الاحتفال بأعياد تحرير سيناء.. نهضة في قطاع التعليم بجنوب سيناء    هذه الأنشطة لا تخضع لمواعيد الغلق في التوقيت الصيفي 2024    المرصد الأورومتوسطي يطالب بتحرك دولي عاجل بعد كشفه تفاصيل مروعة عن المقابر الجماعية في غزة    موعد مباراة ليفربول المقبلة في الدوري الإنجليزي بعد الخسارة أمام إيفرتون    أبو رجيلة: فوجئت بتكريم الأهلي.. ومتفائل بقدرة الزمالك على تخطي عقبة دريمز    الأرصاد تعلن موعد انكسار الموجة الحارة وتكشف عن سقوط أمطار اليوم على عدة مناطق (فيديو)    إصابة 9 أشخاص في حريق منزل بأسيوط    أشرف زكى وريهام عبد الغفور ومحمد رياض وخالد جلال في حفل تكريم أشرف عبد الغفور| صور    سيارة تتراجع 210 آلاف جنيه مرة واحدة.. تعرف عليها    توقعات ميتا المخيبة للآمال تضغط على سعر أسهمها    تعديل موعد مباراة الزمالك وشبيبة سكيكدة الجزائري في بطولة أفريقيا لكرة اليد    مستشار الأمن القومي الأمريكي: روسيا تطور قمرا صناعيا يحمل جهازا نوويا    طلاب مدرسة أمريكية يتهمون الإدارة بفرض رقابة على الأنشطة المؤيدة للفلسطينيين    لتفانيه في العمل.. تكريم مأمور مركز سمالوط بالمنيا    الحماية المدنية تسيطر على حريق بمخزن أجهزة كهربائية بالمنيا.. صور    روسيا: تقديم المساعدات الإنسانية لقطاع غزة مستحيل في ظل استمرار القتال    بعد ارتفاعها الأخير.. أسعار الدواجن والبيض اليوم الخميس 25 إبريل 2024 بالبورصة والأسواق    بعثة الزمالك تسافر إلى غانا اليوم على متن طائرة خاصة استعدادًا لمباراة دريمز    بعد الصعود للمحترفين.. شمس المنصورة تشرق من جديد    واشنطن تعلن التصدي لصاروخ حوثي يستهدف على الأرجح سفينة ترفع العلم الأمريكي    السيناريست مدحت العدل يشيد بمسلسل "الحشاشين"    أحمد موسى: مطار العريش أصبح قبلة للعالم وجاهز لاستقبال جميع الوفود    صندوق التنمية الحضرية يعلن بيع 27 محلا تجاريا في مزاد علني    عيار 21 الآن بعد الانخفاض الأخير.. أسعار الذهب اليوم الخميس 25 إبريل 2024 بالصاغة    الليلة.. أدهم سليمان يُحيي حفل جديد بساقية الصاوي    هل يجوز قضاء صلاة الفجر مع الظهر؟.. «الإفتاء» تحسم الجدل    حصول 5 وحدات طب أسرة جديدة على اعتماد «GAHAR» (تفاصيل)    رئيس قسم الطب النفسي بجامعة الأزهر: تخصصنا يحافظ على الشخص في وضعه الطبيعي    رئيس «الطب النفسي» بجامعة الإسكندرية: المريض يضع شروطا قبل بدء العلاج    بعد نوى البلح.. توجهات أمريكية لإنتاج القهوة من بذور الجوافة    تيك توك تتعهد بالطعن في قانون أمريكي يُهدد بحظرها    بعد اختناق أطفال بحمام السباحة.. التحفظ على 4 مسؤولين بنادي الترسانة    "مربوط بحبل في جنش المروحة".. عامل ينهي حياته في منطقة أوسيم    محافظ شمال سيناء: الانتهاء من صرف التعويضات لأهالي الشيخ زويد بنسبة 85%    الهلال الأحمر: تم الحفاظ على الميزانية الخاصة للطائرات التى تقل المساعدات لغزة    اسكواش - ثلاثي مصري جديد إلى نصف نهائي الجونة الدولية    بيع "لوحة الآنسة ليسر" المثيرة للجدل برقم خيالي في مزاد    مش بيصرف عليه ورفض يعالجه.. محامي طليقة مطرب مهرجانات شهير يكشف مفاجأة    يسرا اللوزي تكشف كواليس تصوير مسلسل "صلة رحم"|فيديو    كرة السلة، ترتيب مجموعة الأهلي في تصفيات ال bal 4    كيف أعرف من يحسدني؟.. الحاسد له 3 علامات وعليه 5 عقوبات دنيوية    دعاء في جوف الليل: اللهم أخرجنا من الظلمات إلى النور واهدنا سواء السبيل    اجتياح رفح.. كيف ردت مصر على مزاعم إسرائيل بخرق اتفاقية السلام؟    محافظ شمال سيناء: منظومة الطرق في الشيخ زويد تشهد طفرة حقيقية    منسق مبادرة مقاطعة الأسماك في بورسعيد: الحملة امتدت لمحافظات أخرى بعد نجاحها..فيديو    توجيهات الرئيس.. محافظ شمال سيناء: أولوية الإقامة في رفح الجديدة لأهالي المدينة    حظك اليوم برج الميزان الخميس 25-4-2024 على الصعيدين المهني والعاطفي    «زى النهارده».. عيد تحرير سيناء 25 إبريل 1982    غادة البدوي: تحرير سيناء يمثل نموذجًا حقيقيًا للشجاعة والتضحية والتفاني في سبيل الوطن    ميدو: لاعبو الزمالك تسببوا في أزمة لمجلس الإدارة.. والجماهير لن ترحمهم    الزكاة على أموال وثائق التأمين.. الإفتاء توضح أحكامها ومتى تجب    تأجيل بيع محطتي سيمنز .. البنوك الألمانية" أو أزمة الغاز الطبيعي وراء وقف الصفقة ؟    