمعنى السلام... وكذلك الموقف من القضية الفلسطينية وكيفية تسويتها مؤكداً أهمية وجود فهم مصرى/ سورى مشترك... وكذلك مع الأردن لشكل التسوية والرؤية من النزاع. وأضاف أنه تمت محاولات على مدى النصف الأول من عام 73 للتوصل إلى تفاهم مصرى/ أمريكى يمكن أن يؤدى إلى تعديل الموقف والتناول الأمريكى للعلاقة معنا وبالنسبة للاحتلال الإسرائيلى لأراضينا إلا أن المحاولتين اللتين بذلتا فى فبراير/ ومايو لم يؤديا إلى انفراجة... من هنا فهو يقدر أهمية القيام بمحاولة أخيرة فى اتجاه أمريكا قبل المضى إلى العمل العسكرى ضد إسرائيل وأنه يتصور عقد هذه الجولة الجديدة مع الأمريكيين - كسنجر - فى نوفمبر/ ديسمبر 73 وبحيث تتم بعد انتهاء الانتخابات الإسرائيلية وكذلك لإعطاء الفرصة للرئيس «نيكسون» لتجاوز مشكلات الإدارة الأمريكية وقتها وبهدف الوصول إلى تفاهم مع أمريكا بالمبادئ الأساسية لتسوية سياسية تكون هى المظلة لمفاوضات مباشرة أو غير مباشرة ولكن تحت إشراف الأمم المتحدة للتوصل وتحقيق التسوية النهائية.
وأضاف المستشار إننا ونحن نقترب من هذا الوضع فعلينا أن نبقى على أعلى درجات الاستعداد لقواتنا لمواجهة الاستفزازات الإسرائيلية.. كما لا يجب أن نترك عملية، مثل المعركة الجوية السورية/ الإسرائيلية الأخيرة والتى فقدت سوريا فيها عدداً كبيراً من الطائرات المقاتلة تمر دون رد إيجابى وإذا ما قررت إسرائيل فتح معركة.. فيجب أن نكون على استعداد لملاقاتها.. وأمامنا بالتالى صورتان أو تصوران للمعركة.. أحدهما رؤية القائد العام «أحمد إسماعيل».. والآخر الذى قال بها البعض منا.. وهو الدخول فى معركة استنزاف.. والحقيقة فإن رؤيتى - حافظ إسماعيل - هى أن العمليتين واردتان بالتوالى.. وإحداهما تتبع الأخرى.. والمؤكد أننا وبعد ثلاث سنوات من وقف إطلاق النار - والحديث لا يزال ل«حافظ إسماعيل» - فيجب أن نتعرف على إمكانيات قواتنا وما أمامها فى عمق دفاعات العدو وبالتالى فيجب أن نرتب لمواجهة معركة عبور معقدة للغاية.. من هنا فإننا يجب أن ننظر أيضاً فى خيار آخر يختلف عن استنزاف عام 70 ويمكننا من كسر الموقف والحصول على قراءة دقيقة لإمكانيات العدو قبل بدء المعركة الأساسية.. ونستطيع مع بدء هذه المعركة الاستنزافية الكبيرة أن نصعد الموقف فى المنطقة كلها وعلى جبهة إمدادات البترول.. وإذا ما تم تبين وجود مؤشرات لتفوق لنا.. فنقوم بالعملية العسكرية الكبيرة.. وهنا يجب تحديد الهدف السياسى للعملية العسكرية الكبيرة.. خاصة أنه وبانتهاء هذه المعركة الكبيرة سنكون قد استنزفنا مواردنا نحن أيضاً إلى آخر قطرة وسوف نحتاج ل 10/15 سنة لإعادة تأهيل قواتنا.. وقد يتجمد الموقف لأعوام.. مصر فى غرب سيناء وإسرائيل فى شرقها لفترة طويلة.. ويجب أن ندرس كل عناصر الموقف بتركيز كبير، وأن نأخذ وضع الجبهة الداخلية بكل الاهتمام. وأن نضمن الحدود الدنيا للمطالب والاحتياجات الجماهيرية والتموينية.. وسوف يحتاج الأمر أيضاً إعطاء أكبر الاهتمام لمسألة المعركة الإعلامية داخلياً وعربياً ودولياً.
وتدخل الدكتور «محمود فوزى» قائلاً: «هناك اعتبارات كثيرة تدفعنى إلى أن أكون مستبشرا بنظرى إلى الأفق رغم الغيوم فى بعض جوانبه.. هناك تغيرات كثيرة حدثت.. أولها داخل نفوسنا.. هناك الآن وضوح فى الرؤية لما يحدث وتفسيراته.. نحن رتبنا أوراقنا فى استخدام البترول والطاقة.. والجميع يعلم ذلك الآن.. والأشقاء العرب يسايرون فكرة استخدام البترول كسلاح فعال.. علينا أن ندرس المواقف بشكل متكامل وننشئ غرفة عمليات لدراسة كل العناصر والشهور القليلة القادمة.. ربما ثلاثة شهور.. يجب أن نعد لتحرك عسكرى يقوم على أرضية سياسية واقتصادية وفى كل الأحوال يجب أن نتخلى عن هذا الوضع الدفاعى ونلجأ إلى الهجوم.. وعلينا أن نستخدم السيف المتاح لنا طويلاً أو قصيراً.. وهذا لا يعنى المجازفة ولكن الظروف هى التى تفرض هذا الوضع.. والحقيقة فإننا فعلاً فى حرب.. وهى مجموعة معارك مستمرة.. وسوف تكون مصيبة كبرى إذا ما انهار الوضع الداخلى دون حرب.. من هنا نحن مصرون وملزمون بأن نحارب وليس لدينا خيار آخر.. ولابد لنا بجانب الاستمرار فى التصعيد العسكرى استعداداً وعند اللزوم تحركاً.. فلابد من التحرك بدون تسرع فى تصعيد الضغط على إسرائيل وأمريكا بكل الوسائل.. خاصةً فى مسألة البترول.. وأخيراً لا يمكن أن تنكمش مصر وتبقى تحت الاحتلال.. وليس بالتالى أمامنا سوى المعركة الكبرى.. كما يجب أن نحارب معركة إعلامية مؤثرة تعيد النظر فى أوراق المواجهة.
ويعود «أحمد إسماعيل» وزير الحربية لكى يتدخل، مرة أخرى، فى ضوء حديث كل من «حافظ إسماعيل» و«محمود فوزى» بقوله إن إسرائيل اليوم وإذا ما شعرت أو رصدت أن القوات المسلحة المصرية قد أصبحت مستعدة للعمل المسلح فقد تبادر هى بالعمل العسكرى ضدنا.. فسوف تحقق ضدنا نجاحات.. على الأقل فى المرحلة الأولى للمعركة.. وبالتالى «ومن وجهة نظرى.. فإنه يجب البدء من جانبنا بالعمليات وبشكل مفاجئ».. وأضاف «أحمد إسماعيل» إنه يرغب فى التعقيب على النقاط التى تطرق إليها «حافظ إسماعيل» مستشار الأمن القومى.. وأن الأسلم بطبيعة الأحوال التعرف على كل إمكانيات وتفاصيل قدرات العدو.. إلا أن الظروف قد لا تسمح بذلك.. وبذلك فيجب أن تقوم العمليات على أساس الإمكانيات والقدرات المصرية المتاحة ويجب أن نعترف.. أننا لن نحرر سيناء فى ضربة واحدة.. كما لا يمكن القيام بحرب استنزاف جديدة.. وسوف نعمل فى حدود إمكانياتنا وبواقعية.. والعدو متفوق علينا من حيث نوعية السلاح والطائرات إلا أن ذلك ليس معناه أن العدو سيكسب المعركة ضدنا.. بل يجب أن أعترف أن لنا حالياً وسائل استطلاع وتعرف على أوضاع إسرائيل.. وهى معلومات كفيلة بإحداث تأثير إيجابى عند بدء القتال».
