عباس شراقي: فيضانات السودان غير المعتادة بسبب تعطل توربينات سد النهضة    البداية الرقمية للنقل الذكي في مصر.. تراخيص إنترنت الأشياء للمركبات تدخل حيز التنفيذ    وزير الإسكان: بدء تصنيف حالات الإيجار القديم وفق شرائح الدخل    لماذا كل هذه العداء السيساوي لغزة.. الأمن يحاصر مقر أسطول الصمود المصري واعتقال 3 نشطاء    مقتل شخص وإصابة 15 في هجوم روسي على مدينة دنيبرو الأوكرانية    تشكيل منتخب مصر أمام نيوزيلندا في كأس العالم للشباب    سلوت عن جلوس صلاح على مقاعد البدلاء أمام جالاتا سراي: رفاهية الخيارات المتعددة    خطة إطاحة تتبلور.. مانشستر يونايتد يدرس رحيل أموريم وعودة كاريك مؤقتا    مصرع 7 عناصر إجرامية وضبط كميات ضخمة من المخدرات والأسلحة في مداهمة بؤرة خطرة بالبحيرة    الأرصاد: الخريف بدأ بطقس متقلب.. واستعدادات لموسم السيول والأمطار    مفتي الجمهورية يبحث مع وفد منظمة شنغهاي آليات التعاون ضد التطرف والإسلاموفوبيا    مواقيت الصلاة فى أسيوط غدا الأربعاء 1102025    ماجد الكدوانى ومحمد على رزق أول حضور العرض الخاص لفيلم "وفيها ايه يعنى".. صور    أمين الفتوى: احترام كبار السن أصل من أصول العقيدة وواجب شرعي    ولي العهد يتسلم أوراق اعتماد سفراء عدد من الدول الشقيقة والصديقة المعينين لدى المملكة    محافظ القاهرة يناقش ملف تطوير القاهرة التراثية مع مستشار رئيس الجمهورية    من القلب للقلب.. برج القاهرة يتزين ب لوجو واسم مستشفى الناس احتفالًا ب«يوم القلب العالمي»    بعد رصد 4 حالات فى مدرسة دولية.. تعرف علي أسباب نقل عدوى HFMD وطرق الوقاية منها    جارناتشو يقود هجوم تشيلسى ضد بنفيكا فى ليلة مئوية البلوز    البورصة المصرية.. أسهم التعليم والخدمات تحقق أعلى المكاسب بينما العقارات تواجه تراجعات ملحوظة    هل يجوز للمرأة اتباع الجنازة حتى المقابر؟ أمين الفتوى يجيب.. فيديو    "أنا حاربت إسرائيل".. الموسم الثالث على شاشة "الوثائقية"    أحمد موسى: حماس أمام قرار وطنى حاسم بشأن خطة ترامب    محافظ قنا يسلم عقود تعيين 733 معلمًا مساعدًا ضمن مسابقة 30 ألف معلم    داعية: تربية البنات طريق إلى الجنة ووقاية من النار(فيديو)    نقيب المحامين يتلقى دعوة للمشاركة بالجلسة العامة لمجلس النواب لمناقشة مشروع قانون "الإجراءات الجنائية"    بلاغ ضد فنانة شهيرة لجمعها تبرعات للراحل إبراهيم شيكا خارج الإطار القانوني    "الرعاية الصحية" تطلق 6 جلسات علمية لمناقشة مستقبل الرعاية القلبية والتحول الرقمي    البنك الزراعي المصري يحتفل بالحصول على شهادة الأيزو ISO-9001    محمود فؤاد صدقي يترك إدارة مسرح نهاد صليحة ويتجه للفن بسبب ظرف صحي    مصر تستضيف معسكر الاتحاد الدولي لكرة السلة للشباب بالتعاون مع الNBA    بدر محمد: تجربة فيلم "ضي" علمتنى أن النجاح يحتاج إلى وقت وجهد    «العمل» تجري اختبارات جديدة للمرشحين لوظائف بالأردن بمصنع طوب    بعد 5 أيام من الواقعة.. انتشال جثمان جديد من أسفل أنقاض مصنع المحلة    المبعوث الصينى بالأمم المتحدة يدعو