من أرض الفيروز.. رسالة وزير العمل بمناسبة ذكرى تحرير سيناء    إصابة أم وأطفالها الثلاثة في انفجار أسطوانة غاز ب الدقهلية    فريد زهران: نسعى لوضع الكتاب المصري في مكانة أفضل بكثير |فيديو    الصحة تفحص مليون و413 ألف طالب ضمن المبادرة الرئاسية للكشف المبكر عن فيروس سى    صور.. الطرق الصوفية تحتفل برجبية السيد البدوي بطنطا    بالفيديو.. أمين الفتوى: موجات الحر من تنفيس نار جهنم على الدنيا    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



حدث مرة في أورشليم
نشر في أخبار الأدب يوم 10 - 04 - 2010

كتاب صغير للدكتورة سحر حمودة استاذة الادب في قسم اللغة الانجليزية بكلية الاداب بجامعة الاسكندرية التي سبق لها ان اصدرت من قبل كتابا عن" الامير عمر طوسون امير الاسكندرية". والعضو النشط في الثقافة بالاسكندريه سواء بوضعها كمدير مساعد لمنظمة اليكس ميد "الاسكندرية البحر المتوسط " او كمستشار في مكتبة الاسكندرية .والتي ايضا لها كثير من الابحاث والدراسات في الادب باللغة الانجليزية .
كتاب صغير وشديد الامتاع والتأثير عنوانه" حدث مرة في اورشليم "
ONCE UPON A TiME IN JERUSALIM
يحكي قصة عائلة الفتياني العريقة ،عائلة الكاتبة منذ المنشأ الي الخروج الكبير من فلسطين ومن خلال حكاية العائلة تستعيد الدكتورة سحر حمودة التاريخ الذي يكاد ينسي للارض والبلاد من خلال بيت العائلة وماجري للبيت " الدار " بما يحمله هذا المعني من سكينة ومحبة واستقرار .
الكتاب ليس تاريخا علميا ولا هو رواية لكنه سيرة أرض وبشر، مكان وناس مايمكن ان تحمله السيرة من علم ومعلومات وخيال ،تحكيه ام الكاتبة السيدة "هند الفتياني" التي سنعرف كيف وصلت الي ما وصلت اليه من علم وثقافة من خلال الكتاب. والدكتورة سحر لا تكتفي بحكايات الام التي يمتزج فيها الواقع بالروح الانسانيه للبشر في تجلياتها الواقعية والخيالية لكن تدخل سحر حمودة بعد كل مقطع تحكيه الأم للتعليق بالتوثيق للحقائق.. بحيث يبدو الكتاب مزيجا من العلم والادب. سيرة من نوع خاص تعطيها الام سحر الوجود الروحي وتعطيها الابنة قوة الوجود المادي. فهو اذن كتاب بقدر ما تستمتع وتحزن بقدر ما تتيقن ان ذلك جري بالفعل ولكن ذات مرة في القدس . وليس في العنوان اقرار بضياع الأرض بقدر ما فيه من قدرة علي الاسترجاع من أول وهلة ثم باليقين من الحكي والتعليق .

المقدمة : كتب هذا الكتاب بواسطة ناس عديدين كما كانت دار الفتياني تضم ناسا عديدين فالمنزل كان هو الوطن . هكذا تفتتح الكاتبة مقدمتها للكتاب ولكن هذا لا يعني انهم حكوا لها جميعا . التي حكت هي الام وقليل غيرها ولكن الذي صنع الحكايات هم أهل الدار .
تقول الكاتبة :حكايات أمي عن المنزل في القدس العتيقة كانت دائما جزءا مكملا لحياتي .كانت الحكايات التي لا تمل من تكرارها عن هذا المنزل هي الزاد الذي أمد خيالي وهكذا رغم انفصالي عن الدار نموت.. أحبها لاني دائما أراها في عينيها واحس بها في شعورها .
لقد قررت أن اكتب هذا الكتاب وأنا أقوم بالتدريس في بيروت مابين عامي 1996-2000. كان هناك العديد من الطلاب الفلسطينيين لكنهم لا يعرفون من أي قري أتوا ولا يعرفون شيئا عن آبائهم واجدادهم . يعرفون فقط حاضرهم اللبناني، علي العكس مني أنا التي تعيش فلسطين في كل زاوية من عقلها وبيتها . لذلك قررت أن أسجل قصص امي آملة أن اشجع الاخرين علي ذلك ليمسكوا بماضيهم ولا تضيع تواريخ عائلاتهم . أنفقت وقتا طويلا في المكتبات ومحلات بيع الكتب استجمع المادة التي اريدها لاني أعرف أن كتابي ليس كتابا تاريخيا ولا سياسيا عن فلسطين لكنه وثيقة اجتماعية عن اسرة عاشت هناك قبل النكبة عام 1948 . لقد حاولت استكشاف الاسماء والتواريخ والتفاصيل التي بها أملأ فجوات حكايات أمي ونجحت ايضا في اثرائها بحكايات وذكريات من أعضاء آخرين للعائلة من الذين سكنوا المنزل أو انتموا اليه بطريقة أو بأخري ومن ثم فأنا ممتنة لهم جميعا لابتهاجهم بهذا المشروع كما ابتهجت أنا خلال السنوات العشر الماضية ، كذلك أنا ممتنه لهم ولما أمدوني به من ذكريات وصور .
