ما الذي ترتب علي المتغيرات التي عرضت لها في مقالي السابق؟ أول هذه المتغيرات أن دعائم التفوق المصري( الثقافي), سياسيا واقتصاديا وصناعيا وعلميا, أخذت تتهاوي واحدة بعد الأخري, فلم يعد التعليم المصري جاذبا علي المستوي القومي منذ أن اتجهت الأقطار النفطية الي أوروبا والولاياتالمتحدة, بعد الصدام الأول لأنظمتها السياسية مع السياسات الناصرية, ولم يعد الاقتصاد المصري قادرا علي النهوض بحركة تصنيع تسهم في رفع معدلات حركة التنمية بما يتناسب والمطامح الوطنية, فعجزت الصناعة المصرية عن المنافسة في السوق العربية الكبيرة, وفشلت الدعوات المتكررة لإقامة سوق عربية مشتركة, وتزايدت عزلة مصر وتقوقعها السياسي, وتخلت تدريجيا عن دورها الإفريقي والآسيوي, فضلا عن دورها الرائد في أمريكا اللاتينية. وفرضت عليها الصداقة مع الولاياتالمتحدة والصلح مع إسرائيل ما لم تكن ترضاه لنفسها من قبل, فارتبكت البوصلة السياسية بما أسهم في زيادة التمزق العربي. وكان ذلك كله في سياق من أزمات اقتصادية, قلبت جمال المدن الي قبح, يلازم أزمات الخبز, وأكوام القمامة, وكوارث الإهمال والفساد التي أودت بحياة الآلاف في القطارات والعبارات. وفي موازاة ذلك, انحدار البحث العلمي في مصر علي نحو متزايد, واحتلال الجامعات المصرية درجة الصفر, بعد أن أنهكتها وصرفتها عن غايتها الحقيقية الأزمات السياسية والاقتصادية. واتجه النظام السياسي أكثر فأكثر الي الاستبداد برغم التعددية الحزبية المظهرية التي أقامها السادات, ضمن شعائر الانقلاب علي الناصرية, ولا تزال المظهرية قائمة برغم كل المبادرات اللاحقة. ودخل الاقتصاد المصري المجال الرأسمالي الذي أدي الي ازدياد الفقراء فقرا, وازدياد الأغنياء غني. وأدت الأزمات الاقتصادية الي هجرة الخبرات المصرية المتميزة الي بلاد النفط, حتي لو كان الثمن هو التخلي عن الأفكار القديمة, واستعارة الأنماط السائدة في هذه البلدان, فكرا وزيا وسلوكا. ولا يزال التعليم بشقيه المدني والديني يواصل انحداره وتخبطه بين وزراء لا يملكون رؤي جذرية للإصلاح والتطوير, ولا يزال أساتذة الجامعات كغيرهم يحلمون بالإعادة الي أقطار النفط وجامعاتها, هربا من الهوان الاقتصادي الذي يعانون منه, وعدم الشعور بالأمان لهم وأسرهم, ماديا وصحيا واقتصاديا. وكانت النتيجة أن تفوقت جامعات عربية أحدث علي جامعاتنا في مدي التعليم العالي, وارتفعت معدلات التميز العلمي في أقطار شقيقة سبقناها الي تقديم التعليم ما قبل الجامعي. وانطوت في الذاكرة مصر الناهضة التي فتحت مدرستها الأولي لتعليم البنات سنة1874 مقابل دولة قطر التي فتحت مدرستها الأولي للبنات بعد ذلك بمائة سنة. وما ينطبق علي التعليم ينطبق علي الإعلام الحكومي الذي أفسده ما أفسد غيره من تغلغل الفساد وانتشاره, ومن اختلاط الإدارة برأس المال الذي أصبح في حالة تحالف مع حكومات عاجزة عن إنقاذ مصر, اقتصاديا واجتماعيا وسياسيا وفكرا دينيا علي السواء. ولا ينفصل ذلك كله عن الترويج لفكرة الدولة الدينية الإسلامية التي كان لها بذورها في أفكار حسن البنا( المؤصل الحقيقي لفكر الإخوان المسلمين) عن الخلافة الإسلامية التي لابد أن تحل محل الممالك الظالمة. ولكن فكرة الدولة الدينية جاءت أقوي مع مطلع السبعينيات, متسلحة بإسلام النفط والصحراء, خصوصا بعد تحالف السادات مع جماعة الإخوان التي أطلق سراح قادتها من السجون الناصرية, وسمح لهم بإصدار مجلاتهم وتنشيط أجهزة إعلامهم الداعية الي الدولة الدينية, والهجوم علي