* الدفاع مرفوض
واستعاد الرئيس «السادات» الكلمة مرة أخرى وقال: «الجميع خارج مصر يتصور أننا جثة هامدة.. وبالتالى لا أحد يتحرك.. وعندما يعرضون علينا أفكاراً.. فهى تسعى لتحقيق المزايا لإسرائيل.. وهم يستغربون كيف نرفض ما يعرضه الأمريكيون علينا.. والجميع يقدر أننا فى وضع دفاعى ولا يمكن لنا الهجوم.. وأن استمرار الوضع الحالى معناه الموت المحقق لمصر.
لا يمكن أن نقبل بهذا اليأس الذى يحل علينا.. ولا يمكن إلا أن نتحدى إسرائيل.. فإذا لم نستطع ذلك فعلينا أن نحيط الشعب بالحقيقة.. فإذا ما كسرنا وقف إطلاق النار فمعنى هذا أننا أحياء وقادرون.. أما مسألة التموين والحاجة للوقت وغير ذلك.. فلست على استعداد للخضوع لهذه الاعتبارات.. وأقول على القوات المسلحة أن تقبل التحدى ولا أقول لها أن تستعيد سيناء فى ضربة واحدة.. علينا أن نقول للعالم أننا أحياء.. مصر لن تستطيع الصبر إلى الأبد.. ويجب أن تتحرك.. وكل العناصر تضغط على مصر لكى تنهار لكننا لن نسمح بذلك».
ثم عقب الرئيس على ما أبداه «حافظ إسماعيل» من تفضيل محاولة إجراء جولة ثالثة من المفاوضات مع أمريكا بهدف التوصل إلى تفاهم مصرى/ أمريكى.. إلا أن «كسنجر» أرسل لنا فى يوليو الماضى يطلب هذا اللقاء الذى لا أرى أى فائدة منه.. حيث سيعرض علينا استعادة نصف سيناء وفتح القناة ونوفق بين السيادة المصرية والأمن الإسرائيلى... كما أن «روجرز» سبق أن قال ل«جروميكو» وزير خارجية الاتحاد السوفيتى.. لابد أن تجنى إسرائيل ثمرة انتصارها.. من هنا لا أتفق مع الرأى القائل بعقد جولة ثالثة مع أمريكا.. وهى لن تقود إلى شىء.. وطلب الدكتور «فوزى» الكلمة مرة أخرى وقال إنه لا ضرر من محاولة التوصل إلى تفاهم مع أمريكا أو إعطائها فرصة جديدة للتعرف على مواقفها. ورد الرئيس بأننا استطلعنا الموقف الأمريكى مرتين فى النصف الأول من العام... وهذا يكفى... وأجابه الدكتور «فوزى» بأنه قد يكون من المناسب أن نحاول مرة ثالثة... وتدخل «ممدوح سالم» قائلاً :
فلنحاول ولا يجب أن تكون هناك عداوات دائمة... كما يجب أن نأخذ فى حسباننا أوضاعنا الداخلية... وأجابه الرئيس «السادات» وبشكل مباشر «أننى لا أخذ الجبهة الداخلية فى الحسبان... والإنسان الشاطر هو الذى يرصد المواقف بدقة ووضوح... ونحن دخلنا مرحلة الخطر الشديد ولا أستطيع الانتظار لستة شهور أو عام... ويجب أن نعترف أن خسائر الحرب دائماً أقل من تكاليف الإعداد لها وإذا ما خسرنا منشآت بمبلغ 100 مليون أو 200 مليون جنيه كنتيجة للحرب... فإن ذلك بالتأكيد أقل من تكاليف القوات المسلحة سنوياً... إذ أننا نتكلف حالياً 700 مليون جنيه مصرى وهو مبلغ باهظ التكلفة علينا... من هنا يجب أن نقول لأمريكا وإسرائيل... «لا» وسوف نحاربكم».
واقترب الاجتماع من نهايته... وأثير موضوع استخدام البترول مرة أخرى وتحدث الرئيس بتأكيد اقتناعه أن العرب سوف يتحركون ولكن بحذر وإتقان وحتى لا تنقلب الموائد علينا... ومع اتخاذ قرار الحرب تحدث مستشار الأمن القومى مرة أخيرة قائلاً: إن قطاعات هامة بالدولة يجب أن يتم إنذارها بالاستعداد لنشوب المعركة... وهذا سيتطلب 4/5 أيام لكى تدخل مرحلة الاستعداد.. وسوف يحتاج الأمر أيضاً للجنة عمليات للسيطرة على إدارة الدولة ومواجهة متطلبات الصدام... ووافقه الرئيس فوراً.
وتم تكليف السيد «عبدالفتاح عبد الله» لكى يعمل كرئيس أركان حرب للرئيس السادات فى إدارة العمليات وتنسيق المواقف وبالتعاون الكامل مع مستشار الأمن القومى... وتدخل الدكتور «أشرف غربال» قبل رفع الجلسة قائلاً: «يجب مع بدء المعركة أن نطلق مبادرة للسلام تعرض مواقف إيجابية لمصر ويمكن توظيفها فور توقف القتال».
ومرة أخرى وافق الرئيس «السادات» على المقترح... وقال إنها سوف تمثل مرحلة التحضير وإدارة الصدام.. ويجب أن نكون جاهزين ببدائل وأطروحات كثيرة.
وانتهى الاجتماع ساعة 0200 من فجر يوم أول أكتوبر، واتخذ قرار الحرب.
ولعل القارئ الكريم، وبعد أن اطلع على هذا العرض الموجز لهذا الاجتماع الاستراتيجى والتاريخى... يمكن أن يتوصل إلى خلاصات أساسية، وهى:
أولاً: أن الرئيس «السادات» هو فعلاً صاحب قرار الحرب وهو المحرك والدافع لها وما كان لمصر أن تقوم بهذه العملية العسكرية إلا نتيجة لرؤيته وتحليله للوضع بالغ الصعوبة الذى وجدت مصر نفسها فيه.
ثانياً: إن المناقشات كشفت عن وجود تفاهم كامل بين الرئيس «السادات»... والقائد العام «أحمد إسماعيل» على شكل إدارة الصدام المسلح، وأهداف الضربة العسكرية وحدود إمكانياتها. ثالثاً: إن القوات المسلحة المصرية كانت تعى أنها أقل قدرة من الجيش الإسرائيلى عندئذ... إلا أنها كانت تثق فى قدرتها على تحقيق عبور ناجح للقناة وإيذاء العدو وفرض رؤيتها لإيقاع المعركة.
رابعاً: إن بعض كبار المسئولين المصريين كان يتصور... بل ويطرح إمكانية تأجيل الصدام المسلح لعدة شهور... للمزيد من إعداد المواقف... خاصة على مستوى الجبهة الداخلية... كما قدر البعض أن القلق الداخلى المصرى يمكن السيطرة عليه بإجراءات أمنية احترازية... إلا أن الرئيس «السادات» كان حاسماً فى رفض كل هذه الأطروحات.
خامسا: أن عدداً من المسئولين الكبار الذين شاركوا فى هذا الاجتماع... كان لديهم قلق دفين وعدم ثقة فى وضوح التأييد العربى للمعركة المسلحة.. بل وطالب البعض أن تستمر مصر فى مطالبة العرب بالمزيد من الالتزام بالدعم المادى إذا ما كان لها أن تقوم - أى مصر - بمعركة عسكرية ناجحة ومؤثرة.