ان الكتاب ملك لنا جميعا، عائلة الفتياني،وهو محكي في صوتين . أمي هي الصوت الرئيسي وأنا أعلق عليها بحروف مائلة- في الكتاب طبعا ليعرف القارئ حديث الام من حديث الكاتبة _ أو أقدم المعلومات الاضافية . انني واثقة من المعلومات التي جمعتها من خزانتي او من الاخرين من عائلة الفتياني كما انني فضلت في حكاية واحدة فقط الفن علي الواقع ،فمثلا بعد أن كتبت أن عمي عبد السلام كان مولعا بالساعات والمنبهات عرفت انه جدي الذي كان مفتونا بذلك ورغم ذلك وجدت أن الفقرة تقرأ أفضل هكذا وأن التاريخ لن يضيع بهذه التفصيلة الصغيرة لأني اعرف ان جدي وعمي اللذين لم اقابلهما أبدا سيغفران لي هذا التجاوز البسيط لان نيتي الوحيدة ان أكون صادقة مع روح المكان الذي أحباه بشغف والذي فيه أنفق الاثنان لحظاتهما الاخيرة علي الارض.هل علي أن أعتذر لأن الكتاب صغير _الكتاب مائة وثلاثون صفحة _لماذا؟ لقد مات عمي عبد السلام صغيرا ولا أحد اعتذر عن حياته القصيرة ، وحياة عائلتي في البيت والوطن قطعت وصارت قليلة ولا أحد اعتذر عن ذلك أيضا ومن ثم لا أعتذر عن صغر حجم الكتاب فالمهم أن الكتاب يعيد بناء المنزل في فخر كما كان عبر الاربعمائة عام الماضية.
بيت اورشليم
..دار الفتياني
"كل العائلات السعيدة متشابهة لكن العائلة التعيسة تكون تعاستها من نوع خاص« ...بهذا المدخل الذي هو مفتتح رواية "أنا كارنينا " لتولستوي تفتتح الدكتورة سحر حمودة الكتاب مندهشة من كون أمها كانت سعيدة في طفولتها رغم قسوة الاحتلال البريطاني والحياة تحت الاحتلال،لكنها دار الفتياني التي جعلت من هذه الأسرة سعيدة ." الدار" التي يحمل اسمها المبني والمعني معا.وتبدأ حكايات الأم التي ستعلق عليها. .تصف الأم الدار .اتساعها وتفاصيلها المعمارية وتجملها في النهاية بجملة أنها كانت في الماضي مدرسة دينية وفيها مسجدان تحولا الي غرف وهكذا تعود أفراد العائلة مثلا الاشارة الي غرفة المعيشة بالجامع ،وكل الغرف تطل علي حرم المسجد الاقصي بما فيها غرفة المعيشة هذه التي تسمي بالجامع .الصلاة في الدار مثل الصلاة في المسجد او تحت قبة الصخرة لان الموجود في الدار يري من البوابة المصلين في المسجد .لقد دخل صلاح الدين الي القدس عام 583هجرية -1187ميلادية ووزع المهام والأعمال علي العائلات المقيمة في دور حول المسجد الاقصي وبواباته وخص عائلة الام بالفتوي والجد بدور المفتي الذي كان له القوة الروحية الكبيرة والمركز الكبير في الأرض المقدسة وأعاد صلاح الدين اسماء العائلات وفقا لمهامها الجديدة ومن هنا جاء لقب الفتياني للعائلة كما لحق لقب السقا بالعائلة المسئولة عن المياه مثلا.وهكذا صارت الدار تلقب بدار الفتياني. لكن العائلات كالامبراطوريات تزدهر مقدمة لبعض الوقت المتعلمين والقديسين والانبياء والقادة والمحاربين ثم تضمحل، وهكذا بدأت عائلة الفتياني مع نهاية القرن التاسع عشر في الاضمحلال فأنجبت الاناث أكثر من الذكور فذهبت الفتوي الي دار الحسيني المنحدرة من الحاج امين الحسيني المفتي والقائد السياسي العظيم ومنها عبد القادر الحسيني بطل المقاومة الشهيد في ثورة 1936 والذي انجب ايضا ابنه فيصل الحسيني .لماذا اختار صلاح الدين عائلتهم للفتوي ؟ لاشتهارها بالورع والتدين ولانهم ينحدرون من نسل الحسن بن علي بن ابي طالب الذين قدموا من الحجاز في زمن قديم .أجل ذلك علي الارجح سبب اختيار صلاح الدين للعائلة للفتوي، عائلة تنحدر من نسل الرسول وتعيش تقريبا داخل الحرم الشريف للمسجد الاقصي فهي العائلة المؤهلة لذلك .وبعد حديث الأم تبدأ
الدكتورة سحر حمودة في وصف تفصيلي ومعماري عن المكان والدار وعلاقة الدار بالدور الاخري .وتحقق ذلك بالرجوع الي الكتب التاريخية فتقول ان الكتب تؤكد ان الدار كانت مدرسة تسمي المدرسة العثمانية وتقع علي شمال الخارج من الحرم من "باب المتوضيء "وهي واحدة من بوابات الحائط الغربي للحرم . وعلي باب المدرسة نقشت هذه النقوش "باسم الله الرحمن الرحيم بنيت هذه المدرسة المباركة بامر من السيدة الفاضلة أصفهان شاه خاتون المعروفة بالهانم ابنة المرحوم الاميرمحمدالعثماني ... الخ "
ان التاريخ المنقوش علي بوابة الدار المدرسة هو 480هجرية -1437 ميلادية وهو عام وفاة السيدة شاه خاتون .وهكذا فالعام يفسر مئذنة المنزل وكل المآذن حول الحرم التي تعود الي العصر المملوكي الذي بنيت فيه كثير من المدارس . وفي الحقيقة ان المنزل لم يكن مدرسة واحدة بل مدرستان متجاورتان الثانية منهما كانت المدرسة السلطانية او المدرسة الأشرفية كما كانت تسمي أيضا ولقد بنيت الثانية عام 885هجرية -1480ميلادية بواسطة السلطان قايتباي الذي عرف ايضا بالسلطان الأشرف ومن هنا جاء الاسمان وهكذا تستمر سحر حمودة في التأصيل التاريخي والانساني للمكان .
