لا شك أن الإعلام بات يلعب دورا متزايدا في أهميته وتأثيره في العلاقات بين الشعوب المختلفة, خاصة تلك التي تنتمي إلي ثقافات أو أديان أو عقائد مختلفة , وبالذات في ظل وتيرة التسارع غير المسبوقة للتقدم العلمي والتكنولوجي في وسائل الاتصالات وتكنولوجيا المعلومات, بحيث لم يعد الإعلام مقصورا علي تعريفاته التقليدية, بل صار فضاء رحبا, جزء كبير منه لا يمارسه اللاعبون التقليديون في ميدان الإعلام الذين عهدناهم لعقود, بل لقرون, ولكن دور الإعلام في ميدان العلاقة بين الثقافات والأديان المختلفة ليس مستقلا عن عوامل أخري بعضها من الثوابت والكثير منها من المتغيرات. من أهم هذه العوامل من وجهة نظري مسألة الترجمة, فاللغة هي وسيلة انتقال المعلومة من مكان الي آخر, أيا كانت أداة هذا النقل. وإذا تم نقل المعلومة بلغة البلد الذي نشأت فيه هذه المعلومة الي بلد آخر يتكلم لغة أخري, فهناك ثلاثة خيارات لا رابع لها يجب أن يحدث أحدها, أما الخيار الأول فهو أن تنتقل المعلومة بلغتها الأصلية, وبالتالي لا يفهمها في البلد المتلقي سوي من يعلم هذه اللغة, وقد يترجمها بعض هؤلاء الي لغتهم, بينما الخيار الثاني يكمن في أن تتم ترجمة هذه المعلومة الي لغة البلد المتلقي بواسطة مصدر هذه المعلومة لضمان أن تحمل الترجمة نفس الرسالة والمضمون اللذين تحملهما المعلومة في لغتها الأصلية, والخيار الثالث والأخير هو أن يتم نقل المعلومة عبر طرف ثالث له لغته المختلفة عن لغة الطرفين, المصدر والمتلقي علي حد سواء, وفي هذه الحالة فإن المعلومة تتم ترجمتها الي لغة الطرف الثالث أولا ثم تترجم من هذه اللغة الي لغة الطرف المتلقي لاحقا. حتي إذا افترضنا نظريا ان الطرف الثالث المشار اليه في آخر الخيارات في الفقرة السابقة ليس لديه أي تحيزات مسبقة أو وجهات نظر ذات طبيعة قيمية أو افتراضات قائمة علي اعتبارات عقائدية أو فكرية, وهو افتراض من الصعب حدوثه علي أرض الواقع انسانيا واجتماعيا وثقافيا وسياسيا, فإن مجرد نقل رأي او معلومة أو تغطية خبرية او تحليلية من لغة إلي أخري عبر لغة ثالثة سيكون محملا بالضرورة بالمرجعيات والمعايير الثقافية والمجتمعية والدلالات التاريخية التي تحملها رموز لغة هذا الطرف الثالث, حتي بدون افتراض أي عمد أو سوء قصد. هنا تكمن أهمية الترجمة كضمان لأن يكون التواصل بين الثقافات والعقائد والأديان المختلفة مباشرا عبر نقل ما يدور في إعلام دولة عن اوضاعها وتطوراتها ومواقف مجتمعها تجاه قضاياه وقضايا العالم من حوله, الي وسائل إعلام مجتمعات أخري لها لغات وثقافات وعقائد ومخزون فكري وإرث تاريخي مختلف, ويتطلب هذا الأمر بدوره تبادل الترجمة المباشرة للمقالات والتعليقات المنشورة بلغاتها الأصلية في وسائل إعلام بلادها لعرضها في صحف ووسائل إعلام دول أخري لها لغات أخري وخلفية حضارية أو ثقافية أو دينية مختلفة. الواقع أن الترجمة المباشرة تتطلب نشر تعلم اللغات الاجنبية في الدول المختلفة, وبحيث لا يكون تعليم هذه اللغات الاجنبية مقصورا علي المدارس الخاصة أو الدولية ذات المصروفات المرتفعة التي عادة ما لا تكون في متناول يد الفئات الوسطي من المجتمع, بل يتعين أن ينتشر تعليم اللغات الاجنبية في المدارس العامة أو الحكومية