سادساً: أن الرئيس «السادات».. ومستشار الأمن القومى تفهما وبدقة احتياجات ومتطلبات إعداد الدولة للمعركة.. من هنا كان هناك تقسيم واضح للمهام وتكليفات محددة لكل من الشخصيات المصرية المشاركة وبشكل آمن تحرك مصرى داخلى وخارجى وعسكرى متكامل وشامل.. وأتاح لمصر.. بالتالى.. استخدام كل أدوات التأثير لتحقيق هدف المعركة العسكرية وتوابعها من جهد مصرى وعربى فى اتجاه الضغط السياسى على الولايات المتحدة والغرب لتطويع مواقف إسرائيل بشكل تدريجى.
ومرة أخرى.. نقول إنها كانت أياماً تاريخية.. وقرارات مصيرية.. ويبقى بعد ذلك التقييم النهائى للحرب والظروف التى دارت فيها العمليات والخلاصات التى وصلنا إليها والأخطاء التى قد نكون قد وقعنا فيها والنجاحات النهائية المحققة من الضربة العسكرية.
* جدل غبى
أن أعالج الآن بعض النقاط التى كان قد ثار حولها - على مدى السنوات الأخيرة - جدل كبير.. وأراه غير عادل أو موضوعى.. وتم تناوله بعد رحيل الرئيس «السادات» وكذلك فى أعقاب مبادرته للسلام وزيارة القدس.. وهو جدال أطلقه البعض.. بأن هذه الحرب كانت ملفقة وأنها تمت فقط لإتاحة الفرصة لمصر لتحقيق تسوية غير عادلة لها أو للعرب.. وكأن دماء شهداء مصر فى هذا الصدام غير المسبوق مع إسرائيل تمت التضحية بها فى تمثيلية باهظة الثمن.. بل وذهب البعض إلى القول.. بأن مصر أبلغت الجانب الأمريكى عمداً بحدود وأطر أهدافها العسكرية من هجومها عبر القناة.. وذلك لتأمين التفهم الأمريكى لهذا العمل ومقتضياته.. ومن ثم التجاوب الأمريكى معه.. وكأن الحروب والصدامات يمكن أن تحاك وكأنها تمثيلية محبوكة الأطراف وذات دائرة مغلقة لا يستطيع أحد النفاذ إليها.. أو كأن الدول الكبرى أو الصغرى لا تستطيع أن تقرأ بدقة قدرات وإمكانيات الخصم أو الأطراف المتصارعة فى نزاع مثل الشرق الأوسط وما يمكن لها القيام به أو تعجز عنه.
ويمكننى القول - وبأكبر قدر من الثقة فى التحليل - أن من تابع الأوضاع الاستراتيجية والتكتيكية للقوات المسلحة المصرية وقدراتها وإمكانياتها.. كان سيصل إلى نتيجة مفادها دائماً.. أن هذه القوات وإن فكرت فى اقتحام قناة السويس واحتلال خط بارليف... فإن المتاح أمامها بعد ذلك.. كان إما البقاء فى مواقعها فى رأس جسر محدود الاتساع لفترة زمنية غير معروف مداها أو بحد أقصى.. القدرة على الوصول إلى ممرات سيناء ذات الأهمية الرئيسية، وبالذات فى المحور الجنوبى لجبهة القناة.. ولعل أسلوب وبناء الدفاع الإسرائيلى المتحرك على الجبهة الجنوبية المصرية كان يؤشر إلى الفكر الإسرائيلى فى هذا الصدد. وحيث كانت إسرائيل تقدر أنه وبافتراض تحطيم حصون قناة السويس ونجاح الجيش المصرى فى إقامة رأس جسر على طول المواجهة إلى الشرق من القناة.. فإن القوات المدرعة والميكانيكية الإسرائيلية ستعتمد على قاعدة عمليات فى المناطق الأكثر ارتفاعاً إلى الشرق من القناة إما دفاعاً أو هجوماً.. وللعمل ضد أى تواجد مصرى فى الشرق إما بهدف القضاء عليه أو النفاذ إلى حد المياه من ثغرة تحققها وحيث تقوم بالعبور إلى غرب القناة للتطويق أو الاحتلال.
من هنا فإن الباحث الجاد فى التوجهات المصرية والتى يمكن رصدها فى مواقف الرئيس «السادات».. والمشير «أحمد إسماعيل على».. وغيره من كبار المسئولين المصريين.. فى اجتماعهم فى 30 سبتمبر 1973 (الذى تناولناه فى المقال السابق) يتبين أن الجميع كان يعلم بأن القوات المسلحة المصرية تقل فى قدراتها وإمكانياتها عن الإمكانيات العسكرية الإسرائيلية.. ومن ثم فقد قررت قيادة الجيش.. وتمشى معها القائد الأعلى بأن تكلف هذه القوات المصرية بالقيام بعملية عسكرية كبيرة.. تتناسب مع إمكانياتها وقدراتها ولا تستهدف بحال من الأحوال تخليص سيناء كلها من خلال ضربة واحدة. ومثلما قال «أحمد إسماعيل على»: «سوف نعمل فى حدود إمكانياتنا وبواقعية.. والعدو متفوق علينا حالياً من حيث نوعية السلاح والطائرات إلا أن ذلك ليس معناه أن العدو سيكسب المعركة ضدنا».
من هنا أيضاً فإن الخلاصة التى يمكن الوصول إليها هى أن مصر كانت تسعى للدخول فى صدام مسلح محسوب وبحيث تنتهى المواجهة المسلحة وقد حققت مصر نجاحات عسكرية واضحة ومؤثرة تؤدى إلى تعديلات جوهرية ليس فقط فى أوضاع القوات على الأرض بين الجانبين وإنما تحقق لمصر أيضاً أوضاعاً سياسية استراتيجية ما كان لها أن تحققها إلا من خلال عمل عسكرى تثبت فيه القدرة العالية لقواتها المسلحة. على الجانب الآخر كان التحرك المصرى فى قمة الحكمة والقدرة على المناورة والفاعلية عندما انفتح على الولايات المتحدة أثناء الصدام المسلح واستجاب لرغبة الأمريكيين فى التحاور... رغم عنف المعركة المسلحة والمعرفة الكاملة بأن أمريكا ستقف إلى جانب إسرائيل وتتيح لها كل الإمكانيات التى يفترض أن تمكنها من هزيمة الجهد العسكرى المصرى... كما أوضحت تطورات المواجهة فاعلية صاحب القرار المصرى فى طرح أفكاره ومبادراته سواء من خلال الحوار مع الأمريكيين فى رسائل «حافظ إسماعيل» إلى «كسنجر».. والرئيس «السادات» إلى «نيكسون» أو فى المواقف العلنية التى أطلقها الرئيس أمام مجلس الشعب المصرى يوم 16 أكتوبر.
ولعل القارئ الكريم يتبين أن هذه المبادرات والمواقف المصرية لم تكن وليدة الساعة.. أى وليدة النجاح العسكرى المصرى الذى تحقق على مدار الأيام العشرة الأولى للحرب بالتحديد.. وإنما جاءت من خلال الإعداد المسبق مثلما تحدث الدكتور «أشرف غربال» أمام اجتماع 30 سبتمبر بأهمية طرح مبادرات ومواقف مصرية تعكس رغبة مصر فى التسوية السياسية رغم كل ظروف الحرب.. وهى أطروحات كنا جميعاً فى مجموعة عمل مستشار الأمن القومى على إطلاع على كل عناصرها ولفترة طويلة سابقة على بدء الحرب.
