انتمي إلي جيل لم يعرف الفتنة الطائفية. جيل كان مجبولا علي التسامح والمساواة بحكم فطرته وثقافته بالمعني الواسع لمفهوم الثقافة أي التقاليد والقيم وأنماط السلوك, التي نشأ عليها, وتناقلت اليه من الوسط المحيط, الآباء والأجداد والجيران والمدرسة ووسائل الإعلام التي كانت ممثلة آنذاك في الإذاعة المصرية. كان بعض أبناء جيلي ومن بينهم كاتب هذه السطور يذهب إلي دروس الأحد في منزل عمدة القرية, التي كان يلقيها بعض القسس المسيحيين القادمين من المدينة, ولم يجد هؤلاء حرجا في ذلك, بل حفظ بعضهم تلك الترانيم وبعض آيات الإنجيل, ولم ينهنا أحد من الاباء أو الكبار من المسلمين عن حضور هذه الدروس, لأن أولئك وهؤلاء من المسلمين والمسيحيين كانوا يمثلون نسيجا واحدا متداخلا ومترابطا ومتعايشا, يصعب الفصل والتمييز بين مكوناته التاريخية والثقافية, باختصار لأن إرادة الفصل والتمييز لم تكن قائمة أصلا, ولم يفكر فيها أحدا, وكانت خارج أطر التفكير والوعي والفطرة السليمة السوية. لم يعرف جيلي الفتنة الطائفية, بل لم يسمع عنها من الأصل, إلا منذ عقد السبعينيات وما تلاه من عقود.. مع تعاقب وتغير العهود وتقلبات السياسة والأزمات المتلاحقة التي عانت منها مصر المحروسة ولم تنته من علاجها بعد. لم يفعل مرور الزمن وتعاقب الأعوام وتقدم العمر, سوي ترقية هذه النواة الثقافية المكتسبة وتغذية تلك الفطرة السليمة والسوية التي كانت تميز جيلي والأجيال التي سبقته, بل أضاف التعليم والوعي والتنوير والخبرة وتبادلها مع الأوساط والدوائر التي اندمجنا فيها, وأصبحنا جزءا منها طبقات جديدة من المعارف, التي تغذي هذه الروح, روح الإنسانية المشتركة بين أبناء الوطن الواحد وربما بدرجات متفاوتة بين البشر جميعا. غير أن الأهم من ذلك, أن تطور الوعي والمعارف والثقافة قد كشف لنا حقيقة وأبعاد هذا التوجه التلقائي والعفوي نحو التسامح والمساواة الذي ميز أبناء جيلي والأجيال التي سبقته, فأصبحنا ندرك أن المصريين في عمومهم لا يفصلون بحال من الأحوال بين الدين والأخلاق, تلك الأخلاق التي لا تعني لدي المصريين سوي الرحمة والعدالة وإغاثة المظلوم واستنكار الظلم والقسوة مهما كان مصدرها, وغير مقبول لدي عموم المصريين أن يرتبط التدين بالقسوة أو بالعنف بكافة أشكاله اللفظية والرمزية والمادية, كما أن مبررات هذه القسوة وهذا العنف مرفوضة كذلك مهما ارتفعت مكانة ونفوذ أصحابها. ماذا حدث للمصريين؟ وكيف نحول دون تفاقم هذه الظاهرة التي تهدد النسيج الوطني التاريخي بين عنصري الأمة, وكيف تحول المصري المسيحي إلي ما يسمي الآخر كما لو كان قادما من إحدي الدول الأوروبية أو غير الأوروبية البعيدة رغم أنه يشارك أخاه المصري المسلم الوطن واللغة والثقافة والميراث الثقافي والأخلاقي والأرض والزرع والسكن؟ كيف نتحدث ذات اللغة ونتصرف ونسلك استلهاما لذات الثقافة وذات السحنة, ويتحول أحدنا إلي آخر يتوجب التسامح مثله في ذلك كمثل غيره من الشعوب والأقوام؟! لاشك أن هذه الأسئلة الكبري تمثل معضلات وإشكاليات وتحديات من العيار الثقيل, وبحاجة إلي تكاتف جهود النخبة الثقافية بكافة تنوعاتها وأطيافها لتقديم مقاربات وإجابات حديثة وعصرية وتلائم احتياجات التطور الراهن والتوق إلي استعادة حيوية النسيج الوطني. ورغم تعقد هذه الأسئلة وصعوبة الاجابة عنها, إلا أنه بمقدورنا أن نسوق بعض عناصر الاجابة القابلة للحوار والنقاش والجدل, فباديء ذي بدء ألفنا نحن المصريين والمثقفين منا علي نحو خاص الركون إلي قوة هذا النسيج الوطني المصري, الذي ربط ويربط بين المصريين مسلمين ومسيحيين, بل وقدرة هذا النسيج الأبدية والسرمدية والذاتية علي مقاومة آثار التغير الذي شهدته مصر والعالم خلال العقود المنصرمة علي تماسك النسيج الوطني, واستندنا إلي التسليم بحتمية بقاء التماسك الوطني والوحدة