لنادى الجزيرة خصوصية ثقافية واجتماعية جعلته أقرب إلى «جزيرة» للصفوة فى وسط القاهرة. ومن نادٍ للجيش البريطانى إلى مكان مقصورة عضويته على الأجانب، ثم شهرته كمكان يرتاده «أبناء الذوات» حمل تغير شكل وجمهور نادى الجزيرة تحوّلات مرت بها القاهرة، لتصبح «جزيرة النادى» مكانا يقاوم التغيرات، فينجح مرة ويغلبه الواقع مرة. فور دخولك إلى نادى الجزيرة تجد نفسك محاطا بأشجار كثيرة وسيارات فارهة فى مدخل تقطعه سيارتك فى دقيقة، تشعر معها بأنك انتقلت بالفعل إلى «جزيرة» داخل المحيط القاهرى، فالأشجار الكثيرة العالية تحجب رؤيتك للمدينة، ماعدا مبانيها الشاهقة التى استطاعت تحدى هذه الأشجار. يمينا ترى فندق شيراتون، ويسارا برج القاهرة، وبينهما سترى عمارات الزمالك العريقة التى سكنها مشاهير الفنانين يوما. الصباح فى نادى الجزيرة يشبه إلى حد كبير ما تقرؤه فى روايات الأربعينيات والخمسينيات، هؤلاء السيدات اللائى يسرن خلف عربة الأطفال يشبهن «أمينة» فى «أنف وثلاث عيون» لإحسان عبدالقدوس، والنادل الذى يسير حاملا صينية عصير الليمون، مرتديا الأبيض والأسود و«بابيون» هو نفسه من يظهر فى روايات يوسف السباعى بالمشاهد التى يتواعد فيها الأبطال، غير أن مشاهد الروايات لا تظهر فى خلفيتها ماكينة الصراف الآلى لبنك أجنبى! وبدا كما لو أن ماكينة هذا البنك بصمة تأسيس الأجانب للنادى العريق، الذى بدأ أجنبيا عام 1882 على أرض حديقة سراى الخديوى إسماعيل التى أنشئت أساسا لاستقبال الإمبراطورة الفرنسية أوجينى فى أثناء حضورها مراسم افتتاح قناة السويس. واقتصرت عضوية «نادى الخديوى إسماعيل» الجزيرة حاليا على البريطانيين من كبار الموظفين وضباط جيش الاحتلال، ولم يدخله غير البريطانيين إلا بعد الحرب العالمية الأولى، إذ سمحت بوابة النادى بمرور الأوروبيين المقيمين فى مصر من الدبلوماسيين والعسكريين، وبعدهم دخل بعض المصريين من المقربين إلى القصر الملكى، فى وقت غيّر فيه السلطان فؤاد الأول اسم النادى إلى «نادى أمير الصعيد» تيمنا بولده الملك فاروق الأول. تاريخ الجزيرة.. وتاريخ مصر «جزيرة النادى» لم تكن يوما معزولة عن محيطها القاهرى، فكل حدث تاريخى فى مصر طبع النادى بشىء ما، فتأسيسه لخدمة ضباط جيش الاحتلال البريطانى تزامن مع فترة احتلال طويلة، تقارب فيها الخديوى مع الإنجليز. ودخول الطبقة الأرستقراطية إليه من المصريين ومن قبلهم الأوروبيون، أفرز تعددا فى جنسيات وديانات وثقافات أعضاء النادى، كانت تتمتع به مصر فى الفترة نفسها، وهى الملاحظة التى تكررت فى كتابات الأجانب المقيمين فى مصر قبل يوليو 1952 ممن كانوا أعضاء بالجزيرة، ومنهم الروائية الشهير أوليفيا مانيننج. وبعد تولى الرئيس جمال عبدالناصر حكم مصر، تغيرت سياسة البلاد تجاه الأجانب المقيمين، فتغير جمهور النادى. وصار الرئيس وأبناؤه أعضاء فيه. وبالطريقة التى أخذ بها النظام الناصرى من الأملاك الكثيرة للأثرياء ليمنح جزءا منها لغيرهم، اقتطعت الحكومة وقتها جزءا من أراضى نادى الجزيرة لتمنحها إلى النادى الأهلى، تم اقتطاع نصف مساحة نادى الجزيرة لتحويلها إلى مركز شباب، وفى عام 1952 كان التحول الأهم، وهو صدور قرار من الجمعية العمومية للنادى باقتصار العضوية على المصريين، ليصير النادى إلى عكس ما بدأ عليه. وفى عهد عبدالناصر أيضا تحولت مدرجات ساحة سباق الخيل التى يشتهر به النادى من الخشب إلى الخرسان. وانقلبت «الكوشة الملكية» إلى حديقة للشاى. وفى