أذكر أنني قرأت حوارا قصيرا دار بين طفل في الحادية عشرة من عمره مع أبيه، كانا يحتسيان الشاي أمام شاشة التليفزيون، بعد أن انتهي الصغير من متابعة ما يتابعه علي الانترنت.. وهو من الأمور العادية، أما غير المعتاد هو الحوار القصير الذي دار بين الأب والصغير، حتي أنه انتهي في دقيقة واحدة:قال الأب: انتبه ولا تشغل نفسك بمتابعة الكلب.رد الولد: ما الجديد علي شاشة التليفزيون حتي أتابعه?عقب الأب: استمع إلي آخر الأخبار!وقف الولد وبدأ يلعب مع كلبه، ثم قال: أعرفها، هذه أخبار قديمة، تابعتها علي الانترنت فور عودتي من المدرسة.فلما تلبست الرجل الدهشة، لم يجد سوي التعبير عن عدم الرضا بحركة من يديه، تابع الصغير علي الفور، وقال له:الابن: أنتم جيل غير جيلنا!يجب أن أشير هنا أن الولد وأباه أمريكيان، وأن الأب لم يبلغ الأربعين من عمره، وأخيرا والأهم، هذا الحوار في منتصف التسعينيات من القرن الماضي. أظن أن كاتب أدب الطفل الآن يعيش في ورطة تماثل ورطة الأب الأمريكي. فمن جانب بات الطفل الآن في قبضة مؤسسات فاعلة ومؤثرة بأكثر من تأثير الأب نفسه، وعلي الجانب الآخر، علي كاتب أدب الأطفال أن يعي تلك المتغيرات سريعا، وتفهم طريقة ما للتعامل بها ومعها. يخضع طفل اليوم لمؤثرات فاعلة ضمن دوائر ثلاث.. دائرة مؤسسة الإعلام والاتصال، ودائرة مؤسسة التعليم ثانيا، ثم دائرة مؤسسة الأسرة أخيرا.. وبالتالي لابد أن يتضح اختلاف بين جيل "المبدع" مهما كان في مقتبل العمر، وجيل المخاطب وهو الطفل الآن. أي أن هناك اختلافا بين جيل طالع وجيل في منتصف أو آخر العمر! مع الطفل الآن غلبت ثقافة "الصورة" بكل ايجابياتها (فضلا عن سلبياتها).. للصورة أهميتها التربوية والتثقيفية والتعليمية, وكذا في عالم الاتصال والفنون السمعية والبصرية، ومع ذلك فالسلبيات عديدة ولافتة: منها هيمنة ثقافة المظهر والشكل والإبهار والاستعراض علي حساب ثقافة الجوهر والمضمون والقيمة والعمق. حيث تتحول الصورة إلي واقع بدلا من أن تعكس الواقع.. هيمنة الصورة في صورتها السلبية, يعد معاكساً للإبداع, وما أحوجنا إليه في حياتنا اليومية.. ذلك نظرا لهيمنة ثقافة الكثرة والنقل والمحاكاة عن غيرنا.. مع هيمنة ثقافة صناعة النجوم, وما يستتبعها من أساليب غير أخلاقية.. ثم ما يعرف بجرائم الصورة (جرائم الانترنت) وهي تقوم علي الخداع واستخدام الصور المزيفة أو حتي الحقيقية لوقوع الضحية، مثل التشهير والإساءات التي يقذف بها البعض، ومع سرعة النقل والانتشار، تصبح واقعة كاملة أركان الجريمة. ربما لو اقتربنا من عنصر نشأة المبدع والطفل، نقترب أكثر من توضيح الفكرة، والكشف عن الاختلاف الجوهري في عنصر التكوين الأولي لدي الطرفين!ففي نموذج "البطل والبطولة" عند جيل/أجيال كتاب الإبداع الأدبي والفني للطفل.. كان البطل هو "طرازان" و"زورو"، الشخصية المفعمة بالمغامرة والنزوع إلي استخدام العنف والقوة العضلية الخارقة من أجل استرداد حقه الشخصي مدفوعا بالرغبة في الهيمنة.. ثم أصبح البطل القدوة هو "تومي وجيري" و"ميكي" و"نماذج ديزني لاند الأمريكية" القادرة باستخدام "العقل" وبالدهاء يمكن قهر القوة العضلية.. ثم غلب البطل "الآلة" القادرة علي اجتياز آفاق السماء، وانتقل الصراع إلي السماء/ السماوات البعيدة، أصبحت حروبا بين الكواكب، بين الإنسان بآلته الجديدة في مقابل كائنات غامضة بآلاتهم الأكثر أو الأقل تقدما.. أما البطل التراثي الذي انفتح عليه كاتب الطفل (من قبل) هو "جحا" و"الشاطر حسن" و"نماذج أبطال الحكايات الشعبية مثل أمنا الغولة، وأبو رجل مسلوخة".. ثم جاء جيل من المبدعين نشأ وتربي علي نماذج للبطل والبطولة، حاولت الساحة الثقافية العربية طرحها في أنماط متشابهة مثل "سمير، ماجد، باسل، علاء الدين، العربي الصغير، باسم.. " وهي غالبا ما تتسم بالنزعة الوطنية، بالمعني الضيق المحاصر بحدود هذا البلد العربي أو تلك.. دون الانتقال إلي المعاني الشاملة للقومية أو القيم المجردة للإنسانية، في أغلب ما طرح من أعمال منشورة، بينما نموذج "البطل والبطولة" للطفل المخاطب الآن، ليس له شخصية ما بقدر ما هو (نمط) محدد بصفات ما.. ألا وهي السرعة إلي حد التجاوز، القوة إلي حد البطش، الحيلة دون النظر إلي نتائجها اللهم إلا إذا اعتبرنا (العنف) وسيلة ونتيجة في ذاتها. هذا بالإضافة إلي عنصر (التفاعل) والمشاركة، حيث لا تتم تلك الألعاب الالكترونية إلا بأنامل الطفل وتفاعله مع اللعبة علي تلك أجهزة الالكترونية، التي انتقلت سريعا من محدودية الإمكانات إلي أجهزة والعاب يمكن أن تماثل الواقع أو بديلا عنه مثل مبارايات كرة القدم، وسباقات السيارات.. وغيره. نحن اذن أمام كاتب أو مبدع للطفل نشأ وتربي علي نمط سلبي الاستقبال غير متفاعل، وعليه أن يقرأ أو يري مكبل الفكر والحركة في انتظار النتائج التي يطرحها عليه صاحب العمل أو الحكاية أو اللعبة.. في مقابل طفل (جديد) متفاعل مع المعطي له علي أنه لعبة أو حكاية أو هو نص الكتروني رقمي.إذا كان الطفل هو المستقبل, فلا أقل من معاودة الحساب والتركيز علي كل ما يخصه مستقبلا.. ولا يتحقق ذلك إلا بأن نعد أنفسنا نحن الكبار أولا، لإنجاز تلك المهمة الصعبة! [email protected]