ما عرفناه باسم الدولة الوطنية, أو ما ورثناه من ثورة1919 من أن الدين لله والوطن للجميع. وانقسم الإخوان المسلمون الي جماعات, بعضهم يرفع شعار دعاة مقابل شعار قضاة. وهي تفرقة كمية لا كيفية ما ظل الهدف هو القضاء علي الدولة المدنية, وللأسف. ظلت بعض الدول النفطية تدعم جماعات الإسلام السياسي. ماديا ومعنويا, الي أن اكتوت بناره, خصوصا بعد عولمة الإرهاب الديني الإسلامي. ومنذ أن استغل المتعاطفون مع هذه الجماعات الخرافة الدينية في تبرير الانتصار العظيم للجندي المصري والمخطط المصري في حرب أكتوبر المجيدة, فتحدثوا عن الملائكة التي حاربت مع الجنود, وأن الله أنعم علينا بالنصر, بعد أن عدنا إليه, ونبذنا الإلحاد الشيوعي والهرطقة الناصرية, أقول بعد أن تم تديين نصر أكتوبر, أصبح التديين عملية حتمية, تقوم بها مجموعات الإسلام السياسي في اختراق المؤسسات التضامنية للمجتمع المصري, وعلي رأسها النقابات, فضلا عن أجهزة الإعلام والقضاء. وكانت النتيجة أن عرفت مصر للمرة الأولي في تاريخها المدني المعاصر قاضيا يحكم بالتفرقة بين أستاذ جامعي وزوجه لأن هذا الأستاذ مارس حقه الطبيعي في الاجتهاد, وهو الحكم الذي فتح الباب, بعد إغلاق باب دعاوي الحسبة, لقضايا الجنح التي طالت أحمد حجازي وجمال الغيطاني وكاتب هذه السطور, وهي أهون, في حساب سوء المآل, من محاولات الاغتيال التي نجحت في قتل الشيخ الذهبي, ورفعت المحجوب, ثم فرج فودة, والتي لم تنجح, لحسن الحظ مع مكرم محمد أحمد, ونجيب محفوظ.. إلخ. وهي, في النهاية, أقل ضررا جسديا من وضع الأدباء والفنانين أمام القضاء بدعاوي الكفر والفسوق, وعشرات الأسماء شاهدة علي ذلك. أضف الي ذلك ما شهدناه من تدخل عمال المطابع في حذف ما يرونه خارجا علي الدين. وقس علي ما كان يحدث في مصر الليبرالية( شهادة النائب العام محمد نور في اجتهاد طه حسين, وتقبل رئيس تحرير مجلة الأزهر أن يكتب إسماعيل أدهم مقالا عنوانه لماذا أنا ملحد؟) ما يحدث الآن, تجد أن منحي التسامح قد تغير تغيرا جذريا الي الأسوأ, وأن ثقافة الدولة المدنية في أخطر أوضاعها بسبب الهجوم العاصف, متعدد الأبعاد, من أنصار الدولة الدينية ودعاتها الذين وجدوا الساحة مفتوحة أمامهم, وذلك دون موقف حاسم, سياسيا وفكريا واجتماعيا, من لوزام دعواتهم وآثارها التي وصلت الي ذروة تأثيرها السلبي في الشارع المصري, خصوصا في الأحياء الشعبية والقري, فضلا عن شرائح دالة من الطبقة الوسطي. وتعني كل هذه الأمثلة أن إسلام الصحراء قد تغلب علي إسلام النهر, وأن الدعوة المصاحبة له, كالأصولية الدينية للفكر السلفي قد تحالفا مع قوي عولمة الإرهاب الديني باسم الإسلام البريء مما يفعلون. وكان ذلك هو سبب الاحتقان الطائفي الذي لم تكن تعرفه مصر التي آمنت بأن الدين لله والوطن للجميع. والنتيجة هي وجود ذلك المتعصب القبطي الذي رد عليه متعصب مسلم بكتاب نشرته مجلة الأزهر, مؤخرا, فاضطر رئيس الجمهورية الي التدخل, تجنبا للفتنة. والواقع أن الأمر ليس مقصورا علي الثقافة الدينية وحدها, فمن الواضح أن طبائع الاستبداد السياسي, وعدم حرية تكوين الأحزاب المدنية, وفقر الفكر الثقافي في برامج الأحزاب, تحالفت وعوامل أخري, فأدت الي تدهور الوعي الثقافي العام, وتحوله الي وعي هزيل, قابل الكل فيروسات التطرف الديني والخرافات الدينية التي تدفعه الي القراءة عن الثعبان الأقرع في عذاب القبر, وتصديق خزعبلات الدجل باسم الدين الذي أفلح المتطرفون في تسييسه. المزيد من مقالات جابر عصفور