بين عنصري الأمة دون تدخل منا. وهذا التفكير ذو الطابع السكوني الجامد يتجاهل قدرة موجات التغير والتغيير, علي أن تطال أكثر الأشياء ثباتا في اعتقادنا, وأنه ليس هناك من الأشياء والظواهر ما يحظي بمناعة وحصانة ضد التغير, من المؤكد أن مصر علي نحو خاص تحظي بالقدرة علي الجمع بين الثبات والتغير في آن, وأن الاستمرارية التاريخية تطبع تاريخ كافة الظواهر في مصر فثمة القديم والجديد, المحلي والوافد, الأصيل والمقتبس في غالبية المكونات الثقافية والسياسية وربما الدينية أيضا. بيد أن ذلك لا يبرر الاطمئنان واليقين وأن تترك الأمور علي ما هي عليه حتي نفاجأ بتحول التغيرات الصغري إلي تراكمات كبيرة تخلق ظواهر نفاجأ بها وكأننا لا ندري عنها شيئا, ومن ثم فإن العكوف علي دراسة وبحث مظاهر التغير واحتواء مضاعفاتها وآثارها يمثل صمام الأمان بوضع خطط وسياسات للحفاظ علي الوحدة الوطنية وتماسك النسيج الوطني. علي صعيد آخر فإن عموم المصريين وفي حقب طويلة من تاريخهم القديم كانوا يرون في الدين والتدين مستودع الرحمة والعدل والخلاص من الظلم, ومن ثم فإن الدين في الآونة الراهنة أصبح طريقا للخلاص كبديل للخلاص الاجتماعي والسياسي ومعالجة قضاياهم, ولاشك أن التمركز حول الخلاص الديني قد أفضي إلي تهميش مسار الخلاص الاجتماعي والسياسي, وأبعد أعدادا كبيرة من المصريين مسلمين ومسيحيين عن المشاركة في الحياة السياسية, والتوافق حول مسالك ودروب مختلفة لصياغة معالم الخلاص السياسي والاجتماعي, وقنع هؤلاء بالسلبية والتحصن خلف المعتقدات الدينية والأطر العقائدية. يضاف إلي ذلك أن تفكك العالم ثنائي القطبية وتآكل المشروعات الكبري قد ساهم في العودة إلي الهويات الفرعية الدينية علي نحو خاص لمواجهة تفتت الهويات الكبري الجامعة التي تتجاوز الخصوصيات العرقية والدينية والثقافية. ولمواجهة آثار وتداعيات موجات التغير علي النسيج الوطني في مصر لابد من التشديد علي ضرورة الانخراط الجماعي لعموم المصريين في أطر وفاعليات مدنية وسياسية لتحقيق خلاصهم الاجتماعي والسياسي عبر تطور الديمقراطية والمشاركة وتعميق قيم ومباديء الدولة المدنية الحديثة واستكمال مشروع الدولة الحديثة عبر التشريعات والقوانين التي تترجم هذه المباديء وتجعل منها واقعا ملموسا في حياة المصريين وكذلك قطع الطريق علي الدولة الدينية دون أن يعني ذلك استبعاد المكون الديني التاريخي والحضاري. ومن ناحية أخري فإنه إذا صدقت النيات بصدد استعادة الوحدة الوطنية وتماسك النسيج الوطني المصري وهي صادقة فلابد من إدماج قيم المواطنة ومبادئها وحقوقها وواجباتها في النظام التعليمي ضمن مقرر يتضمن هذه المباديء وشرحها واستلهام القيم التي تدعو اليها وذلك لتمكين هذه الأجيال والأجيال التي تليها من تملك ثقافة المواطنة منذ نعومة أظفارها والاسترشاد بها في الممارسة العملية لدي بلوغها درجة النضج والوعي التي تؤهله للمشاركة في هموم وقضايا الجماعة المصرية. وفي هذا الإطار من الضروري إفساح المجال علي الصعيد الإعلامي الرسمي وغير الرسمي لحضور الرموز الدينية المسيحية جنبا إلي جنب مع الرموز الدينية الإسلامية واستلهام تلك التقاليد العريقة في الثقافة الشعبية المصرية لتجاور الأولياء الصالحين من المسلمين والقديسين من المسيحيين تلك الثقافة التي لم تميز بين أولئك وهؤلاء حيث تحتفل بموالدهم وتتبرك بزيارتهم وتوجد بين المسلمين والمسيحيين في طقوس الابتهاج والحزن علي حد سواء. وإذا أضفنا إلي ذلك تأكيد حضور الدولة وأجهزتها المختلفة وليس الأمنية فحسب والاتجاه صوب توافق وطني يحظر المساس بعقائد المصريين ومعتقداتهم الدينية فربما يتضح ذلك الطريق نحو الوحدة الوطنية الذي ينبغي أن يكون الهاجس الأول لكافة الأطراف لأنه صمام الأمان في مسيرة مصر المحروسة. المزيد من مقالات د. عبد العليم محمد