ملعب الجولف، هبطت الطائرة التى حملت جثمان الرئيس الراحل، قادمة من قصر الرئاسة، قبل أن يتم تشييع جنازته، ليصبح فى كل بقعة شهيرة بالجزيرة ذكرى تربطها بالضباط الأحرار. وكان لنادى الجزيرة نصيب من بصمات الرئيس أنور السادات، بداية من كونه أشهر رواد حمام السباحة بالنادى، انتهاء بسعى مجلس إدارة نادى الجزيرة لدى السيدة جيهان السادات لاستعادة الأراضى التى اقتطعها النظام الناصرى لصالح مركز شباب الجزيرة المجاور للنادى، مرورا بكون غالبية المبانى المحيطة من فنادق الخمس نجوم وبرج القاهرة هى مواليد فترة حكم السادات، الذى اقتطع هو أيضا جزءا من أراضى النادى، لبناء طريق سريع! رغم ذلك ظلت علاقة نادى الجزيرة جيدة جدا مع نظام السادات، حتى إنه عقب اغتياله أغلق النادى أبوابه أسبوعا كاملا حدادا على الرئيس. أما اليوم، فى العصر الذى تسعى فيه مصر للاحتفاظ بعلاقات متينة مع الغرب عموما والولايات المتحدةالأمريكية خصوصا، كان نادى الجزيرة هو المكان المختار للرئيس باراك أوباما خلال زيارته الأولى لمصر فى يونيو الماضى، ولم يقض أوباما سوى دقائق فى النادى لتغيير ملابسه الرسمية التى ألقى فيها خطابه بأخرى تناسب جولته فى الأهرامات. وفى الوقت الحالى الذى تضيق فيه القاهرة بسكانها، قرر نادى الجزيرة افتتاح فرع جديد له فى الشروق ومدينة 6 أكتوبر التى ازدهرت فى عصر الرئيس حسنى مبارك. الأربعينيات والألفية الثالثة حديقة الشاى هى المكان الذى شهد لقاءات اجتماعية مدبرة أسفرت عن عشرات الزيجات! والنادل فيها لايزال «سفرجى» لم يتحول إلى «ويتر» وظل محتفظا بملابس عامل الطعام كما يظهر فى الأفلام القديمة، بالجلباب والعمة البيضاء، لولا الحزام العريض حول وسطه! لا يبدو هذا الملمح غريبا على الأستاذ محمد الصاوى عضو مجلس إدارة النادى الذى لا ينكر أن «نادى الجزيرة ارتبط اسمه بالطبقة الارستقراطية، وهو لايزال يحمل بصماتها التى تخلق له خصوصية عن غيره من النوادى». فى الوقت نفسه لا ينكر الصاوى أن «الجزيرة» فى النهاية جزء من مجتمع يتغير، فمن الطبيعى أن تطال النادى بعض المتغيرات المجتمعية الطبيعية «ما يظهر فى النادى من مشكلات لا يختلف عما هو موجود بالفعل خارجه، وحتى نوعية الأسر وسلوكياتها ومتطلباتها أصبحت ذات طابع عصرى». و«السفرجى» الذى برع فى تقديم «سكالوب» اشتهر به النادى، ربما لا يستطيع أن يعد للأعضاء طعاما سريعا كالذى طلبته هذه الطفلة من أبيها «بابى! عايزة دبل تشيز برجر وأنيان رينجز وكوك»، لهذا الغرض افتتح مطعم أمريكى شهير للأكل السريع فرعا له فى نادى الجزيرة بمنطقة «البرجولة» التى يلتقى فيها المراهقون وطلاب الثانوى. وغيره هناك الكثير من محال وأكشاك الطعام والحلوى والآيس كريم والعصائر، حتى الكوافير الحريمى الشهير افتتح فرعا له بالنادى بجوار محل آخر، لا يفصلهما إلا محل ثالث يبيع الأدوات الرياضية، وبالقرب منهم صيدلية يتوافر لديها أنواع مختلفة من كريمات الشمس والمسكنات وأشياء كثيرة استقرت فى هدوء على الأرفف، لتجاورها فى المحل الملاصق نظارات شمسية لأحد المحال المعروفة. فى المقابل لا يرحب تيار من أعضاء النادى القدامى بهذا الطابع التجارى الذى تسلل إلى جزيرتهم. وهذا العام حاولت سلسلة شهيرة للحلوى افتتاح كشك لها فى حديقة الأطفال إلا أن الأمهات فى النادى رفضن ذلك ووقعن عريضة تطالب بنقل هذا الكشك، دفاعا عن «أصول» تربيتهن للأطفال التى لا يصح فيها وجود الحلوى أمامهم طول وقت