بالمستوي الذي يسمح لمن يتلقي تعليمه في هذه المدارس بمتابعة ما يكتب علي الاقل بلغة أجنبية واحدة يكون لها طابع دولي. لكن الترجمة وأهميتها في تيسير حوار الثقافات والأديان لا تقتصر علي تأثيرها الإيجابي في التناول الإعلامي فقط, بل تمتد إلي أبعاد أخري نذكر منها هنا الترجمة للكتب فيما بين اللغات المختلفة, والمقصود هنا تحديدا ليس ترجمة الكتب ذات التوجهات الأيديولوجية أو السياسية, ولكن الأهم هو ترجمة الكتب الأدبية والفنية أو كتب النقد الاجتماعي أو الكتب التاريخية بالاضافة الي كتب الاطفال. لكن يجب الوعي بأن عملية الترجمة تلك يجب أن تتسم بالانتظام والدورية من جهة وبالاستمرارية والاستدامة من جهة أخري, بحيث لا تقتصر علي عمليات ترجمة عبارة عن مبادرات فردية وعلي فترات متباعدة, ولا أن تتسم بالعشوائية وعدم الانتظام, وعلي أن تشمل عملية الترجمة تلك عددا معقولا من الكتب سنويا في المجالات التي أشرنا إليها, وأن تكون حركة الترجمة ذات اتجاهين وليست مقصورة علي اتجاه دون آخر. من المهم أن تتسم عملية الترجمة تلك بالانتقائية فيما يتصل بطبيعة الكتب المختارة للترجمة وموضوعاتها, وبحيث تعكس الكتب المترجمة طبيعة المجتمع الذي صدرت عنه أصلا هذه الكتب وسياقه التاريخي وثقافته وعاداته وتقاليده, وتقوم بتوصيلها الي المجتمع او المجتمعات الأخري التي تترجم هذه الكتب الي لغتها او لغاتها, وكذلك من المتعين أن يتم اختيار الكتب التي ستتم ترجمتها بناء علي اهتمامات المجتمع المتلقي وذوقه الثقافي والفني, بحيث تشهد رواجا لدي ترجمتها ونشرها في المجتمع الآخر, وبحيث يتم الأخذ في الاعتبار أيضا معايير الطباعة والتسويق والتوزيع السائدة في المجتمع المتلقي حتي تكون الترجمات صديقة للعين بالنسبة للقارئ في المجتمع المتلقي. بالتأكيد فإن عملية الترجمة تلك تتطلب تفاهمات فيما بين الدول والمجتمعات يجب ان يندرج فيها أكثر من طرف, في مقدمتها الجهات المعنية بالثقافة في الحكومات وتلك المعنية بالنشر, سواء كانت من القطاع العام أو الخاص, وبالضرورة ايضا المثقفون من الجانبين, بمن فيهم الكتاب والنقاد والشعراء والفنانون والرسامون و غيرهم. لا يختلف اثنان علي أن عملية الترجمة تلك تتطلب موارد مالية كافية يتعين توفيرها سلفا بشكل مشترك بين الجهات العامة, والمنظمات الدولية ذات الصلة ومنظمات المجتمع المدني, بالاضافة الي القطاع الخاص, سواء في قطاع النشر أو علي الصعيد الاقتصادي بشكل عام, في إطار لعب دوره الثقافي والقيام بجزء من مسئولياته المجتمعية, ويمكن توفير هذه الموارد بشكل تدريجي ينمو في اتساع, ولكن من الافضل أن توفر مسبقا وتجمع في صندوق أو وقف أو وديعة مخصصة لمشاريع الترجمة تلك, والإنفاق من عائداتها علي الترجمة. في الختام لا نملك إلا القول إن عملية الترجمة ومشروعها تصلح لأن تكون مشروعا قوميا, بل كانت كذلك بالفعل في أكثر من مرحلة في تاريخ مصر القديم والوسيط والحديث والمعاصر, وكانت دوما مفتاحا لمشاريع النهضة والتقدم, ليس فقط اقتصاديا بل ثقافيا وعلميا ايضا, ومن مظاهر اهتمام الدولة بالترجمة في مصر حاليا وجود المركز القومي للترجمة والدور الايجابي الذي يلعبه في إطار حركة التنوير الفكري والثقافي للمجتمع المصري