لتسريع الجهود الرامية لحل القضية الفلسطينية    اليوم.. البابا تواضروس يبدأ زيارته الرعوية لمحافظة أسيوط    حسام هيبة: مصر تفتح ذراعيها للمستثمرين من جميع أنحاء العالم    موعد إجازة 6 أكتوبر 2025 رسميًا.. قرار من مجلس الوزراء    الأمم المتحدة: لم نشارك في وضع خطة ترامب بشأن غزة    انتشال جثمان ضحية جديدة من أسفل أنقاض مصنع البشبيشي بالمحلة    وفاة غامضة لسفير جنوب أفريقيا في فرنسا.. هل انتحر أم اغتاله الموساد؟    برج القاهرة يتزين ب لوجو واسم مستشفى الناس احتفالًا ب«يوم القلب العالمي»    لطلاب الإعدادية والثانوية.. «التعليم» تعلن شروط وطريقة التقديم في مبادرة «أشبال مصر الرقمية» المجانية في البرمجة والذكاء الاصطناعي    تعليم مطروح تتفقد عدة مدارس لمتابعة انتظام الدراسة    التقديم مستمر حتى 27 أكتوبر.. وظائف قيادية شاغرة بمكتبة مصر العامة    كونتي: لن أقبل بشكوى ثانية من دي بروين    «مش عايش ومعندهوش تدخلات».. مدرب الزمالك السابق يفتح النار على فيريرا    «الداخلية»: تحرير 979 مخالفة لعدم ارتداء الخوذة ورفع 34 سيارة متروكة بالشوارع    احذر من توقيع العقود.. توقعات برج الثور في شهر أكتوبر 2025    عرض «حصاد» و «صائد الدبابات» بمركز الثقافة السينمائية في ذكرى نصر أكتوبر    بيدري يعلق على مدح سكولز له.. ومركزه بالكرة الذهبية    الملتقى الفقهي بالجامع الأزهر يحدد ضوابط التعامل مع وسائل التواصل ويحذر من انتحال الشخصية ومخاطر "الترند"    قافلة طبية وتنموية شاملة من جامعة قناة السويس إلى حي الجناين تحت مظلة "حياة كريمة"    انكماش نشاط قناة السويس بنحو 52% خلال العام المالي 2024-2025 متأثرا بالتوترات الجيوسياسيّة في المنطقة    ضبط 5 ملايين جنيه في قضايا اتجار بالنقد الأجنبي خلال 24 ساعة    التحقيق مع شخصين حاولا غسل 200 مليون جنيه حصيلة قرصنة القنوات الفضائية    السيسي يجدد التأكيد على ثوابت الموقف المصري تجاه الحرب في غزة    الأهلي يصرف مكافآت الفوز على الزمالك في القمة للاعبين    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



بروكلين هايتس: روح منكسرة في رواية الحراك الثقافي العابر للحدود
نشر في نقطة ضوء يوم 26 - 06 - 2010

في المشهد الأخير من رواية ميرال الطحاوي الأخيرة بروكلين هايتس تعرض لنا المؤلفة صورة بطلتها هند، بنت العرب ذات الجذور القبلية والتي نشأت في مجتمع أبوي بطريركي وعائلة كبيرة تقدر قيمة الذكور وتعتبر أن خلفة البنات مظلمة تسوِّد الوجه وتخرب الجيب، هند التي هجرت وطنها إلى بروكلين هايتس في إثر تجربة شخصية وإنسانية مخلفة وراءها واقعا مشحونا بالخيانة والتفسخ والجحود، في هذا المشهد الأخير تذوب شخصية هند تماما في مختلف أشكال الأعراق التي يموج بها هذا الحي القديم، فاليهود سيعتبرونها يهودية مشرقية، والإسبان سيعتبرونها إسبانية، والهنود سيعتبرونها هندية، وسوف يعتبر نازحون آخرون أنها لا تختلف عنهم. إنها هند، التي تنظر الآن في المرآة، كما تقول المؤلفة، فلا ترى روحها، سترى فقط مجرد امرأة وحيدة تشبهها.