لقد صُدم كل أبناء مصر لنتائج مواجهة عام 67. والمؤكد أن كل المصريين بكل مناهجهم كانوا يثقون بأن رد الاعتبار المصرى لن يأتى أو يتحقق إلا من خلال توجيه ضربة مساوية ومكافئة لما تعرضت له مصر على يد إسرائيل فى 5 يونيو 67. كما فهم المصريون وبعمق أسباب هزيمة 67. من هنا عالجوا فى 73 كل مشاكلهم قدر الإمكان وبما أتاحته الظروف.. وفهموا أنه لا يجب أن توضع القوات المسلحة المصرية - مرة أخرى - فى هذا الوضع السياسى/ والعسكرى/ والاستراتيجى الذى أدى إلى هزيمتها بهذا الشكل الذى شهدناه فى 5 يونيو.. ومن ثم أنهيت المواجهة فى اليمن.. وعاد الجيش إلى مصر.. وكان عدد قواته هناك كبيراً.. وأعيد تأهيل القوات وتسليحها وتمكينها من الحصول على قيادات عسكرية مؤهلة مع إعادة تنظيمها بقواعد وقوانين صارمة.
وعاد الانضباط لها.. وابتعدت عن العمل السياسى أو إدارة الدولة.. وأصبحت بالتالى.. جاهزة لبدء عمليات أكتوبر .73
* حلم جيل كامل
ومرة أخرى.. أعود للحديث عن هذا الجيل من شباب مصر الذى كان يبلغ من العمر فى عام 67,. منتصف العشرينيات أو أكثر قليلاً.. لقد قاد هذا الجيل.. جيلى.. الكتائب والسرايا والوحدات الصغيرة التى قاتلت فى حرب الاستنزاف.. ومعارك الخنادق.. وقصفات المدفعية.. وطلعات الطيران.. وكنت أعمل وقتها دبلوماسياً صغير السن فى سفارة مصر بقبرص.. والحقيقة أننى كنت أستشعر قدراً لا بأس به من الخجل وأنا أتابع وأرى العشرات من أصدقائى وهم يقاتلون فى جبهات القتال ومواجهات المقاتلات.. وهم بعيدون عن أسرهم وأطفالهم.. وأنا وأسرتى نقيم فى قبرص ونعمل بالعمل الدبلوماسى الذى لا يقارن هدوؤه برحى الحرب الدائرة... وقررت أننى لا يمكن أن أقبل بذلك... وأخذت أشارك فى أعمال... من خلال التطوع والتصميم... للمخابرات والعمل السرى ضد إسرائيل... وهى مسائل لا يجب أن أتطرق إليها الآن وسوف يحين الوقت عندما أتحدث بها وأكتب فيها.
وأقول أننا كنا.. هذا الجيل.. نعلم علم اليقين أننا يجب أن نرد الاعتبار لبلدنا.. ومن ثم وبمجرد انضمامى إلى مجموعة عمل مكتب مستشار الأمن القومى المصرى فى أوائل أغسطس 1972,.
انطلقت فى المشاركة فى كل ما كان يمكن أن يساهم فى خدمة الأهداف الاستراتيجية المصرية فى إطارها السياسى.. بل أجدنى أقول وتجرأت.. بتشجيع من الدكتور «عبد الهادى مخلوف» مدير المكتب.. والمستشار «أحمد ماهر السيد».. فى الكتابة فى بعض المسائل العسكرية التى كنت ولعاً بالقراءة النهمة فيها.
وكان «حافظ إسماعيل».. من السماحة أن قبل بقراءة ما كنت أكتبه وأقوم بعرضه عليه من أفكار ومبادرات بشكل أسبوعى.. وكنا جميعاً أعضاء هيئة الأمن القومى نعى أهمية التفكير الخلاق.. والمبادرة بطرح الأفكار الجديدة أو المقترحات التى تسعى لدعم فاعلية العمل المصرى.. لقد كانت فترة مليئة بالتوقد والتوتر والإحساس بالحاجة لقبول التحدى.. وأتذكر اليوم وبعد أن اأطلعت على بعض الأوراق التى توافرت لى كصور لمذكرات كنت أكتبها عندئذ تضمنها الكثير من الأفكار التى كانت تدور فى الأفق فى حينه.
وعلى سبيل المثال فقد وجدت فى أوراقى مذكرة كتبت فى 3 يونيو 73 وعرضت فى حينه على مستشار الأمن القومى وتناولت مسألة الخداع الاستراتيجى توطئة للحرب.. وجاء نصها على النحو التالى:
«حول التحضير للصدام العسكرى مع العدو وخطة الخداع الاستراتيجى»
1- تتفق جميع الآراء فى ضرورة وجود خطة للخداع الاستراتيجى والعسكرى، كى تطبق عند وقوع الصدام المسلح مع العدو، لتحقيق هدف إخفاء توقيت بدء العمليات الحربية، واتجاهات ومحاور الهجوم.
2- وبطبيعة الحال، فإن خطة الخداع تلك، يجب أن تتناسب مع حجم العمليات المتوقعة، والأهداف المطلوب تحقيقها من خلالها.
3- وبافتراض أن مصر، ستلجأ إلى إحداث صدام عسكرى مع العدو، فإنه قد يرى النظر فى النقاط التالية لتضمينها فى عناصر خطة الخداع الاستراتيجى لمصر:
أ- النظر فى استخدام شخص رئيس الجمهورية، كأحد عناصر تلك الخطة، لتضليل العدو عن توقيت، أو نوايا مصر الحربية، وذلك على الوجه التالى:
(1) أن يقوم السيد الرئيس، بزيارة إحدى الدول العربية، ولتكن الجزائر مثلاً، فى يوم (ى - 1)، على أن تقوم وسائل الإعلام المصرية بالإشارة إلى أن هدف الزيارة، هو بحث الموقف العسكرى والسياسى المتوتر فى الشرق الأوسط، وضمان مشاركة الجزائر فى الصدام القادم. وأن الزيارة ستستمر لمدة يومين مثلاً.
(2) أن يعود السيد الرئيس سراً إلى القاهرة، فى نفس ليلة السفر.
(3) قد تعطى تلك التحركات - بجانب بقية عناصر الخداع الاستراتيجى والعسكرى - إحساساً بالأمن الكاذب لدى العدو، وذلك بافتراض عدم رغبته فى توجيه الضربة الأولى. إذ قد يتصور العدو أن مصر لا يمكن أن تبدأ الأعمال الحربية الواسعة، إلا بعد انتهاء زيارة السيد الرئيس للخارج. ويلاحظ فى هذا الشأن، أن شق الخداع العسكرى سيتكفل بإخفاء تحضيرات العمليات، أو توقيتها، أو المحاور المختارة.
ب- قد يرى النظر أيضاً فى مجموعة العناصر التالية فى إطار الخداع الاستراتيجى:
(1) أن يقوم أيضاً السيد وزير الحربية، أو شبيه له، بزيارة دولة عربية أخرى، فى ذات التاريخ وفى قمة التوتر السياسى والعسكرى، بدعوى التحصل على مزيد من الدعم، ولتحقيق نفس الهدف الوارد فى البند السابق.
(2) استغلال التوتر السياسى والعسكرى الذى سيسبق بدء العمليات، فى قيام السيد الرئيس بالدعوة لعقد مؤتمر قمة عربى - لن يعقد فى الحقيقة، لبحث وتحديد مسئوليات الأمة فى الصراع مع إسرائيل. على أن يقترح موعد عقده فى تاريخ لاحق لبدء العمليات. وليكن (ى-3) مثلاً، ومن ثم قد يوهم العدو أن العمل العسكرى العربى لن يأتى إلا بعد الانتهاء من المؤتمر.