اللعب! فالتزام «الأصول» بالنسبة لقدامى الأعضاء هو مؤهل جدارة الشخص بالانضمام لأهل «الجزيرة»، خصوصا هؤلاء الأعضاء الذين شهدوا النادى فى الستينيات أو من عاش خارج مصر لفترة فلم يشهد تغيرات المجتمع التى تركت آثارها على الجزيرة، ومنهم مدام إيمان التى تقول فى استنكار شديد: «اليوم هناك من لا يعرف كيف يستخدم مرافق النادى... فى كل يوم آتى هنا أجد شخصا يرتدى حذائه ويمشى على الحمام»! وأسف مدام إيمان على هذه المخالفات مضاعف، لأنها تحدث فى منطقة الليدو، أشهر معالم النادى. والليدو عبارة عن حمام سباحة للكبار ومبنى مواجه له، كان مجلسا للسياسيين والأصدقاء من كبار السن والشباب. وإذا تصفحت المجلة التى يصدرها نادى الجزيرة تستشعر حساسية الأعضاء تجاه أى ممارسة تجرح فخامة المكان وعراقته. ففى الجزء المخصص للشكاوى تجد استنكار الأعضاء يتراوح بين ركن سيارة على الرصيف أو تكدس قطع أخشاب أمام بدروم أحد المبانى، بل إن أحدهم التقط صورة لكتابة على أحد الحوائط وتساءل مستنكرا : «من ارتكب هذه الجريمة؟!» فكل ذلك فى حقيقته، دفاع عن شخصية النادى التى باتت محاصرة بمتغيرات مختلفة طالت المجتمع. زوار الصباح والمساء «ملامحه تجذبك إليه، إلا أن الذى يراه لفرط أناقته ومشيته المرسومة وحركته المهذبة المبالغ فيها قد يحكم عليه بأنه من هذا النوع من الشبان الفارغين، كان هذا هو حكمى عليه وأنا أراه من بعيد فى نادى الجزيرة»، بهذه الكلمات وصف الكاتب إحسان عبدالقدوس إحدى الشخصيات فى مجموعته «إمرأة فى خدمتك»، لكنك اليوم لا تجد كثيرا من أشباه هذا الشاب! ففى النهار معظم الرواد من كبار السن والأمهات اللائى اصطحبن أطفالهن لقضاء اليوم بالنادى، وبالمساء تجد «الجزيرة» مزدحمة بقدامى وجدد الأعضاء، قادمين لتوصيل أطفالهم إلى تمارين الرياضات المختلفة. وطوال الوقت تجد الأجانب الكبار منهم والشباب، ومعظمهم من الدبلوماسيين المقيمين فى مصر. وإذا فتشت عن الشاب الذى كتب عنه عبدالقدوس، سترى شابا يتحدث فى هاتفه المحمول بيد وبيده الأخرى يأكل البيتزا حول منطقة الليدو، ومُسِنًا يهرول فى المضمار، فى هذا المضمار توفى الصحافى الكبير جلال الدين الحمامصى! وهنا وهناك سيدات بشعور طويلة وقصيرة سوداء وشقراء ومصبوغة أو يلفها حجاب، ووجوه تعلوها آثار السن أو المساحيق أو يغطيها النقاب. «كل يوم خناقات وألفاظ... تعالى اسمعى الخناقات واللى بيتقال فيها!» تقول هبة ذلك فى امتعاض ممزوج بأسف، وترجع سبب ذلك إلى دخول النادى من تسميهم «الأغنياء الجدد»، وتصر على أنها تعنى الجانب السلبى لهذا التعبير! حيث ترى هبة التى اشترك جد أبيها بالنادى أن أعضاء من خلفية اجتماعية وثقافية مختلفة عن أعضاء الجزيرة القدامى تمكنوا من نيل العضوية لمجرد قدرتهم على دفع رسوم الاشتراك، لكن ثقافتهم وسلوكهم لا يسمح باندماجهم مع جو النادى العريق. ففى السبعينيات مثلا شهدت «الجزيرة» مشادة اعتبرها الإعلام وقتها نقطة تحول فى سلوكيات رواد النادى، وانعكاسا لتدهور أخلاق الشباب، ففى مبنى الليدو جلست مجموعة من الشباب تشرب البيرة، وأسرفت فى ذلك لدرجة تطاولها على أحد أعضاء النادى من المسنين، ووجه الشباب سبابا جارحا له لدرجة أصابته بأزمة قلبية توفى على أثرها. وتسببت الحادثة فى استنكار واسع، دفع الرئيس السادات إلى إصدار قرار بمنع تقديم «البيرة» فى النادى! سارة تنظر للأمور بواقعية، وتقول: «النادى مثله مثل المجتمع، ذاك تغير وهذا يتغير بنفس