بهذه الخاتمة التي تكاد أن تكون خاتمة انتحارية( حيث تمّحي فيها صورة البطلة) تنتهي أحداث بروكلين هايتس التي تحكيها بطلتها هند، مدرسة اللغة العربية التي لا تقدم فيها حكايتها هي فحسب ( وهي في حد ذاتها حكاية إنسانية مثيرة)، لكنها تقدم بانوراما شاملة من حيث الزمان والمكان، منطلقة من بيئة ريفية شبه قبلية في سنوات الانفتاح والمدّ الديني والتحولات الاجتماعية المفاجئة التي انعكست على علاقات ومصائر الأفراد والأسر والعلاقات المجتمعية، لتعبر الحدود إلى بيئات عرقية متنوعة يضمها حي بروكلين القديم في مدينة نيويورك في حقبة ما بعد الحادي عشر من أيلول ( سبتمبر) 2001، مجسدة بذلك فكرة الفيلسوف الألماني غوته عن الأدب العالمي الذي هو بمثابة عملية دائبة من التبادل والتفاعل بين الأمم والثقافات. وفي هذا الإطار الزماني والمكاني الشاسع برعت ميرال الطحاوي في تسليط عدستها الأنثروبولوجية التي ميزت أعمالها السابقة على قضايا إنسانية وعالمية راهنة كقضايا ما بعد الاستعمار والهجرة والاغتراب والتنوع الثقافي والهويات القومية، وكل ذلك من خلال رؤية هند التي يمكن اعتبارها البطلة الوحيدة في رواية متعددة الأصوات والرؤى حافلة بكل أنواع التجريب السردي ما يضعها في صدارة الأعمال الروائية الغزيرة التي غمرت الساحة الأدبية العربية في الآونة الأخيرة.
تفتتح الرواية بمشهد هند وهي تطالع في محرك غوغل الإلكتروني موقع الشقة التي ستؤويها في بروكلين هايتس، وسيكون هذا المدخل هو وسيلة ميرال الطحاوي لكي تفتح على القارئ مخيالا، أو مشكالا، زاخرا بلوحات وصور ونماذج نابضة من حياة منصرمة وحياة مقبلة. هند، المشبعة حتى النخاع بتراثها الشرقي، بكل مسراته وأوجاعه، تتجه غربا في رحلة إلى المجهول، وتقدم للقارئ، في مخيال مبهر، وعبر سرد إنساني رهيف، عملا مركبا متعدد المحاور يمور بصنوف السلوك الإنساني والتحولات الفكرية والاجتماعية ومحاولات التنصير والأسلمة وغرائب اللغط الديني، مهرجاناً من الصور والحكايات المبهرة والكاشفة عن التحول الذي أصاب المجتمع في تلك الحقبة الموارة بالتغيير. تعتمد ميرال في رسم كل هذه الصور وتقديمها إلى القارئ تقنية المخيال، أو الكلاديسكوب، أو بمعنى أبسط صندوق الدنيا الزاخر بألوان القص والحكايا.
لقد توالت على هند من النكبات الشخصية ( والقومية) في حياتها المنصرمة ما جعلها تقرر الرحيل والتخلي عن واقع فقد كل عوامل تماسكه أو قبوله أو التعاطف معه أو السكوت عنه. وتحكي هند عن مجتمع ينسحب من تاريخه ويتخلى عن قواعد سلوكه وينخرط في دوامة سحيقة من أنماط سلوكية جديدة وغريبة تجسدها التحولات التي طرأت على بيت هند نفسها، وعلى شخصيتها عبر سنوات الطفولة والمراهقة والصبا والزواج.