(3) قيام وزارة الخارجية بإرسال برقية أو برقيتين رمزيتين إلى جميع بعثاتنا فى الخارج، تشير فى الأولى - مثلاً - إلى وجود نوايا عدوانية لدى العدو، وتطلب من السفارات تكثيف نشاطها لاستشفاف نوايا إسرائيل فى هذا الاتجاه.
كذلك قد تبلغ السفارات بالرمز، ببيان يتضمن سمات وشواهد التعبئة العامة فى إسرائيل. وقد تساعد مثل هذه البرقيات المطولة - إذا ما كسرت - فى إقناع العدو أن التفكير المصرى هو - كعادته - ينتظر الضربة الإسرائيلية، ولا ينوى البدء بها.
(4) من المتصور وجود عشرات من النقاط التى يمكن تضمينها فى خطة الخداع الاستراتيجى على الصعيدين الداخلى والخارجى. وقد يرى النظر فى تشكيل لجنة من وزارة الخارجية الحربية - الإعلام - المخابرات العامة، لوضع خطة متكاملة، تنفذ فى توقيتات محددة، تتلاءم مع التطورات، ومع مراحل الاقتراب من الصدام المسلح، على أن يكون لديها التصور المصرى الكامل لشكل الاقتراب من هذا الصدام».
وأثق اليوم أن من يقرأ هذه المذكرة وهذا الأسلوب فى التفكير... ولو بعد مرور 37 عاماً... سيصل إلى خلاصة مفادها أن مسألة الحرب والمواجهة والصدام ورد الاعتبار كانت أمراً متداولاً على مستوى الأجهزة المصرية العاملة فى حقل الأمن القومى المصرى... وأن الإعداد للعمل العسكرى المصرى كان يتم على قدم وساق وذلك مثلما جاء فى مقال آخر من خلال مذكرة أخرى أعددتها وعقب عليها ''حافظ إسماعيل'' بشكل مستفيض. (المقال المنشور فى عدد الأهرام الصادر يوم 27 أكتوبر 2009).
كما وجدت فى هذا المجال بين أوراقى الشخصية مذكرة أخرى قدمتها إلى السيد «حافظ إسماعيل» بتاريخ 5 ديسمبر 1972 حاولت خلالها أن أوظف فكرة إعداد وقوع اشتباك جوى معد له إعداداً جيداً مع مقاتلات العدو وبما يحقق له خسائر وأن يتم ذلك الاشتباك فى التوقيت الذى قررت فيه مصر أن تذهب إلى الجمعية العامة لعرض قضيتها وبما يقنع المجتمع الدولى بخطورة الموقف واحتمالات تدهوره، ومن ثم فقد يقنع هذا التطور، الدول الكبرى للمزيد من التدخل فى القضية وبدافع تسويتها... وجاءت صياغة هذه المذكرة على الوجه الآتى:-
حول الموقف بالشرق الأوسط:
1- تتحرك أزمة الشرق الأوسط حالياً فى الإطار التالى:
أ- العمل السياسى المصرى فى الجمعية العامة.
ب- التنشيط العسكرى السورى فى جبهة الجولان.
2- من المتصور أن المناخ الذى تتحرك فى إطاره الأزمة، يسمح لمصر بالقيام بعمل عسكرى منفصلISOLATED ومحدود، وذلك فى شكل اشتباك جوى معد له ومخطط مسبقاً.
3- يتيح هذا الاشتباك الجوى لمصر - شريطة تكبيده لإسرائيل خسائر فى مقاتلاتها أو على الأقل، الخروج بمعركة متوازنة - جنى النتائج التالية:
أ- ممارسة الضغط على مناقشات الجمعية العامة.
ب- تأكيد خطورة تفجر الوضع بالمنطقة، خاصة أن مثل هذه الحوادث تتبعها اهتمامات إعلامية دولية كبيرة.
ج- إظهار مشاركة مصر أيضاً - أمام الدول العربية - للنشاط العسكرى المتصاعد بالمنطقة.
د- محاولة التأثير على نظرة العدو، تجاه القدرة العسكرية المصرية.
ه- التأثير على الجبهة الداخلية بمصر ورفع الروح المعنوية للقوات المسلحة المصرية، بعد انتهاء أثر تداعيات الأحداث الأخيرة بها.
4- يمكن القول - فى سياق تحليل وقياس رد الفعل الإسرائيلى - أن إسرائيل لا ترغب حالياً فى تحريك الموقف عسكرياً، على الجبهة المصرية، وقد وضح ذلك فى تصرفاتها فور نشوب العمليات الأخيرة على الجبهة السورية. ومن ثم يمكن توقع عدم حدوث رد فعل عسكرى إسرائيلى قوى، تجاه هذا العمل المصرى المنعزل والمحدود والذى يمكن ترجمته بأنه اشتباك تقليدى مماثل لما يحدث بين الحين والآخر.
كان مستشار الأمن القومى يقرأ كل هذه المذكرات منى أو من أعضاء المكتب الآخرين بالكثير من الاهتمام... فإذا ما استفزته الأفكار... يقوم بالتحدث طويلاً مع العضو أو يكتب له تعقيباً قصيراً أو مستفيضاً بخط جميل ومنمق فى الصفحة وبشكل يثير الدهشة... كما أنه وفى أحيان أخرى كان يوقع بالحروف الأولى على المذكرة ويطلب القيام بإجراء أو مجرد التأشير بأنه قد اطلع على الموضوع مثلما فعل فعلاً مع المذكرة المشار إليها بعاليه... وطبقاً لهذا النهج... كنت قد عرضت عليه فى منتصف يوليو 1973 ورقة أخرى أعددتها فى حينه أقترح فيها فكرة استغلال الجمود الحالى فى الموقف العسكرى، وفشل مجلس الأمن فى التوصل إلى الموافقة على مشروع قرار سعت مصر لطرحه عليه ويتضمن الإطار العام لعناصر التسوية... نتيجة للفيتو الأمريكى.
أقول: اقترحت عليه قيام قواتنا المسلحة بعمل عسكرى مفاجئ ومحدود... أطلقت عليه «عملية إغارة بقوة» وتتمثل فى قيامنا بنقل لواء من القوات الخاصة بالإبرار الجوى إلى منطقة شرم الشيخ... وقيامنا بتدمير كل تجهيزات العدو فى هذه المنطقة على مدى نصف نهار مع انسحابنا فى المساء أو الفجر... وأشرت فى هذا السياق إلى أهمية الحصول على السيطرة الجوية على مستوى المنطقة وأخذت أدافع فى الورقة عن الفكرة وأنها ترسل إلى العدو رسالة جادة بأن لمصر قدرات وأسنان حادة كما أن ذلك كان سيفرض على القيادة الإسرائيلية إبقاء قواتها وعلى مواجهة عريضة فى درجات عالية من التيقظ والطوارئ... وما لذلك بطبيعة الحال من آثار على معنويات القوات المعادية... وقد قرأ «حافظ إسماعيل» الورقة ووقع بالحروف الأولى عليها ولم أتجرأ فى سؤاله عن رأيه أو موقفه مما طرحته.
