لكل مدينة قلب.. ووسط البلد هو قلب القاهرة.. ومنذ أراد له الخديو إسماعيل إن يكون قطعة من أوروبا, وهو يتمتع بحالة ربما لم تتوافر لمكان آخر في مصر! فيه اختلط المصريون والأجانب بسماحة لافتة. فشكلوا مجتمعا كوزموبوليتانيا حيويا, ضم الفنادق الفخمة بجوار البنسيونات, ونادي السيارات بالقرب من المقاهي الشعبية, والمحال الراقية والبارات بجانب محال الكشري وعصير القصب ومن نهايات القرن التاسع عشر إلي الآن بات موئلا للمفكرين والمبدعين, من نجوم متاتيا الأفغاني والنديم وسعد زغلول ومحمد عبده إلي مبدعي زهرة البستان ومن رواد الحرية وإيزافيتش واسترا إلي سوق الحميدية, والجريون والندوة الثقافية, يجوسون في حنايا المحروسة, يتنكبون دروب السابقين, يراودون مواهبهم, فتفيض إبداعا. تيار متدفق وإن تعكر أحيانا. وجوه تسطع وأخري تأفل, أحلام تتوهج, وغيرها تطفئها الإحباطات, لكنه يبقي موارا, يفور بلا توقف, يرفع قامات ويخفض هامات, ينبض بقوة, ويهمد حتي السكوت.. تماما كخفق القلب!! وهذا ما أغري الأديب مكاوي سعيد أحد أمراء وسط البلد بالتقاط وجوهه البارزة, وأماكنه المميزة, لينفض عنها غبار الضيم, ويبدد الأوهام الزائفة, يجلو مواهب كبري برقت في وجدان القاهرة, ويعيد الاعتبار لمن غيبهم النسيان, وظل يراهم هو ان بحب من أجمل مقتنيات وسط البلد * استوقفتني كلمة مقتنيات في عنوان كتابك. فربما ينصرف معناها لدي البعض إلي الأنتيكات والكتاب جله عن أشخاص, فكيف يمكن إعتبار الإنسان مقتنيات, أم أنها منحوتة جديدة لتجنب مصطلح بورتريه المستهلك ؟ المقتنيات كما هو معروف كلمة متداولة في الفن التشكيلي, وتستخدم مع اقتناء الأعمال الفنية, وإن كان مفهومها أوسع من ذلك لغويا, وأنا استعملتها هنا بدلالتها الوجدانية, فشخصيات الكتاب أثروا وسط البلد, وتمتعوا بالمواهب وإن لم ينجح بعضهم, والاستخدام المجازي هنا لنقل صورة هؤلاء الناس إلي جيلي والأجيال التالية. * في حكايات قليلة شعرت بترصدك بعض الشخصيات وسخريتك منها, ورسمك تصويرا سلبيا لهم لأنك ترفضهم, كأن آثارها عالقة بذاكرتك, ولم تصف مشاعرك تجاههم وقت الكتابة, ألا ينتقص هذا من موضوعية رؤيتك ؟ أنا لم أكتب عن المدينة الفاضلة, ووسط واحدة وأربعين شخصية طبيعي أن تجد أربعا أوخمسا كان لهم إثر سيئ في الحالة العامة في وسط البلد آنذاك, وأنا قدمتهم كما رأيتهم, وأوضاعهم هي التي استدعت السخرية منهم, فمثلا بعض الريفيين في بداية وفودهم إلي القاهرة يتصرفون وكأنهم جاءوا لغزو العاصمة, وتكون حالتهم ظاهرة من أول يوم. ولا ننسي أن الخيال له دور كبير رغم أنهم شخصيات من لحم ودم, والموضوعية التي تقصدها تلزم مع الشخصيات التاريخية, ولا أعتقد أن الروائي ملزم بالكتابة الموضوعية, ولعلك لاحظت تجنبي الكتابة عمن أصبحوا من المشاهير, وكتبت عن مواهب كانت مبشرة ولم تتحقق, وهاجروا أو ماتوا بعد أن عانوا إحباطات المدينة,وواجهوا مناخا سيئا يسمح للقليلين بالوصول إلي النجومية. * هذا أدعي للإشفاق عليهم ؟ لا أدعي الشفقة علي من يروجون للتطبيع مع إسرائيل الآن, مع أنهم كانوا من أشد المعارضين, فالكتابة بتقديري أن يتوحد القارئ مع الكاتب, فإن لم يشعر القارئ بشجن الكاتب فلا أهمية لما يقرؤه, فأول شروط المعادلة اقتناع القارئ بأن ما يقرؤه حقيقي, ينفعل به ويتوقف أمامه لا أن يعبره غير مصدق. * أعجبني جدا موضوع اليعسوب عن سعد الدين حسن فقد كتبته بحب صاف عن مبدع مغبون, وكذلك أسامة خليل والسينمائي نديم ميشيل عاشق الحياة فهل حب الكاتب لصاحب البورتريه يبعد القارئ عن الحقيقة ؟ كتبت عنهم لأنهم أصدقائي, وأحبهم, ورأيت فيهم أشياء جميلة, فمن لايعرفهم قد يكون انطباعات غير صحيحة نتيجة تصرفات ظاهرية لا تعكس الحقيقة, وأنا أحب كتابة سعد الدين حسن ورؤيته النقدية, وهو مغبون إلي الآن, وهو إنسان ونبيل وإن كان لا يجيد تقديم نفسه للآخرين, فأحببت أن أحييه لأنه من قلائل أثروا في مسيرتي الأدبية بآرائه الثرية حين لم يلتفت إلي أحد, ونديم ميشيل نبيل حقيقي عاصرته في سنواته الأخيرة قبل وفاته. * هذا يحيلنا إلي فن كتابة البورتريه والإمكانات التي يجب أن تتوافر لكاتبه, فهل معرفة المكتوب عنه شرط حتمي, أو يمكن الكتابة عن شخص عبر القراءة والسماعي والعنعنة من دون رؤيته ؟ مبدئيا أنا أعتبر البورتريه كتابة صحفية مع الاعتذار للصحافة, كثيرون يسودون بها صفحات, أما ما كتبته فقطع أدبية تقترب كثيرا من القصة القصيرة, فيها معايشة للشخصية, ووصف للتداعيات النفسية, واستدعاء من الماضي وخيال, والفارق أنني أبدأ من لحظة تاريخية جمعتني بالشخصية وأتخيل بداياتها, وربما وصلتني أخبار عن نهاياتها فأستفيد بها في بناء الشخصية. * حكايات كتابك تبدو مشاريع ل41 رواية, أو قصة قصيرة هاربة من الأدب إلي الكتابة الحرة عن الشخصيات, فلماذا لم تضمها في عدة روايات أو مجموعات قصصية باعتبارها خاما جيدا, أم استعصي عليك الأمر؟ الحقيقة هذا الكتاب كان محاولة لرواية ضخمة عن وسط البلد تضم الشخصيات التي رأيتها لكن كثرتهم واستحالة اجتماعهم في مواقف مشتركة صعب الامر, فقررت كتابتهم باعتبار كل واحد منهم قصة قصيرة فلكي أكتب هذه الشخصيات احتاج41 رواية وقصدت الا أكتب علي غلاف الكتاب شيئا حتي لايصنف, فهناك كتب توضع عليها كلمة رواية وهي أبعد ماتكون عنها, وكتابات ساخرة يعتبرونها قصة قصيرة والمسميات المجانية تفقد الأشياء جمالها فكتاب كناشة الدكان من أمتع كتب يحيي حقي ومقالاته عن الفن والموسيقي خالدة لأنها لم تخضع لتصنيف وعدم الدقة قلة احترام للقارئ ويمكن أن يدخل ضمن بند الغش التجاري والتدليس الادبي. * ما أهمية ذكر الأماكن التي ذيلت بها كتابك إذا كنت أوردتها كمعلومات مجردة, أم أنها محاولة لإبراز اللوكيشن الذي تحركت فيه شخصياتك ؟ إبراز جماليات المكان وليس اللوكيشن فحين تقرأ حكاية حدثت في مقهي علي بابا الذي كان يجلس عليه نجيب محفوظ كل صباح ستقول أين هذا المقهي؟ بعدما تغير نشاطه ثم أغلق تماما, فكان لابد أن أكتب عن الأماكن التي اختفت, مثل أسترا وفندق ناسيونال وإيزافيتش, ومقهي ريتس وسفنكس ومحل روي والبن البرازيلي, فهي أماكن كانت تحتفي بالمثقفين ويحتفون بها, وبعد اختفائها كان ضروريا أن أبحث تاريخها لتكتمل الصورة لدي القارئ وعندي إحساس أن الأماكن المتبقية ستختفي بدورها بسبب ما يحدث في وسط البلد الآن فمحلات الملابس والأحذية تجتاحها, ولعل أحد الذين يحبون وسط البلد يستطيع إعادة هذه الأماكن إلي الحياة مرة أخري ليثري الحياة الثقافية, أو من يقومون بتجميل القاهرة الخديوية ليتهم يعيدونها إلي الحياة.