على نفس هذا المستوى العام أيضا، ترصد هند بعض مظاهر تحولات الانفتاح التي أصابت المجتمع في حقبة السبعينيات، من طغيان المادة، والهجرة إلى بلدان النفط، وتدهور السلوكيات والأخلاقيات العامة إلى انهيار المثل والعادات والتقاليد، وذلك عبر نماذج بشرية يمكن العثور عليها في كل المجتمعات: الخياطة فاطمة القرومية التي تحولت إلى مقصداره ترفض تصليح ثياب أم هند ( قولي لماما أنا ما عدتش باصلح. أنا مقصي دلوقتي ما يتحطش إلا في الثوب اللي لسه بوبله)، أي الجديد الذي لم يمسه قبلها أحد؛ وتلميذات الفصول اللاتي أصبحن يحترفن الرقص وإغراء مدرسيهن؛ ومدرس الرسم الذي يحرِّم رسم البني آدم وكل ما له روح، والذي ينتهي به الأمر إلى الزواج سرا من التلميذة اللعوب زوبة التي ترفع شعار النظر فقط بربع جنيه وتمارس هذه الهواية مع تلاميذ مدرسة الصبيان المجاورة؛ والأستاذ العائد من بلاد اليمن على جبينه علامة الصلاة وفي جيبه مسك مكِّي ويرتدي الجلاليب البيضاء القصيرة، وصار يعمِّر في مسجد النور أو المسجد الكويتي لصاحبه الذي لم يره أحد، وصار يخطب ويؤذن ويؤم ويذبح العقائق ويجمع التبرعات للمجاهدين الأفغان ويناضل ضد مذابح المسلمين في البوسنة ويسمع صوته الجهوري وهو يقول: يا رسول الله أمتك يتكالب عليها الذئاب، ويبكي الناس تأثرا لأنهم فقراء. وقد أصبح مدرس العربي الثاني أول من فتح محلا لبيع البلاستيك ومنتجاته وسماه البركة ثم ثنَّاه بآخر للسراميك والبلاط ليلبي احتياج البيوت الحجرية الجديدة وأسماه القدس ثم فتح عدة توكيلات أخرى لبيع السلع الكهربائية وأسماها الفرقان.
مخيال الطحاوي يغوص في عقلية الشرقيين القادمين من وراء البحار، لاجئين هاربين من الحروب أو القمع ( مثلها) حاملين معهم خزعبلاتهم الدينية التي يمضون وقتا طويلا في تسجيلها على أوراق وتوزيعها على الناس. خزعبلات من قبيل تفسير أن هجوم الحادي عشر من أيلول ( سبتمبر) ورد ذكره في القرآن الكريم، مدللين على ذلك بعمليات حسابية غريبة تثبت أن ذلك الهول العظيم وقع كما حدده الله تعالى منذ أكثر من 14 قرنا من الزمان.
نماذج بشرية كثيرة، يقدمون أنفسهم للتعارف في حصة لتعلم اللغة الانكليزية: إميليا الروسية وفريدناز الباكستانية وأليهاندرو من بيرو ونزهات من البوسنة والهرسك ودويج من هايتي وسعيد القبطي القادم من مصر. هجين بالغ التنوع لا بد من أن تصدر عنه عجينة غريبة من الأفعال والتصرفات وإبداع لا مثيل له في فرادته وتنوعه.