ونعود الي الام فتقول أن دارنا كانت اكثر عزلة من الدور المحيطة بالحرم ففي الوقت الذي تؤدي فيه كل دار الي ناحية ما أو سوق ما، كانت دارنا تؤدي الي الحرم عن طريق" باب المتوضيء" ومن ثم فبعد صلاة العشاء كانت باب الدار تغلق مع بقية أبواب الحرم فكأننا نعيش في فناء مقدس. وفي الصباح الباكر يعايش اهل الدار الملائكة البيض اللامعين الذين نراهم في كل صباح وتحكي الام ايضا قصصا عن الجنيات اللاتي كن يخاوين اهل الدار ومنهم واحدة رآها الناس المزدحمون حول المئذنة وكانت امرأة ذات شعر طويل وعينين واسعتين اسموها جنية عبد الحميد الفتياني والد الأم وجد الكاتبة الذي لم تره .
كان الزوار لا ينقطعون عن الدار لأن أحد واجبات عائلة الفتياني كانت العناية بالحجاج الافارقة والافغان والكرد القادمين للأماكن المقدسة . وكان بعضهم رجال مقاومة في بلادهم او سياسيين منفيين فكان طبيعيا أن يرحب بهم من العائلة التي فقدت ثلاثمائة شهيد في الحروب الصليبية .كان منهم الطباطبائي والسامرائي من العراق والثعلبي من تونس .وهو الزعيم المقاوم الذي اعتاد ان يمضي الليل في الدار ومحمد صادق المجددي من افغانستان. وتتذكر الأم من الثعلبي التونسي سمنته وكانت تفكر دائما كيف يستطيع صعود السلم الضيق ليصل الي السطح ليطل علي الصخرة المقدسة . كان ايجاد مقعد او سرير مناسب له مشكلة وكانت هناك صورة له في حجرة الضيوف مع عبد الخالق الطوريسي المنفي من المغرب والذي أصبح أول سفير للمغرب في مصر فيما بعد .كما أصبح محمد صادق المجددي اول سفير لافغانستان في مصر ايضا ولقد كان يأتي الي القدس دائما في العشرة الاواخر من شهر رمضان ليعتكف للعبادة . كان للحرم القدسي اثنتا عشرة غرفة مخصصة لسكن هؤلاء القادمين اليه من الائمة والشيوخ والدارسين والمدرسين وغيرهم وكانت عائلة الفتياني تمتلك واحدة منها وفيها كان المجددي يقضي خلوته الرمضانية حتي مات . كان هنك ايضا زائر افغاني هو الحاج عبد الحميد الافغاني تاجر السجاد الذي كان يعيش في يافا ويأتي كل يوم جمعة للصلاة في الاقصي ويجلس لدينا يشرب الشاي ثم يعود الي يافا في اليوم نفسه واذا تغير الطقس يبيت لدينا في الدار . كذلك زار الدار امير شرق الاردن الملك عبد الله فيما بعد ونزلت علي الدار زوجته وحاشيتها طوال زيارتها للقدس . كانت دار الفتياني منزلا للضيافة والكرم حتي تشتت العائلات المقدسية عام النكبة .
حياة
العائلة
بعد الحديث المستفيض عن الدار وتاريخها الذي نقلت اليك شيئا منه تنتقل الكاتبة في الفصل الثاني للحديث عن الحياة العائلية في الدارفتقول الأم ..
كان الاخرون يختارون الخروج من المدينة القديمة الي مناطق اكثر عصرية في المدينة الجديدة خارج الاسوار لكن عبد الحميد الفتياني آخر بطارقة الدار او آخر أربابها ظل حيث كان أجداده . لقد ولد في بيت الاسلاف وولدت قبله اجيال كثيرة وهنا سيموت .لقد كان الناسك المنحدر من عائلة مقدسة . ولانه ولد وفلسطين جزء من الامبراطورية العثمانية أخذته السلطات العثمانية الي اسطنبول ليدرس الهندسة ويعود فتوكل له مهمة اضاءة الشوارع بالكهرباء بدلا من الزيت والقناديل فاعتمد علي بطاريات من صنعه . أيضا تعلم القرآن والحديث وكانت مكتبة العائلة غنية بالكتب والمخطوطات التي حفلت بها علي مر الاجيال . أحب عبد الحميد الفتياني الفلك فبني شيئا كالمرصد أعلي الدار منه يمكن التنبؤ بالمستقبل . وكنت انا _الام يعني صاحبة الحكاية _أساعده احيانا في الاحصاء والرصد قبل ان يتنبأ بموت ابنه الاصغر عبد السلام بكثير وكان يحب الكيمياء علي قواعد ابن سينا حتي انه اعد دواء لمرض السكر كان يسميه دواء السكرة .