ومرت عدة أسابيع وسافرت مع مستشار الأمن القومى فى مهمة قصيرة لمقابلة كل من الرئيس الرومانى «تشاوتشيسكو» والرئيس اليوغسلافى «تيتو»... للتحدث حول رؤيتهما لقدرة رئيسة الوزراء «جولدا مائير» على التوصل إلى تسوية سلمية مع مصر... وهى مهمة قام بها «حافظ إسماعيل» بدعوة من رئيسى البلدين للرئيس «السادات» لإيفاد شخصية مصرية للتحدث معهما حول عروض تعرضها إسرائيل... وأثبتت هذه المحاولات أن العروض الإسرائيلية لم تكن تتجاوز الاتفاق على الانسحاب الجزئى الإسرائيلى إلى ممرات سيناء وأن تقوم بافتتاح قناة السويس وإعادة تسكين مدن القناة... وفى رومانيا وعلى أحد شواطئ البحر الأسود فى منطقة تسمى «مانجاليا» أخذ «حافظ إسماعيل» يتذكر قراءاته وولعه بالبحث فى دراسة موضوعات الحرب العالمية الثانية... ونظر إلىّ بنظرة ثاقبة وعميقة وقال: ''لا أستطيع أن أوافقك أو أقبل بفكرة قيامنا بتعريض قواتنا المنقولة جواً لخسائر كبيرة من جراء ما تقترحه فى مذكرتك يا «أحمد».. أنت تفترض حصولنا على السيطرة الجوية المحلية فوق منطقة شرم الشيخ... وهو أمر بالغ الصعوبة... إن قواعدنا الجوية فى المنطقة ليست كافية... ومقاتلاتنا ينقصها المدى... أنت تفكر فى الإغارة بقوة على نمط غارة «دييب» على الساحل الفرنسى فى عام .42 لقد كانت كارثة للحلفاء وخسر فيها الكنديون الكثير من أفرادهم... بل وبلغت خسائر الحلفاء ما بين قتيل وجريح وأسير ما يقرب من خمسة آلاف فرد... واهتزت معنويات الحلفاء... لا أوافق على عمل بهذا الشكل».
لقد تبينت لحظتها أنه - أى «حافظ إسماعيل»- لم يقرأ فقط المذكرة... بل إنه فكر مليا فيها... كما أنه استوعب الفكرة بالكامل من واقع قراءاته فى الحرب العالمية الثانية... ويجب هنا أن أعترف أن الفكرة ذاتها جاءتنى بعد قراءات مختلفة حول إغارة «دييب» التى تناولها هو بالتعقيب.
لقد كان محور التفكير والعمل مع مستشار الأمن القومى... هو البحث الدائم فى كيفية تأمين مناخ سياسى يوفر كل الإمكانيات لضربة مصرية عسكرية تغير من موازين الموقف... ووقعت الضربة... وحققت أهدافها العسكرية والسياسية فى نهاية المطاف رغم لحظات حساسة أو ربما مخيفة اهتزت فيها الأمور أمام الكثير منا... إلا أننا وفى نهاية المطاف نجحنا فى تحريك المياه الراكدة والتحرك فى اتجاه تسوية سياسية تعتمد على فاعلية وكفاءة وقدرة القوات المسلحة المصرية وكذلك من خلال الوقفة البترولية العربية الصارمة، وأخيراً نتيجة للنجاح فى دفع الولايات المتحدة لأخذ مسئولية تحقيق السلام على عاتقها.
*الثغرة وتطويرالهجوم
لقد قيل الكثير... وتساءل الكثيرون عن أسباب عدم مضى مصر فى الصدام المسلح أثناء الفترة الصعبة التى مرت بها قواتنا فى منطقة الاختراق والثغرة الإسرائيلية... ولم يتبين هؤلاء أن مصر كانت تتلقى سلاحها كله من الاتحاد السوفيتى... وأن السوفيت كانوا يعطون أولوية للإمداد السوفيتى الكثيف لسوريا باحتياجاتها من السلاح... وأن محاولات الرئيس «السادات» والقادة والمسئولين المصريين فى إقناع السوفيت بموافاتنا بكميات من المعدات والمقاتلات تؤمن لنا ضرب الاختراق... كانت تواجه بتعقيدات كثيرة من قبل السوفيت... لقد كان الاتحاد السوفيتى يرصد التحرك نحو أمريكا وكلما اقترب منا «كسنجر» أو اقتربنا من واشنطن ابتعد السوفيت عنا... وكان ذلك جوهر الموقف المعقد... كنا نرى أن الولايات المتحدة... وبعد الضربة العسكرية... هى المفتاح لتحقيق التسوية... وكنا نأمل فى نفس الوقت الإبقاء على قدرات عسكرية عالية يتيحها السوفيت الذين كانوا لا يثقون فى النوايا المصرية... إلا أنهم... على الجانب الآخر... لم يكونوا قد فقدوا الأمل فى الحفاظ على علاقة مصرية/ سوفيتية إيجابية.
لقد كشفت معركة .73 وكذلك مأساة .67 أن من لا يصنع سلاحه أو يوفر مصادر أجنبية متواصلة وسريعة له يبقى دائماً رهناً للضغوط... كما أن عليه أن يتجنب الدخول فى مواجهات مسلحة واسعة... لأن خسرانه لسلاحه دون تعويض مناسب ومؤكد.. سوف يؤدى إلى خسرانه للكثير.
لقد دار الكثير من النقاشات والحوارات حول تأخر القوات المسلحة فى تطوير الهجوم فور تحقيق الصدمة وهزيمة العدو بشكل كامل فى حصون خط بارليف... وأنه كان ينبغى التحرك وبسرعة لاستغلال النجاح والوصول إلى الممرات واحتلالها ومنع عودة العدو إلى مناطق غرب سيناء... وكنت خلال هذه الأيام الأولى للنجاح المصرى أكتب لنفسى وبشكل مستمر... عن الحاجة لعدم التوقف وأهمية استغلال النجاح... وكتبت فى يومياتى سعت 0200 يوم الأربعاء 10 أكتوبر... أى بعد ثلاثة أيام ونصف من بدء العمليات... إن هناك خشية من المواقف الأمريكية، ثم تساءلت: عما إذا كنا نستطيع إقناع الأمريكيين بأننا لا ننوى الاستمرار فى الصدام العسكرى لما بعد تحقق الوصول إلى ممرات سيناء. وكانت هذه هى المرة الأولى التى تظهر فيها الإشارة إلى الممرات كهدف عسكرى مصرى... ثم عدت إلى المسألة مرة أخرى فيما سجلته فى نفس اليوم (الأربعاء 10 أكتوبر) سعت 1900 وتساءلت: «متى ننطلق إلى الممرات»؟.
واستمرت المعركة وتم تطوير الهجوم يوم 14 أكتوبر... واهتز الموقف بعد ذلك حتى وصلنا إلى وقف إطلاق النار يوم 28 أكتوبر...
لقد تبين الكثيرون فى حينه أنه كان من الضرورى تطوير الهجوم والوصول إلى الممرات فور ضرب الهجمات المضادة غير المؤثرة التى قام بها العدو فى الفترة من 8 حتى 10 أكتوبر... وأنه لما كان الوقت على التطوير قد فات فى حينه... فما كان على الجيش أن يطور الهجوم بعد هذا التاريخ وكان يجب الاكتفاء بالدفاع الصلب الذى هزم كل الضربات المضادة والاحتفاظ بالقوات المدرعة كاحتياطى استراتيجى سواء فى الشرق أو الغرب.
وأقول اليوم إنه وإذا ما كنا قد تمسكنا بالأرض... دون تطوير للهجوم لما كنا قد تعرضنا للوضع الذى حل بنا بعد 16 أكتوبر .73 ولكانت التسوية المصرية/ الإسرائيلية قد تحققت بشكل أسرع كثيراً عما تم على مدى السنوات التالية بين نوفمبر 73 وحتى أبريل .1982 وإن كنت أتصور أن هذه التسوية كانت ستتم بنفس المعايير والأطر التى تمت بها فى نهاية الأمر بعد صدمة زيارة القدس.