هند ميرال الطحاوي شخصية تستعصي على الوصف أو الاختصار، وهي تنضم فورا إلى كوكبة الخالدات في الرواية المصرية مثل زينب في رواية محمد حسين هيكل التي تحمل نفس الاسم، و سلوى محمود تيمور في سلوى في مهب الريح و زهرة نجيب محفوظ في ميرامار. لقد وجدت هند نفسها في خضم مجتمع غريب عليها تماما، مجتمع حافل بكل الاتجاهات الفكرية والاجتماعية: مجتمع الشخصيات التي تبحث عن ذاتها وقد خرجت من أوطانها التي ربما تكون قد تحررت من قيود الاستعمار لكنها ظلت أسيرة تقاليد وقيود وعادات رمت بها في أتون تيارات مريبة ومتضاربة من السياسات والاتجاهات.
في تحولاتها لتحقيق بطولتها كانت أول بنت ارتدت في المدرسة هذا الحجاب المسدل الطويل. كانت البنات يضعن على رؤوسهن أغطية خفيفة تكشف نصف الشعر والضفائر الطويلة. حتى القرويات كانت ضفائرهن تترنح من جانب الشعر بلا مخاوف، حتى وضعت هي هذا الحجاب الثقيل على كامل رأسها وقالت إن الله أمر بالخمار وليس بالايشارب الشيفون الهفهاف لتظهر التقشف والزهد. ارتدت الكثيرات في المدرسة ذلك الحجاب الثقيل مثلها رغبة في إظهار مزيد من الاحتشام فاختارت اللون الأسود أو الأزرق لحجابها لتظهر مزيدا من الخشية والتدين والاختلاف، ثم كانت أول من لبس قفازا أسود وقالت بتواضع: أنا لا أصافح، لعن الله المصافح والمصافحة. كانت تسير في طريق طويل من عقاب الذات وجلدها بمزيد من النواهي، وحتى بعد أن بحثت في عدة تفاسير وعرفت أن المصافحة هي التماس الجسد بالجسد ومنها المحاككة والملامسة وأنها تفضي إلى المضاجعة، وأن كل ذلك ليس له علاقة بسلام عابر، وقرأت عدة تفاسير لكنها ومن باب دفع الشبهات، ظلت ترى في السلام شبهة وأنه يفتح باب الإثم وأن القلوب تسلم والأجساد تهم بالخطيئة. كانت أول من استبدل صباح الخير لزميلاتها ب السلام عليكم. كان ذلك حدثا غير عادي، فكل من لم يسلم آثم قلبه. كانت مشغولة بالإثم طوال الوقت. مشغولة بتفسيره وتأويله وبالبحث عن قائمة من التفسيرات التي تجعلها وحدها القائمة بفهمه. كانت أول من صمم تلك الوقفات الخماسية للوعظ والإرشاد في ركن المدرسة، وكانت براعتها أن تجعل الآخرين يبكون ويشعرون بالذنب، أي ذنب. كان ذلك مبهجا لأن الطريق الطويل الذي عاشته يبدأ بالذنب وينتهي به. وبينما انشغل الطلبة بالإذاعة المدرسية والأنشطة الطلابية ومجلات الحائط الفكاهية كانت هي مشغولة بغض البصر وكبح الشهوة وبأن تكون شيئا عظيما. لكنها مثلما لبست هذا الإسدال الأسود الطويل كانت أول من خلعته. وقالت إن الستر لا يتنافى مع الجمال والله أباح ما ظهر منها، ودخلت في متاهة طويلة من التفسيرات التي تجعل تراجعها مقبولا، واختياراتها الجديدة مسنودة بدعم النصوص التي تفسرها على راحتها لتملك هذا الوعي المغاير للآخرين. كانت مشغولة في ذلك الوقت بأن تكون مختلفة، استبدلت الأثواب الواسعة التي تجرها وراءها في التراب بأخرى أقصر أضيق وأكثر انسجاما مع تضاريس جسدها، أثواب ملونة بتلك الألوان الزاهية التي اشتهتها، لأنه لم يثبت تحريم لها، وتركت أيضا خصلة شعرها تنحدر من أسفل غطاء رأسها لأن الله غفور رحيم ولن يرى في خصلة شعرها إثما كبيرا. هاهي الآن تسير في بروكلين مكشوفة الرأس ولا أحد ينظر إليها. نظراتها ما زالت مصوبة إلى الأرض لأنها لا تستطيع أن ترفع رأسها أبعد من ذلك. نظراتها الخائفة تعبيرٌ عن ميراث طويل من غض البصر والخوف والانسحاق و التلاشي في آن واحد.