كان هناك فرعان لعائلة الفتياني تقول الام احدهما يحمل الذكور فيه اسماء احمد ومحمد ومرسي وحسن ومهدي والفرع الثاني يحمل اسماء عبد الحميد وعبد الرحمن وعبد الرازق وطاهر، ونحن ننتمي للفرع الثاني واسم ابي بالكامل عبد الحميد عبد الرازق عبد الرحمن الفتياني . ابوه كان جابي الضرائب في الفترة العثمانية وكان مسئولا عن قري القسطل وعين كارم وسطاف .عام 1931 كان سكان سطاف 383نسمة ليس بينهم يهودي واحد . لقد هاجمها الاسرائيليون وسقطت عام 1948 وطرد منها اهلها . لقد تزوج الجد عبدالرازق جابي الضرائب من ثماني نساء من سطاف . فلاحات طويلات جميلات كثيرات منهن لهن عيون زرقاء ويمكن تخيله كجابي ضرائب وربما قدمت له النساء بدلا من الضرائب .لقد منعت نساء عبد الرازق واطفالهن من الدار لانهن لسن مقدسيات حتي موت عبد الرازق وابنه عبد الحميد فيما بعد فسمح طاهر عبد الحميد للاطفال بزيارة الدار .لم يكن عبد الحميد مزواجا كأبيه . تزوج من مفتية نور الدين التي كات رقيقة جدا تأكل القطة عشاءها حقيقة فلا تنهرها . وتعلق سحر حمودة بسرعة ان من هنا اتت رقتك اللامتناهية _تقصد الام صاحبة الحكايات _ومن جدتي جاء حبي للحيوانات وخاصة القطط .... لم يسبق لي رؤية جدي قبل كتابة هذا الكتاب وكنت اتخيله دائما كرجل يحكم البيت بقبضة حديدية ولكن قبل صدور الكتاب بأسابيع جاءني احد أبناء الخال بهدية عظيمة هي صورة جدي عبد الحميد الفتياني ." صورة سيدي " كما يقولون في فلسطين عن الجد .
زواج عبد الحميد الفتياني بمفتية نور الدين أثمر ولدين وأربع فتيات وكان لعبد الحميد ثلاث فتيات أخريات من زوجته الثانية فاطمة سعودية هذا اسمها وكانت امرأة قوية حتي انها عرفت باسم عائلة امها "ابو السعود" بدلا من عائلة ابيها لكن اصبحت المرأتان صديقتين رغم اختلافهما الشديد . هكذا تحكي الام لسحر وتواصل الحكي .
ذات مرة تأهب عبد الحميد للخروج وما ان خرج حتي قالت فاطمة سعودية لمفتية سأذهب لزيارة أقاربي هل تريدين الذهاب معي ؟ارتعبت مفتية وقالت كيف نخرج بلا إذن منه ؟قالت سعودية "لن يكتشف الامر . سنعود قبله "جرت مفتية التي تأكل القطة عشاءها وخرجت مع ضرتها بسرعة قبل ان يشلها الخوف . لماذا حقا تظل حبيسة الجدران طوال حياتها؟ لماذا لا تتنشق هواء نقيا ؟ لكن عند العودة كانت البوابة مغلقة . لقد عاد الزوج عبد الحميد بسرعة قبلهما ولم يفتح لهما البوابة وظلتا حتي الصباح الباكر متكومتين امام البوابة مخفيتين وجهيهما بغطاء رأسيهما حتي سمح لهما بالدخول . وتعلق الدكتورة سحر حمودة : كانت الحياة في القدس محافظة لكن كانت هناك ايضا من تطلقن لرغباتهن العنان . كانت هناك ايضا قصص حب بين الجيران وقصص خيانة وغيرها .
وتعود الام لتحكي كيف كان ابوها عبد الحميد يأتي متأخرا في المساء فلا يراه أحد . نراه أمامنا فجأة . هكذا تقول وقيل أنه تزوج فاطمة سعودية بأعمال السحر وبعد ان انجبت بناتها الثلاث توقف عن دخول حجرتها وصار طاهر ابن مفتية واخو الام التي تحكي وخال الدكتورة سحر فيما بعد هو الذي يعتني بهن . علاقة عبد الحميد بهند اثمرت بي تقول الام .هند فتياني وكنت أصغر اطفاله . سموني" الفاضلة "لاني كنت ضئيلة جدا قياسا لاخوتي وقالوا لي اني لم اولد مثل بقية الابناء لكن وجدني "جاوا" وراء الباب . وجاوا رجل صيني قصير جدا يقضي كل وقته تقريبا قريبا من مئذنتنا . لماذا تجمدت العلاقة بين أبي وفاطمة سعودية؟ يقولون دائما ان السحر ينقلب علي الساحر وهي التي سحرت له حتي يتزوجها في البداية .
اختي غير الشقيقة خديجة كانت الاقرب لي في العمر اكبر مني بتسعة اشهر فقط فكنا نلعب معا وكانت هناك وسائل كثيرة للتسلية في البيت وأمام بوابة الدار المؤدية لفناء الحرم وكنا نلعب بفناء الحرم كله ونستمتع بأشعته واتساعه واركانه المبهجة ونجري علي السلالم الواسعة لساحة قبة الصخرة يقابلنا باب السلسلة الذي كنا ننطقها "السنسنة "وكان يلعب معنا بنات لأبي سعيد هداية وبنات المفتي الحاج امين الحسيني.
