كثيرا ما ألتقي بتلك النوعية من البشر التي يغرق الواحد منهم في بئر غير مرئية من الإعجاب بالنفس إلي مافوق التخيل والتصور وقد يحكي بآسي مبالغ فيه عن إنكار الغير لما أضافه, ثم يمضي ليحدثك عن آخر إنجازاته وعن قائمة طويلة وعريضة من عيوب من يتساوون معه في العمل وقد يفوقونه في القيمة ويبحث بالكلمات والحكايات والأكاذيب مايحاول به تقزيم كل مايتصور أنه ينافسهم أو ينافسونه. وغالبا ما أبتسم لهذا النوع من الناس متسائلا بيني وبين نفسي من قام بتأليف تلك النوعية من البشر؟ ثم اضحك في خيالي لصورة أستاذي الرائع الروائي فتحي غانم حين كان يجلس في كازينو إستانلي صيف عام1962 وكان يقول لي علي كل منا أن يعيد النظر في الشخصيات التي قامت بتأليفه وكنت مندهشا من فكرة أن هناك من يقوم بتأليفنا, لأني كنت مؤمنا أن كل منا يقوم بتأليف مصيره علي ضوء الجهد الذي يبذله لاستيعاب خبرات الحياة وهضمها وتطويرها, ولاحظ فتحي غانم دهشتي فأخذ يشرح كيف تهبنا العوامل الوراثية مجموعة من القدرات ثم يستقبلنا المجتمع ليصقل تلك القدرات ويشذ بها لنواصل من بعد ذلك باستكمال حفر النهر الذي تسيل فيه ساعات وأيام وسنوات العمر لنحقق أحلامنا. تركته في كازينو استانلي لأقطع المسافة متأملا, كيف أن هذا الكاتب الكبير رفض صخب الشهرة علي الرغم من أنه صعد إلي درجة رئيس تحرير أهم مجلة شابة في ذاك الزمان وهي صباح الخير, ويتولي مهمة الاشراف الفعلي علي شقيقتها الكبري روز اليوسف, وقادني الترام السكندري المكون من طابقين إلي محطة الرمل لأسير إلي المقهي الذي يرتاده كبار رجال الإسكندرية لأجد نفسي في منضدة أمام منضدة المليونير السابق محمد فرغلي الذي اشتهر فيما قبل ثورة يوليو بأنه ملك القطن, حيث كانت شركته تتحكم في أسعار المحصول عبر البورصة ثم لحقه التأميم, وقررت اختبار تأثير الظروف علي رجل في حجم رجل الأعمال الكبير, واستكشف أثر تأميم شركاته علي مجمل سلوكه وعاداته خصوصا تلك العادة التي تميز بها قبل التأميم وهو وجود قرنفلة بيضاء في عروة الجاكيت طوال الوقت, ولكن القرنفلة كانت مختفية لحظة أن رأيته.. وماإن تقدمت إليه راجيا إجراء الحوار حتي رحب قائلا أنا ابحث عن صحفي يقترب مني.. فمنذ التأميم ولا أحد يقترب مني حتي ماسح الأحذية في هذا المقهي علي الرغم من إمتلاء عيونه بنظرات التعاطف, أما الجرسون فهو يقترب ويصر علي إكرامي بعدم أخذ البقشيش. وصمت الرجل ليضيف أنت لا تتخيل قدر التعاطف الإنساني الذي يبديه المصري تجاه غيره في لحظات الضعف. وهو تعاطف لايمكن أن تجد مثيلا له في أرجاء الكون كلها. وكأنه قرأ أسئلتي في عيوني عن أثر تأميم شركاته عليه فأخذ يقول في بداية التأميم غضبت لأن ماتعبت فيه وكونته عبر رحلة العمر إنتهي الي مجرد معاش شهري من الحراسة قدره مائتان وخمسون جنيها, وحزنت عندما بعت سيارتي الكبيرة التي تركوها لي واستبدلها بسيارة نصر1100 وأقودها الآن بنفسي, وبعد فترة من تأمل كل ماجري شكرت الظروف التي لم تضع مصر علي فوهة بركان إجتماعي مثل تلك البراكين التي حدثت في المجتمعات الأخري, واعتبرت وجود رأسي فوق رقبتي وبين أكتافي هو نعمة كبيرة, فما أنتجته عبر العمر من ثروة هو من نتاج عمل وتفكير هذا الرأس ومجرد بقائه في مكانه سوف يتيح لي بالتأكيد قدرة علي إعادة تكوين ثروة من نوع آخر.. واندهشت من حديثه عن القدرة علي تكوين ثروة من نوع آخر, فبدأ يشرح كيف يمكن للإنسان تكوين ثروة من نوع مختلف, وقال كلاما مهما عن نقل الخبرات من جيل الي جيل وليس مطلوبا من الجيل الجديد أن يكون نسخة بالكربون من الجيل السابق. أخذت كلمات الرجل وصغتها في حوار بعنوان أنا مليونير سابق ونشره فتحي غانم علي صفحات روز اليوسف وهو يقول أثق أن القيادة السياسية لن تغفل خبرات الرجل ومضت أسابيع قليلة لنجد قرارا بعودة المليونير محمد فرغلي لقيادة مجمل شركات القطن لا التي كان يملكها فقط بل شركات غيره أيضا, وأخذ ينقل خبراته دون كلل لكل من تعامل معه ثم تكرم علي بالزيارة في روز اليوسف ليشكر لي نشر الحديث الذي تم نشره, لأنه رأي أن هذا الحديث كان واحدا من العوامل المؤثرة لعودته إلي قيادة شركاته, ومضي يؤكد أن الثروة الفعلية هو أن تقوم من فراشك في الصباح فيكون لوقتك معني بدلا من أن تظل محبوسا في قضبان الفراغ والشكوك فيمن يحيطون بك والتفت لحظتها لعودة القرنفلة البيضاء الي عروة الجاكيت فقال لي أضعها حين ألتقي بمن أود شكرهم وأثق أنهم يرحبون بي دون هدف أو غاية. سألته عن أهم مايؤمن به فأجاب أومن أن إدمان حالة الاعجاب بالنفس والغرق في الندم علي مافات هو لون من الانتحار البطيء, فالغارقون في عواصف الإعجاب بأنفسهم أو بما حققوه في تاريخهم السابق قد لا يلتفتون الي أن الواحد منهم يسجن نفسه في غرفة وهمية جدرانها من المرايا التي لا يري فيها سوي نفسه ويري صورته في جدار ما منها وهو يصفق لنفسه فرحا بحدث مضي ثم يري صورته في جدار آخر من غرفة المرايا ليري نفسه حزينا لأن الناس لم توفيه قدره تماما, ويري نفسه في جدار ثالث من غرفة المرايا وهو متوهم بقدراته علي الانتصار علي كل من نالوا منه, وأنا لا أحب سجن نفسي في غرفة المرايا تلك, لذلك فتحت فيها نافذة صغيرة أري من خلالها العالم من حولي وأستمتع بالتفاعل مع البشر, وهذا جوهر من الثراء الفعلي يفوق خيال مدمني البكاء علي مافات أو المتوهمين بقدراتهم الفذة التي قد لا يعترف بها الغير. إن النافذة الصغيرة في غرفة المرايا الموجودة في أعماق أي منا هي التي تمنحه فرصة الاحساس بأنه واحد ضمن مجتمع يترك وينمو ويتغير.