في طفولتها أيضا، نبغت هند في المدرسة، وعلى وعد من مدرسها بأنها ستصبح حاجة عظيمة بدأت تبحث عن معنى لهذه العظمة. وكان هدفها الأول هو تلك الفريسة السهلة التي تجلس في آخر الفصل صامتة عادة وخائفة اسمها انجيل، دبة سمراء قصيرة لها ملامح مختلطة من طمي وعرق وبساطة مدهشة، ومعها بدأت مهامها في هداية البشر. تنتحي بها جانبا وتحدثها عن أهمية قول لا اله إلا الله لتدخل الجنة. تهز انجيل رأسها بفهم وانسحاق تؤكد لها مرات عديدة: ( قوليها في سرك المهم أن تدخلي الجنة بها). تخرج إنجيل من حقيبتها القماشية المتسخة قطعة من الخبز الطري المعبأ بالحلاوة الطحينية أو الجبن وتمد بيدها لها مقتسمة طعامها ( تاخدي حتة ساندويتش ؟) تحاول بذلك تغيير الموضوع والخروج من تحت يد مخلِّصتها بسلام. تمشي إنجيل بجوار كل الحوائط لأنها تخاف أن تركض فتصطدم عفوا بأحد أثناء الركض وتمشي بحذر لأنها طيبة دائما وبلهاء أحيانا لا تفهم الإهانة إذا قصدها بها أحد ومسالمة معظم الوقت لأنها لا تستطيع أن تكون غير ذلك وبلهاء أحيانا لأن ذلك ينقذها من الكثير من المواقف. تسمع كل محاولات هدايتها بلا تعليق أو ضجر. فقط تهز رأسها موافقة وتختم في النهاية بأن الرب وحده يمنحنا البصيرة. تردد هذه الجملة كخلاص تعطي بها انطباعات إيجابية على أن ثمة أملا ما في هذه البصيرة المنتظرة . لم تفقد أملها في هداية إنجيل قط حتى اختفت إنجيل فجأة من المدرسة وبات واضحا أن هند فقدت أول معاركها في هداية البشر.
بعد ذلك فقدت هند معارك كثيرة، ليس أقلها معركة الحب والزواج التي وقفت فيها ضد أسرتها، وأصرت على أن يكون لها اختيارها. تمردت وركلت الباب وقالت لأخوتها الذين صاروا رجالا ( سأتزوجه رضيتم أم أبيتم) مثل كل بطلات التمرد الدرامي، وقال بعض العقلاء في العائلة الكاعين بغُترٍ بيضاء فوق رؤوسهم على تلال مقاوي أبو الكرمات ( اتركوها تغور في داهية بدل الفضائح). بعد سنوات، تعيش هند مشاهد الخيانة، وتتألم، وتحكي بانكسار مؤلم.
تتذكر هند قصة هداية إنجيل وهي تهيم في شوراع بروكلين مع سعيد، القبطي المصري، سائق الليموزين، الذي ارتاحت له من بين كل أقرانها في فصل تعلم اللغة الانكليزية.
يحمل لها أحيانا ساندويتشات حلاوة طحينية أو فلافل ليقتسماها قبل الدرس أو بعده، وعادة ما يقطع طعامه ويعتذر منها للرد على تليفونات مفاجئة يرد بأدب ( نعم يا أبونا حاضر يا أبونا)، ثم يشرح لها كيف طلب القسيس منه بعض الأعمال التطوعية في الكنيسة. لم يقل لها سعيد كيف أتى إلى أمريكا. كان يحاول أن يضفي صورة المخلِّص على حضوره الطفولي المثير للضحك. يذكر دائما أقاربه الكثيرين واللوتري وأعمال الكنيسة الخيرية، وقد حاول أن يدعوها قائلا بتردد ( لماذا لا تأتين لتقضي الأحد معنا وبعدها نخرج ونتمشى؟). تهز رأسها موافقة لأنها تحب أن تسير بجانبه، وتشعر أن رجلا في هذا العالم ما زال يكترث لحضورها.