وتعلق الدكتورة سحر حمودة : كمثل دار الفتياني كان منزل الحاج أمين الحسيني المفتي الكبير لفلسطين . كان في البداية مدرسة تسمي المدرسة التانكازية بنيت عام 729هجرية 1329 ميلادية في العصر المملوكي وكانت مدرسة عظيمة وسكن فيها السلطان فرج بن برقوق وفي عهد قايتباي صارت مكان الاحكام والقوانين ومحكمة في العصر العثماني حتي صارت منزل الحاج امين الحسيني خلال الاحتلال البريطاني . كل البيوت القديمة حول سور الحرم كانت منازل للعلم قبل ان تصبح بيوتا للعائلات الكبيرة في القدس .
ونعود الي الام التي تحكي : كنت اخاف أبي وأرتعب من كل شخص في الدار وكانت لخالتي _ ضرة امي _ فاطمة سعودية عادة غريبة هي تدخين السجائر فكان لديها دخان وورق بافرة وتلف السجائر مع الصباح وتدخنها بلذة كبيرة وذات مرة أخذتني خديجة ابنتها ورفيقتي في اللعب الي غرفة أمها فاطمة وجعلنا نلف السجائر ولما لم نعرف ماذا نفعل بها القيناها علي الارض . اكتشفتنا امها فاطمة سعودية التي عاقبت ابنتها بسرعة ثم ربطتني يدين مع قدمين وعلقتني بالباب ليراني أبي ويتصرف معي . وهكذا بقيت معلقة لساعات ولم تستطع امي التي تاكل القطة عشاءها ان تفكني لكنه طاهر اخي هو الذي ما إن راني حتي نهر أمي وضرتها فاطمة سعودية وأنزلني . هو الذي أنقذني من عالم الكبار الظالم .
كان لأمي مفتية اختان اكبر الاولي هي ام موسي وكانت حين تزورنا تجعل حياتي بائسة اذ تعبث في أشيائي ولما تزوجت من حسيني اي من العائلات النبيلة صارت ملكية اكثر من الملك وازداد ازعاجها لي حين زيارتنا بينما كانت الاخت الكبري لامي ام فتح الله هي ملاكي الحارس . كانت قديسة المظهر والسلوك . ملابسها دائما بيضاء بغطاء رأسها تذكرني بالراهبات والشموع . أحببت هذه السيدة الرقيقة التي كانت مثل اختها الاصغر امي في رقتها .وكان لأبي أعمال وواجبات تفرض عليه لقيمته العلمية والاجتماعية فمثلا حين صدأت النجمة النحاسية في فناء كنيسة المهد في بيت لحم عهد اليه بتغييرها ولم يعهد بذلك لمسيحي ولم يكن ذلك غريبا في القدس فمثلا كانت مفاتيح كنيسة القيامة منذ عهد صلاح الدين مع عائلتين مسلمتين , دار نسيبة ودار جويدة .
حين ولادتي كانت النساء قد تناقصت في البيت . فأختي الأكبر حنيفة تزوجت وصارت ام علي بينما اختي الاكبر الاخري فاطمة تزوجت بدورها وصارت ام ادهم .الاولي تزوجت من مصباح الدجاني والثانية من شكيب الحسيني . كانت ام علي تغطي شعرها بطريقة لا تتغير فتشبك شعرها خلف اذنها اليمني بغطاء رأسها بدبوس أعلي واسفل الاذن . بعد ذلك بسنوات ونحن في القاهرة ذهبنا نبحث عنها في معسكرات اللاجئين ووجدناها واطفالها ودبوس الشعر تحت اذنها اليمني . لقد فكرت انه ربما هو نفس الدبوس القديم لا يصدأ ولا يضيع ابدا . غادرت ام علي بعد زواجها الي يافا مع زوجها وهي اقصي غربة للمرأة المقدسية التي اذا خرجت فقط الي خارج القدس القديمة تعتبر نفسها في غربة .
وتعلق سحر حمودة ماذا عن الفلسطينيين الان وتجربة العيش خارج فلسطين كلها وليس مجرد القدس.
3- البريطانيون في القدس
كان الوجود الانجليزي يسمي بالانتداب ولكنه في الحقيقة كان احتلالا كاملا . في كل ركن من القدس كنت تجد الجنود الانجليز في كل زقاق ويحتلون المراكز والاعمال الحكومية ويدخلون بيوتنا ويخترقون كل الأماكن الخاصة وحيث يوجد النساء . كان أبي يقضي كل وقته بين معمله ومرصده أعلي البيت ولا يزعجه اي شيء واثناء الثورة الفلسطينية الكبيرة في الثلاثينات حاصروا كل فلسطين والقدس خاصة ومعهم عصابات الصهيونية , الهاجناة وشتيرن .حاصروا القدس ستة أشهر ولم يهمهم ما اذا كنا نأكل أو يموت من يموت ويمرض من يمرض وفي أحد الأيام وأبي يراقب من التليسكوب يحاول أن يكتشف مواقع الجنود وأعدادهم جاءه طلق ناري حطم التليسكوب وأصاب ابي الذي قفز الي الخلف في ذراعه واتذكر انني كنت جالسة مرة في فناء البيت مستندة بظهري الي الحائط فاذا بالرصاص يصيب أواني الورد المعلقة فوقي علي الجدران ويرشق في الحائط وسقط طمي كثير علي من الأواني لكني تعودت علي الانجليز ورصاصهم ولم أخافهم كما كنت أخاف مثلا من ابن عمي الشاب الصغير الذي ادمن العقاقير وكنت اتمني حين اعود الي المنزل ألا اجده . كان يخيفني اكثر من الانجليز .