الشكل»، وتستطرد الأم الشابة التى ورثت عضوية «الجزيرة» عن جدها: «انظرى إلى أحفاد الباشوات اليوم، ستجديهم يعيشون كأى شخص فى هذا العصر، لا يلتزمون نمطا معينا، وهم أيضا يستخدمون ألفاظا غير مقبولة تفرضها ثقافة المجتمع الشائعة»، مع ذلك لا تنكر سارة أن النادى يتردد عليه تركيبة غير متجانسة، ثم توضح: «التغيرات التى طرأت على المجتمع جعلت الفرد بدلا من أن يصطحب أبناءه للنادى يتركهم للسائق والمربية. هؤلاء الأشخاص الذى تشعرين باختلافهم عن الأعضاء هم السائقون أو المربيات». ووفقا لقواعد العضوية مسموح لكل أسرة باصطحاب اثنتين فقط من المربيات، على أن تلتزم بارتداء زى خاص بها فوق ملابسها، خصوصا فى حديقة الأطفال. وفى أنحاء «الجزيرة» تنتشر لافتات «ممنوع جلوس السائقين فى الطريق» و«ممنوع تواجد السائقين فى حديقة الأطفال». منى تقول من واقع ترددها المنتظم على النادى إن سلوك الأعضاء الحاليين انعكاس للمجتمع خارج حدود النادى: «انتشار الحجاب فى مصر ظهر فى شكل عضوات النادى، بمن فيهن القدامى، وزيادة الالتزام الدينى عموما». وفى «جزيرة النادى» مصلى وجامع له منبر، يشهد إقامة صلاة التراويح خلال شهر رمضان، التى يحضرها كثيرون وتمتد ليتلو الإمام يوميا جزءا كاملا من القرآن الكريم، هناك أيضا دروس لتحفيظ القرآن الكريم فى المسجد نفسه. «ليس كلية الشرطة»! يؤكد الأستاذ محمد الصاوى أن مجلس إدارة النادى يدقق فى قبول الأعضاء الجدد، ويقبل عددا محددا كل عام، ويرفض منح عضويته لمن ثبت تورطه فى جريمة مخلة بالشرف. وتكلفة العضوية الجديدة بنادى الجزيرة 130 ألف جنيه، تجعله أغلى اشتراك نادٍ فى مصر. وخلال عام 2007 الذى شهد رفع قيمة الاشتراك من 100 ألف إلى الرسوم الحالية انضمت 10 أسر فقط إلى العضوية. لكن الزيادة الطبيعية لأعضاء النادى، بسبب توريث العضوية، رفع أعداد رواده إلى حوالى 30 ألف شخص، الأمر الذى يظهر فى طابور السيارات الممتد بطول النادى. «الأعضاء الجدد أو القدامى... العضوية بالنسبة لأى نادٍ هى مسألة مالية!» هكذا قالت عاليا وهى فى طريقها إلى حمام الغطس حيث يجلس أحد أقاربها من أعضاء النادى الذى يصحبها معه فى كل فرصة. ثم تؤكد أن أعضاء الجزيرة لهم طابع خاص، من كونهم أبناء طبقة تسميها «راقية» وهو ما ينعكس على سلوكهم. نمر فى الطريق على حديقة الأطفال فتعلّق: «هم مثلا يعاملون أطفالهم بشكل جيد ويحضرون إليهم مربيات» تنظر لأجنبيات ومصريات يراقبن الأطفال خلال لعبهم. نصل إلى حيث قصدت عاليا وأسألها عن إقبالها للإنضمام للنادى إذا سمحت لها ميزانيتها بذلك،فترد بالإيجاب وهى تضحك، متجاهلة أى اختلاف تراه بينها وبين رواد الجزيرة «أنا مش هادخل كلية الشرطة عشان يكون دخول النادى ليه شروط فيا!». مروة هى أيضا ليست من الأعضاء، لكنها تتردد من وقت لآخر مع صديقتها عضوة النادى، ولا تفضل أن تكون من أبناء «الجزيرة» مبررة: «أشعر هنا أننى شخص دخيل، هذا يعطينى إحساسا بعدم الارتياح»، ومروة عضوة بنادى الصيد الذى تحب التردد عليه أكثر من الجزيرة، وتعتبر أن «الفارق بين نادى الجزيرة وأى ناد آخر هو الفرق بين حى الزمالك وحى المهندسين !... بين شىء (عريق) وآخر (فاخر)». التواجد فى نادى الجزيرة لايزال يحمل طابعا خاصا، تفهم معه معنى اللافتة التى المرفوعة على باب الدخول «نادى خاص»، ويوم فى «جزيرة النادي» يشعرك وكأنك فى مجتمع فتح أبواب الدخول وما لبث أن أغلقها، فأصبحت أفكاره متصارعة بين القديم والوافد!