هند تتقمصها شخصية الدبَّة التي كانت تلعبها في طفولتها، والأطفال يدورون حولها ويغنون والدبة وقعت في البير. ولأنها سقطت في البئر كثيرا، واصطدمت بحيطان كثيرة في سعيها للإفلات من القمع، بسبب طيبتها أو عدم خبرتها في الحياة، أو بالرجال ( فواجهت خيانة زوجية جارحة كانت وراء قرارها بأن تفر إلى بلاد غريبة)، أو لأنها كانت تسمو بنفسها عن أشياء كثيرة، فإنها حينما وجدت نفسها في حياة جديدة ووسط مجتمع جديد ونوعيات أخرى من البشر، كان همها أيضا ألا تسقط في البير. وحينما سنحت لها الفرصة أن تقع في الحب مع جارها اللعوب والذي كانت تنام كل ليلة على أصوات الشهوة والمجون التي تصدر عن شقته، ورغم محاولاته الاقتراب منها والتودد إليها، وجدت في نفسها الشجاعة في أن تقول له: لا أشعر أنني أحبك!
تخسر هند كثيرا بسبب مواقفها، وتدفع الثمن أكثر من مرة على نفس الخيبات ونفس القمع ونفس الفشل. لكنها تقف في النهاية لتتأمل، ولكي تحكي. لم تحاول مرة أن تنقذ قلبها المحطم بالخيانة بحب جديد رغم أن كل الذين التقت بهم، ومن جنسيات مختلفة، أظهروا لها، كل بطريقته، ووفقا لمآربه الخاصة، من المودة ما كان يمكن أن يجعلها تقع في بئر الحب. لكنها كانت قد أصبحت مصابة بفوبيا السقوط. وبدلا من ترميم الشرخ الذي أصاب روحها تعزف عن القلوب والأيادي الممدودة إليها إصرارا منها على دفع الثمن مرتين وأكثر.
في مخيلة هند مشهد لا تستطيع نسيانه ( ولن يستطيع نسيانه أي قارئ). هند الصغيرة في جلسة عائلية، في شرفة بيتهم الرحب القديم ( بيت عز، تقبع في مدخله سيارة كاديلاك قديمة)، والأب، العزوة، المستغني عن السفر كرفاقه الكثيرين إلى بلدان النفط والدولار، ممددا في جلبابه يحتسي كأسا من البيرة التي تشتريها هند له من دكان عم محمود على ناصية الشارع. تحكي هند عن الأب الذي كان يروق له كل ليلة أن يستلقي على الحصير في الشرفة الشرقية المحاطة بأشجار الكافور وحوله الأبناء والبنات، يتسامر معهم بحكايات من هنا وهناك. يغيب عن الجلسة أخوها الأكبر الذي صار طويلا وله لحية صغيرة يبدو فخورا بها، يخرج في سبيل الله عدة أيام كل شهر وأمه تقول ( بيذاكر) لأنها تخشى أن تصدق أن طفلها، الذي كان ولدا جميلا يهوى جمع الطوابع وعزف الهارمونيكا وقراءة مجلات ميكي و سمير ويهوى أيضا المراسلة وسماع الموسيقى، صار مهتما أكثر بالنوافل والفروض. لا تعرف لماذا عبر سلمات البيت التي تؤدي إلى البلكونة الشرقية بهذه الخطوات البطولية المتحفزة، ولماذا يصرخ في وجه أبيه: حرام!! أنا أخشى عليك من نار جهنم. حكاية مثيرة في حياتها: تحكيها لمجالسيها في كوكو بار، وفي المرقص الذي حاول فيه صديقها أن يعلمها رقصة التانغو.