كان اخي عبد السلام موظفا في هيئة المياه ومغرما بالساعات والمنبهات. عادة مايكون في محل ساعات وكل من اراد ساعة ذهب لعبد السلام . كان يحب المشي في القدس مع اخيه الاكبرطاهر او صديقه تاج الدين هداية . كان جميلا معروفا في القدس كلها كيوسف الصديق لجماله . اجل حدث مرة في اورشليم ان عاش شاب جميل الي درجة لا تصدق . خارج اورشليم كان عرينه اشجار الزيتون والنوم علي التلال والأماكن المفتوحة . كان هذا عبد السلام الاخر الصياد والرحالة الذي زاده البندقية والرصاص . كان مقاتلا وعمله السري قتل المتعاونين مع الانجليز . لقد ظهر مرة في المساء في الدار ومعه رأس خائن . كان الجنود البريطانيون يبحثون عنه ولا يتركوننا نعيش في سلام لكنهم قبضوا عليه في الغابات وحوكم وسجن الا انه نجح في الهروب من السجن مع زميلين وجاء الي القدس في زي النساء . ملاءة ونقاب . انا الذي فتحت له الباب وحين رأيته حدثني قلبي انه عبد السلام وليس امرأة ثم غادر الي دمشق صباح اليوم التالي ..وتعلق الدكتورة سحر : حكت لي هيام ابنة خالتي ام علي الاصغر من امي بسنوات قليلة كيف تتذكر انها في يافا كانت ذات يوم جوار النافذة فرأت عبد السلام ملتفا بالملاءة واخبرها مبتسما بنفسه وارتاح قليلا لديهم ثم واصل رحلته التي انتهت الي مصر كما تقول الأم حيث التحق بالازهر ومنع من ممارسة اي نشاط سياسي .
كان هناك ايضا وقت للمرح رغم الاحتلال وكنا نؤمن ان الانجليز سيرحلون كما رحل من قبل الصليبيون والرومان واليونان وستعود الحياة كما كانت .وكانت لدينا اعياد كثيرة اهمها الاحتفال بسيدنا موسي وفي ذلك الوقت يحج الناس من فلسطين الي القدس والحرم القدسي . يرقص الرجال الدبكة ومن كل نوع حسب القري التي اتوا منها والذين لا يرقصون يتفرجون علي الرقص ويغنون ويصفقون وعلي نفس الاهمية كان يوم الاسراء والمعراج في السابع والعشرين من رجب الاحتفال بصعود النبي محمد صلي الله عليه وسلم الي السماء السابعة من قبة الصخرة التي لا تزال عليها اثار قدميه .لم نكن نقوم برحلات صيفية كما يفعل الاخرون لكنا مرة أخذنا الاب عبد الحميد جميعا لنري العالم الذي كان القاهرة. كانت رحلة عمرنا .
كانت هناك مدارس أجنبية في القدس اهمها مدرسة سان جورج البريطانية لكن لكراهية الاستعمار لم يرسلنا اهلنا الي هذه المدارس . ابي ارسل طاهر الي مدرسة الفرير الفرنسية بعدها سافر طاهر الي السعودية للحج وبعدها سمي الحاج طاهر . كان عمره تسع عشرة سنة.لقد شجعني طاهر علي القراءة وتابعني في كل مراحل التعليم ولم اكن لأتعلم لولا وفاة ابي وانا صغيرة فهربت من مصير اخواتي الاكبر مني الذين زوجهم ابي بسرعة ولم يتعلموا جيدا .لقد انهيت دراستي بسرعة وذهبت اكملها في بيروت .لقد كانت عيشة اختي نوارة الدار هي التي لم تتعلم لانها تحب
الدار اكثر من اي شيء اخر حتي انها قاومت الزواج كي لا تترك الدارلكنها انتزعت من دارها الدافئة الي بيت زوجها في المدينة الجديدة التي كانت بيوتها سكنا للموظفين الانجليز وسكنت في الدور الاسفل بينما كانت في الدار من سكان الدور الاعلي . ورغم جمال البيت الجديد الا انها افتقدت الحوائط الحجرية والنوافذ العالية والجيران . افتقدت نفسها ..وتعلق الدكتورة سحر : في عام 1948 استولي الصهيونيون علي هذا البيت الجديد . لم يتم بيعه كما قالت الدعاية التي شاعت في العالم . الفلسطينيون لم يبيعوا ارضهم ولا بيوتهم . لقد تم احتلال بيت خالتي نوارة الدار وبعد عام 1967 حين استطعت الذهاب ذهبت ورأيته . كانت به عائلات صهيونية من المهاجرين وفي كل غرفة اسرة وينامون علي أسرة خالتي ويشربون الشاي في فناجينها . لا شيء تغير غير السكان ..