لقد كانت زيارة «السادات» للقدس بمثابة تطوير للهجوم ووثبة للأمام فى إطار هدف قومى واستراتيجية يتناوب فيها العمل العسكرى ثم السياسى أدواره المتتابعة.
لقد وقعت أخطاء فادحة أثناء مكافحة الثغرة والاختراق... إلا أنه وباستعادة التوازن للقوات... فقد وضح عندئذ أن إسرائيل قد وضعت قواتها أيضاً فى متناول العقاب المصرى... ومن ثم رأى الجانبان المصرى والإسرائيلى... وبمساعدة أمريكية نشطة... أهمية تفادى تجديد الصدام والعودة إلى العمل السياسى عبر الولايات المتحدة.
وتبقى نقطة أخيرة أستشعر أهمية التحدث فيها حول الأسباب الحقيقية لقرار التطوير المتأخر... وهل جاء فعلاً للتخفيف عن سوريا. وإذا كنت أستشعر أن هذا التسبيب صحيح إلى حد ما، إلا أن حقيقة الأمر فى تقديرى تتمثل فى أن النجاح المحقق فى العبور وتدمير خط بارليف وظهور فاعلية قواتنا المسلحة فى ضرب هجمات مضادة إسرائيلية متعجلة ومع التأكد من تأثير القوات الجوية المصرية التى كان هناك دائماً خشية عليها... قرر الرئيس «السادات» أن يمضى فى قرار التطوير متأثراً بهذه النجاحات ودون الأخذ فى الحسبان عواقب الفشل وأخطاره. من هنا أقول إن تخلى «السادات» عن حذره أدى إلى نتائج ضارة بنا، إلا أنها ولا شك الحرب.. فى كل أبعادها وضبابها.
فى الخلاصة، هناك عدة نقاط يهمنى أن أختتم بها هذه السلسلة من مقالات حرب أكتوبر وهى:- أولاً: أننى رأيت اللواء أركان حرب «حسنى مبارك» قائد القوات الجوية المصرية لأول مرة فى قصر عبد المنعم عندما حضر ليومين متتاليين فى ساعة متأخرة من المساء لكى يقابل الرئيس «السادات» فى خضم المعركة وخلال أيامها الحاسمة ابتداء من اللحظات الصعبة والحاسمة يوم 18 أكتوبر... لقد رأيت عسكرياً هادئاً للغاية يتحدث ويتناول الأمور الصعبة بشكل تحليلى عميق وبدون صخب أو توتر... وكان لى أحاديث مع «أحمد ماهر السيد» وحيث كنا نعبر عن استغرابنا لهذا الهدوء الذى يعكسه وجه قائد القوات الجوية التى تتحمل الكثير من المهام فى هذه الظروف بالغة الحساسية وكان الملاحظ أنه قبل بدعوة مستشار الأمن القومى للعشاء قبل الذهاب لمقابلة الرئيس «السادات» فى قصر الطاهرة.
ثانيا: أن نتائج الحرب ظهرت بشكل مبكر جداً... وحيث التزمت الولايات المتحدة بتنفيذ تسوية سياسية... أعادت فى نهاية الأمر كل الأراضى المصرية فى سيناء إلى الوطن الأم... وقد يقول قائل إنه كان بإمكاننا أن نفعل هذا أو ذاك... وقد يكون أصحاب هذا الرأى صائبين فى قراءاتهم للموقف... إلا أن المؤكد أن الرئيس «السادات» كان قد وصل فى نهاية عام 73 إلى نهاية الطريق مع السوفيت وافترق الجانبان واتجهت مصر إلى استعادة علاقة بدأت تنحى وبسرعة إلى شكل العلاقة الاستراتيجية مع الولايات المتحدة... لقد طبقت مصر وبدقة المقولة البريطانية الشهيرة... «أنه لا عداوات دائمة أو صداقات دائمة فى علاقات الدول... ولكن مصالح دائمة تحركها».
وقد تحركت مصر وراء مصالحها بشكل أساسى مع الإبقاء على سعيها والتزامها لمساعدة سوريا وتأييدها لحقوق الفلسطينيين.
ثالثاً: أن السنوات التالية لانتهاء الصدام المسلح فى عام 73 وبدء التسوية السياسية على مراحل... شهدت انطلاقاً سياسياً وتوسعاً استراتيجياً ضخماً للاتحاد السوفيتى... وظهر السوفيت من خلال شركائهم الكوبيين واليسار الدولى والأفريقى فى مناطق مثل أنجولا/ موزمبيق/ أثيوبيا وغيرها... ثم جاء التحرك السوفيتى فى احتلال أفغانستان... وبدأ الغرب فى مواجهة هذا التوسع السوفيتى... خاصة أن الولايات المتحدة استشعرت الهزيمة فى فيتنام وأنها قد أصبحت فى وضع الدفاع الاستراتيجى... وضغط الغرب على السوفيت... وامتد سباق التسلح إلى آفاق جديدة غير مسبوقة... وأخذ الاقتصاد السوفيتى تحت ضغط المواجهة ينحسر... وانتهى الأمر بانفجار الاتحاد السوفيتى قبل مرور عقدين من حرب .73 وأخذ البعض يتساءل عما كان سيحدث لدولة مثل مصر، اعتمدت بشكل كامل على التنافس بين القوتين العظميين فى بناء قدراتها المسلحة واستخدمت الدعم العسكرى السوفيتى للتصدى للتوسع الإسرائيلى. وسوف يبقى هنا السؤال مشروعاً ومطروحاً... خاصة أن صدام 73 كشف عن قدرات هائلة للأسلحة الهجومية والدفاعية وإمكانيات تدميرية عالية أدت... على سبيل المثال... لخسارة إسرائيل ما يقرب من ثمانمائة دبابة على الجبهة المصرية فقط... إن تعويض هذا النوع من الخسائر لم يكن ليستطيع أى طرف أن يستعوضه فى حينه وحتى اليوم إلا مثل هذه القوى العظمى التى لم يعد موجوداً منها اليوم ومنذ نهاية الحرب الباردة سوى الولايات المتحدة. لقد كان أمراً طيباً أن تخلصت مصر من الاحتلال الإسرائيلى فى فترة سابقة على الاضمحلال السوفيتى... وإلا ما كنا قد شهدنا تحرير سيناء فى تقديرى.
رابعاً: أنه وبافتراض أن مصر قد تمكنت من استبدال عنصر التسليح السوفيتى بقوة دولية أخرى... فإن المؤكد أن التطورات التى شهدها التسليح الدولى والنوعيات المتطورة والأجيال الجديدة من الدبابات والمقاتلات وشكل الحرب الحديثة التى بزغت مع الثمانينيات... كانت ستفرض ثقلها على مصر التى ما كانت ستتمكن من تمويل احتياجاتها من السلاح الحديث باهظ التكلفة... لقد كانت تكلفة المقاتلة الميج 17 فى عام 56 حوالى 25 ألف جنيه إسترلينى... ثم وصل سعر الميج 21 فى بداية الستينيات إلى حوالى 150 ألف جنيه استرلينى... ورأينا تكلفة المقاتلة الميراج فى عام .74 بحوالى 15-20 مليون دولار... وهى حقائق ينبغى دائماً وضعها فى الحسبان عند الحديث عن الحرب والسلام.