خليط البشر والأعراق والثقافات التي تجد هند نفسها فيه يجعلها مبهورة كأليس في بلاد العجائب. فاطيما الصومالية الطويلة الممشوقة بلا عيوب ولا تهدلات ولا أثر للولادة أو للانتهاك، وشعرها الأفريقي محلوق كغلام جميل. تنام فاطيما في مكان ما لا تعرفه. تنام مع جون أحيانا ومع غيره أحيانا أخرى ولا تحب أن يسألها أحد عن الحبوب ولا عن الرجال ولا عن صوماليا وتحلم بان تصبح ( ناعومي كامبل).
عبدول الأفغاني الذي يراودها عن نفسها ويحاول إغراءها بتدخين الحشيش الأفغاني، ويفخر أمامها بأنه يتعامل مع الأمريكان ( أترجم وأجلب لهم الحشيش)، وحينما تصده وتصفه بأنه مجرد طفل غبي، يجرحها بألفاظ بذيئة كاشفا عن معرفته بالثقافة الأمريكية. وعبد الكريم الكردي الذي تزوج من مكسيكية خمرية وجميلة ومستديرة وكل شيء فيها، بدءا من أظافرها وحواجبها عبورا بمناطق أخرى في جسدها، مستدير ومدبب ومهيأ لأن يصبح محطا للإعجاب، تركته بعد أن أنجبت منه ثلاث بنات، لكنه ظل يسكن معها في الشقة نفسها لأنه لا يعرف مكانا آخر، وهو أيضا يود البقاء بجوار البنات اللاتي يكبرن، وقد شاهد ذلك بعينيه فقد صارت ديانا تشبه أمها مدببة ومستديرة ومغوية. صارت خليطا نقيا من تهجين رائع. كانت أيضا تشبه أمها في الشبق والعصيان والرغبة في امتصاص الحياة، صريحة وواضحة ووقحة في بعض الأحيان، و لا يقدر عليها إلا خالقها كما يقول عبد الكريم لنفسه.
سينبهر القارئ بالطريقة التي تتحرك بها ميرال الطحاوي في كل هذه الأجواء، وتنتقل على الصفحة الواحدة من زمن إلى زمن آخر ومن بيئة إلى أخرى وتحكي وتحكي بأسلوب شفيف مليء بالشجن ( وأيضا بالمعلومات عن أشياء كثيرة: الإثنيات وسلوكها وتاريخها، والتصرفات، وأبراج الحظ التي تغرم بها هند وترد إليها حالتها النفسية). تنتج لنا ميرال الطحاوي نصا ثمينا، يقف بجرأة كالجرأة التي حكت بها عن تفاصيل حميمية كثيرة في مواجهة نصوص غثة كثيرة يحفل بها سوق الرواية، حيث أصبح البعض مثل مطربي الميكروباصات الذين ( يملأون) الشرائط الغثة والفجة، ويقذفون بصفحاتهم إلى المطابع.
لا تكتمل أي قراءة ل بروكلين هايتس إلا بتركيز الضوء على البطل الصغير الذي يبرزه غلاف الرواية. الطفل الذي يتساند على أمه هند كلما أحس بالتعب، والذي تتساند هي عليه كلما غلبها الهم والقهر والوحدة. الطفل ذو الأعوام الثمانية يكبر فجأة ويكشف عن إحساس عميق بالمسؤولية تجاه أمه الوحيدة، يصبح ضميرها وشريان حياتها. يتشرب سريعا رياح التغيير والأمل التي هبت عشية فوز رئيس أمريكي جديد. يرهق أمه بالأسئلة والاحتجاجات.
I like what she wrote . becouse it is the true life in united state.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.