4 النكبة
سبقت النكبة معاناة وبؤس كثير . اخي الجميل عبد السلام أصيب بروماتيزم في القلب من أثر أيام السجن القديمة والمعاناة وجاءنا مريضا . أمي حلمت ذات ليلة ان ابي الذي كان قد مات جاء الي الدار وسحب وسادة من فوق السرير الذي كان مخصصا لعبد السلام فأدركت ان الأب سيأخذ الابن عنده وان عبد السلام سيموت ثم حلمت حلما آخر يؤكد حلمها السابق ان النور انقطع عن الغرفة واظلمت . الم يكن عبد السلام نور بيتنا . الايعني هذا انه سيموت مات في السادسة والعشرين من عمره ففقدت امي صوتها والقدرة علي تحريك اطرافها . ما أحزنها انه لم يمت والبندقية في يده . لم يمت شهيدا . بكته كل اورشليم . الشاب الجميل الذي لم يعطه الوقت الفرصة للزواج .كانت هذه مواجهتي الاولي والحقيقية للموت . لقد مات ابي العام السابق. مات في الثمانين من عمره ومرض قبلها لبعض الوقت وكان دائما بعيدا عني . كان رمزا للخوف اكثر مما هم رمز للحماية والرقة وكانت جنازته رهيبة .
لم يكن عبد السلام كثيرا في البيت .كان غالبا في المنفي ورغم ذلك كان قريبا مني .صار عمي ابو سعيد مثل كبير العائلة بعد موت ابي وكان ابن عمي ابو سعيد تاج الدين هداية اعز اصدقاء عبد السلام . الاثنان لم ينفصلا . كانا يضحكان معا ويحلمان معا ويخططان معا وحين كان علي احدهما ان يغادر فلسطين كان الامر بالنسبة لعبد السلام ان يفر بروحه من السجن وكان خروج تاج الدين ليدرس الهندسة بالجامعة الامريكية باستانبول. كانا يتراسلان بالخطابات والصور وحين تخرج تاج الدين عام 1937 سافر عبد السلام الي استانبول ليكون معه وقت نجاحه . الان فصل بينهما الموت . بني تاج الدين لعبد السلام مقبرة بيضاء خارج مقابرنا أملا أن يعطيه السلام الذي لم يشهده في حياته .
حاول اخي طاهر ان يجمع شتات حياته . لقد فقد اباه واخاه في عام واحد تقريبا . الاب مات عام 1943 والاخ عام 1944 . طاهر ايضا منع من النشاط السياسي ومن ثم فكر في الصحافة والنشرمع ابن عمنا واخينا في الرضاعة موسي الحسيني الذي دخل اسمه التاريخ كمخطط مؤامرة اغتيال الملك عبد الله ملك الاردن بعد صلاة الجمعة في جامع عمر يوم 20 يوليو1951.في ذلك اليوم اقترب الملك عبد الله من البوابة ومعه ابنه حسين وفجاة انفجر شاب من بين الزحام واطلق النارعلي الملك فمات قتل البوليس الشاب بسرعة وقبض بعد ذلك علي المخططين جميعا وشنق واحد منهم فقط كان اسمه موسي الحسيني .
حين انتهي الانتداب البريطاني علي فلسطين وتركت للمواجهة بين الصهاينة والعرب كانت نهاية احلام موسي الحسيني واخي طاهر .ماذا تعني الصحافة والنشر اذا كانت الارض قد ضاعت . لقد اتي الكونت برنادوت مبعوث الامم المتحدة الي فلسطين واختار موسي الحسيني كمنسق بين الامم المتحدة في فلسطين والملك عبد الله في الاردن وعملا معا برنادوت وموسي من اجل ان تكون القدس مدينة عالمية يحكمها موسي .
وتعود بنا الام هند الفتياني لتحكي سنوات تعليمها في الجامعة الامريكيه في بيروت واشتداد الصراع في فلسطين وكيف كان عام تخرجها هو عام النكبة وعمليات القتل الجماعي والترحيل الجبري للفلسطينيين في الوقت الذي كانت هي فيه تعاني عدم القدرة علي دفع المصروفات في السنة النهائية وكيف ساعدها الاصدقاء السوريون الذين ذهبوا الي رئيس الوزراء رياض الصلح وحكوا له قصتها فدفع مصروفاتها من جيبه الخاص وكيف تطورت الاحوال في فلسطين وشارك اخوها طاهر في العمل السياسي ونفي من البلاد واستقر في مصر يعمل من اجل فلسطين. واستطاعت هي في النهاية ان تحصل علي فيزا لدخول مصر . وتخصص الكاتبة الفصل الخامس والاخير للحياة في الشتات وتحكيه كله بصوتها هي وتحكي حياة امها في عملها في مركز اليونسكو التابع للامم المتحدة في قرية سرس الليان بالمنوفية وكيف قابلت هناك والدها عبد المحسن حمودة الذي يعمل في نفس المركز . كانت الام في نهاية العشرينات من عمرها وترفض الزواج الا انها قابلت شخصا وسيما ورث وسامته من امه التركية واخذ الوضوح والصراحة وروح الفكاهة من مدينته الاسكندرية حيث ولد ويعيش .لقد تزوجت الام من السكندري الوسيم وانجبت منه الدكتورة سحر حمودة واخاها ايمن حمودة الذي يعيش في استراليا الان . وتعود الام في اخر الكتاب لتقول في عام 2000 قابلت ابنتي سحر ذلك العام سافرت لولو الي القدس في الصيف وزارت الدار القديمة وقالت ان ابي ليس مدفونا في القاهرة . تقصد اباها طاهر .انه مدفون هنا وانني اقسم علي ذلك . وليس هذا غريبا فعظام طاهر ربما لا تزال في مقبرته في القاهرة لكن روحه لابد طارت الي الوطن حيث سنذهب نحن جميعا بالتأكيد.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.