لقد كتبت حول هذه النقطة تحديداً مذكرة بتاريخ 25 يوليو 73 وعرضت على مستشار الأمن القومى فى نفس اليوم... جاء نصها:
حول مستقبل التسليح فى الشرق الأوسط:
أولاً: عام:
1- نشرت وكالات الأنباء نقلاً عن مجلة «أفييشن ويك» الأمريكية، أن إسرائيل قد عبرت عن اهتمامها للولايات المتحدة، فى الحصول على المقاتلة الأمريكية الجديدة(F14) فى خلال الربع الأخير من العقد الحالى، كى تحل مكان الفانتوم التى ستبدأ فى التقادم - بالنسبة لإسرائيل - خلال الثمانينيات.
2- أشارت وكالات الأنباء أيضاً، أن شاه إيران سيناقش خلال زيارته الحالية لواشنطن، احتمال حصول بلاده على هذه المقاتلة الجديدة.
3- المعروف أن الولايات المتحدة ستنتج حوالى 400 وحدة من المقاتلة الجديدة، وأنها ستدخل الخدمة فى البحرية الأمريكية فى خلال عام .1974
4- تبلغ تكلفة هذه المقاتلة، حوالى 15 - 20 مليون دولار.
ثانياً: مستقبل التسليح فى المنطقة:
5- يمكن القول، إن تجربة الصراع العربى - الإسرائيلى فى السنوات العشرين السابقة، تثبت أن دول المنطقة تطمح دائماً إلى الحصول على نوعيات متقدمة من التسليح، الأمر الذى أدى إلى اندلاع سباق متصاعد للتسلح من جانب الأطراف المختلفة.
6- إلا أنه من ناحية أخرى، توضح التطورات النوعية الحالية للأسلحة المختلفة، الارتفاع الضخم فى تكاليف الإنتاج، وهو ما انعكس على حجم الأعداد المنتجة أو المستخدمة من نوع معين، كذا أسعار البيع بقصد التصدير.
7- والواقع أنه يمكن القول: إن تلك التطورات والمعطيات - وبفرض صحتها - تفرض على مصر ضرورة القيام بدراسة آثارها المستقبلية - كأحد عناصر تقييم الموقف - فيما يخص احتمال امتداد المواجهة العسكرية بين مصر وإسرائيل إلى الثمانينيات، وذلك على الوجه التالى:
أ- هل ستستمر مصر وإسرائيل فعلاً، بافتراض عدم توصلهما إلى تسوية سياسية فى السبعينيات، فى السباق الحالى من أجل التسلح المتطور فى الحقبة القادمة.
ب- كذلك هل ستستطيع القدرات الذاتية المادية لمصر، أن تساير هذا التطور فى الثمانينيات. كما هل ستنجح المعرفة الفنية والعلمية، كذا أسلوب الإدارة والقيادة المصرية فى التلاؤم مع هذا التطور الجديد.
ج- ثم هل ستبقى أعداد وكميات الأسلحة الأساسية المتوافرة لدى أى من الطرفين على وضعها الحالى، أم أن ارتفاع القيمة وتكاليف التشغيل والاستخدام، ستفرض عليهما إنقاص الأعداد المستخدمة من جانبهما بنسبة كبيرة، وما يعكسه ذلك من مزايا أو عيوب يتمتع بها أو يتعرض لها أيهما.
د-ثم يبقى السؤال الأخير.. هل سيكون فى صالح أو قدرة مصر، فى ضوء تلك التطورات، امتداد المواجهة العسكرية مع إسرائيل إلى الثمانينيات، أم أن الأمر قد يفرض ضرورة إنهاء تلك المواجهة بشكل أو بآخر - فى جانبها العسكرى - قبل تحول الظروف كلية إلى غير صالح مصر.
8- فى ضوء ذلك، فإنه من المرجح أن الأسباب التى تمنع مصر من القيام بعمل عسكرى فى الحاضر ستستمر، بل وستزداد حدتها فى غير صالح مصر فى المستقبل، الأمر الذى يدعو بإلحاح إلى تقييم الموقف، والبحث عن حل فى إطار تلك المعطيات.
خامساً: لقد كشفت حرب 73 عن نجاح الجانب العربى فى تضييق الثغرة التكنولوجية والكيفية مع إسرائيل. كما أوضحت المعارك أن الأطراف المتصارعة ستضطر - إذا ما استمرت المواجهة المسلحة لفترة طويلة فى المستقبل - للاحتفاظ ب/ وتخزين كميات ضخمة للغاية من المعدات والسلاح وذلك لتأمين سرعة استعواض الخسائر الهائلة... خاصة أن عدم التخزين سوف يفرض على كل طرف أن يعتمد على قوة كبرى تدعمه وما فى ذلك من تأثير على قدرة المناورة وفرض الإرادة على الخصوم أو الحلفاء.
سادساً: لقد وعت إسرائيل الدرس القائل بأنها إذا لم تترك أمام خصمها اختيارات معقولة للحركة... فقد يجد الخصم أن مصلحته هى اللجوء إلى الحرب والعمل العسكرى حتى إذا ما كان أقل فى قدراته العسكرية... وقد كانت إسرائيل تعتقد أن الرئيس «السادات» ومصر لن تلجأ للصدام المسلح اقتناعاً منها بأن مصر عاجزة وليس لديها أمل فى النصر... أو حتى تحاشى الهزيمة. إلا أن إسرائيل غفلت فى تقديرها هذا... عن أن الرئيس «السادات» وجد فائدة فى اللجوء إلى الحرب عندما وجد فرصة معقولة لتحقيق الأهداف العسكرية المحدودة للعمل العسكرى المصرى ثم توابعه السياسية البراقة.
سابعاً: لقد كشف الصدام المسلح أيضاً أن إسرائيل ما كان لها أن تبقى بعد معركة 73 على الأمر الواقع أو الاحتلال لسيناء... كما انكشف وهم السيطرة على شرم الشيخ كعنصر محورى للأمن الإسرائيلى. وأن الجغرافيا من ناحية وتكنولوجيا الصواريخ من ناحية أخرى كان لهما تأثير حاسم فى التأثير على مفاهيم الأمن مثلما كانت إسرائيل تتمسك بها حتى ظهر 6 أكتوبر.73
ثامناً: والخلاصة أن الحرب وعبقرية الأداء العسكرى والسياسى وضعا مصر فى أحسن الظروف من أجل التوصل إلى تسوية تستعيد بها مصر سيطرتها وسيادتها الكاملة على سيناء. كما كشف الصدام لمصر، وللإسرائيليين بشكل أساسى، أننا كنا دائمى الانتقاص من قدرتنا العسكرية الحقيقية... وأن نتائج القتال وصلابة المقاتلين كشفت عن معدن مصرى قادر يجب أخذه فى الحسبان سلماً أو حرباً ومواجهة.
لقد تمثل الوضع الجديد فى الشرق الأوسط ولسنوات تالية ممتدة... فى هبوط طائرة أمريكية عملاقة من طراز C5A جلاكسى فى مطار القاهرة فى أبريل 74 آتية بمعدات وسيارات أمريكية لتأمين زيارة الرئيس الأمريكى «نيكسون» فى الزيارة الأولى لرئيس أمريكى للقاهرة منذ زيارة الرئيس «روزفلت» أثناء الحرب العالمية الثانية.
وكنت يومها أنظر من إحدى نوافذ منزلى المطلة على ممر الاقتراب والهبوط فى مطار القاهرة الدولى وتأملت الموقف... وقلت فى نفسى... لعلها فى لحظة ما كانت إحدى الطائرات التى نقلت الدبابات إلى مطار العريش وإلى الجيش الإسرائيلى فى سيناء... ولكنها مرة أخرى السياسة الدولية والمصالح وتطويع المواقف لتحقيق الأهداف العليا للدول... ومصر فى ذلك، مثل أى طرف دولى آخر يسعى لمصالحه ولمصالح أمنه.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.