النشرة الصباحية من «المصري اليوم».. انخفاض الذهب و48 ساعة قاسية في الطقس والكونجرس يوافق على مساعدات لإسرائيل    «زراعة الإسكندرية»: ذروة حصاد القمح الأسبوع المقبل.. وإنتاجية الفدان تصل ل18 أردبًا هذا العام    نمو الطلب على إنتاج أيه إس إم إنترناشونال الهولندية لمعدات تصنيع الرقائق    في انتظار موافقة بايدن.. «الكونجرس» يقر مساعدات جديدة لإسرائيل وأوكرانيا ب95 مليار دولار    مفوض أوروبي يطالب بدعم أونروا بسبب الأوضاع في غزة    موعد مباراة الحسم بين الأهلي ومازيمبي في دوري أبطال إفريقيا والقناة الناقلة والمعلق    هل يكون الشوط الأخير؟.. الأهلي يفاجئ علي معلول    قبل 8 مايو.. ما شروط الأعذار المرضية قبل بدء امتحانات نهاية العام 2024؟    مصطفى الفقي: مصر ضلع مباشر قي القضية الفلسطينية    شعبة الدواجن: انخفاض البانيه 70 جنيها.. وتراجع كبير بأسعار المزرعة    مطالبات بفتح تحقيق دولي بشأن المقابر الجماعية المكتشفة في غزة    الكونجرس يقر مشروع قانون يحظر «تيك توك» بالولايات المتحدة    طقس اليوم.. شديد الحرارة نهارا مائل للحرارة ليلا والعظمى بالقاهرة 41    البنتاجون: بدء البناء في ميناء مؤقت لإيصال المساعدات لغزة قريبا    عاجل - يسكمل اقتحامه غرب جنين.. قوات الاحتلال داخل بلدة سيلة الظهر وقرية الفندقومية    موازنة النواب: تخصيص اعتمادات لتعيين 80 ألف معلم و30 ألفا بالقطاع الطبي    اليوم، فتح متحف السكة الحديد مجانا للجمهور احتفالا بذكرى تحرير سيناء    بعد وصفه بالزعيم الصغير .. من هم أحفاد عادل إمام؟ (تفاصيل)    قناة «CBC» تطلق برنامج «سيرة ومسيرة» الخميس المقبل    خطر تحت أقدامنا    مصطفى الفقي: كثيرون ظلموا جمال عبد الناصر في معالجة القضية الفلسطينية    نتائج مباريات ربع نهائي بطولة الجونة الدولية للاسكواش البلاتينية PSA 2024    إصابة العروس ووفاة صديقتها.. زفة عروسين تتحول لجنازة في كفر الشيخ    رئيس البنك الأهلي: «الكيمياء مع اللاعبين السر وراء مغادرة حلمي طولان»    موعد مباراة ليفربول وإيفرتون في الدوري الإنجليزي والقنوات الناقلة    أيمن يونس: «زيزو» هو الزمالك.. وأنا من أقنعت شيكابالا بالتجديد    حظك اليوم وتوقعات الأبراج الأربعاء 24/4/2024 على الصعيد المهني والعاطفي والصحي    بقيادة عمرو سلامة.. المتحدة تطلق أكبر تجارب أداء لاكتشاف الوجوه الجديدة (تفاصيل)    بالأسماء.. محافظ كفر الشيخ يصدر حركة تنقلات بين رؤساء القرى في بيلا    موعد مباراة مانشستر يونايتد وشيفيلد في الدوري الإنجليزي والقناة الناقلة    تعيين أحمد بدرة مساعدًا لرئيس حزب العدل لتنمية الصعيد    الأزهر يجري تعديلات في مواعيد امتحانات صفوف النقل بالمرحلة الثانوية    مسئول أمريكي: خطر المجاعة «شديد جدًا» في غزة خصوصًا بشمال القطاع    إعلام عبري: مخاوف من إصدار الجنائية الدولية أوامر اعتقال لمسؤولين بينهم نتنياهو    3 أشهر .. غلق طريق المحاجر لتنفيذ محور طلعت حرب بالقاهرة الجديدة    أداة جديدة للذكاء الاصطناعي تحول الصور والمقاطع الصوتية إلى وجه ناطق    القبض على المتهمين بإشعال منزل بأسيوط بعد شائعة بناءه كنيسة دون ترخيص    مصرع سائق سقط أسفل عجلات قطار على محطة فرشوط بقنا    نشرة التوك شو| انخفاض جديد فى أسعار السلع الفترة المقبلة.. وهذا آخر موعد لمبادرة سيارات المصريين بالخارج    بعد 3 أيام من المقاطعة.. مفاجأة بشأن أسعار السمك في بورسعيد    من أمام مكتب (UN) بالمعادي.. اعتقال 16 ناشطا طالبوا بحماية نساء فلسطين والسودان    تونس.. قرار بإطلاق اسم غزة على جامع بكل ولاية    فريد زهران: دعوة الرئيس للحوار الوطني ساهمت في حدوث انفراجة بالعمل السياسي    فريد زهران: الثقافة تحتاج إلى أجواء منفتحة وتتعدد فيها الأفكار والرؤى    ما حكم تحميل كتاب له حقوق ملكية من الانترنت بدون مقابل؟ الأزهر يجيب    ‏هل الطلاق الشفهي يقع.. أزهري يجيب    هل يجوز طلب الرقية الشرعية من الصالحين؟.. الإفتاء تحسم الجدل    حكم تنويع طبقة الصوت والترنيم في قراءة القرآن.. دار الإفتاء ترد    رغم فوائدها.. تناول الخضروات يكون مضرا في هذه الحالات    عصام زكريا: القضية الفلسطينية حضرت بقوة في دراما رمضان عبر مسلسل مليحة    تنخفض 360 جنيهًا بالصاغة.. أسعار الذهب في مصر اليوم الأربعاء 24 إبريل 2024    أجمل مسجات تهنئة شم النسيم 2024 للاصدقاء والعائلة    قد تشكل تهديدًا للبشرية.. اكتشاف بكتيريا جديدة على متن محطة الفضاء الدولية    طريقة عمل الجبنة القديمة في المنزل.. اعرفي سر الطعم    كم مرة يمكن إعادة استخدام زجاجة المياه البلاستيكية؟.. تساعد على نمو البكتيريا    موعد مباريات اليوم الأربعاء 24 أبريل 2024| إنفوجراف    مع ارتفاع درجات الحرارة.. دعاء الحر للاستعاذة من جهنم (ردده الآن)    عاجل- هؤلاء ممنوعون من النزول..نصائح هامة لمواجهة موجة الحر الشديدة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



نوبار باشا : إسماعيل كان يقتصر اهتمامه الجاد على أراضيه ومزارعه التى اتسعت مساحتها (3-3)
نشر في الشروق الجديد يوم 24 - 09 - 2009

بعد أن عرضنا فى الحلقتين السابقتين مذكرات نوبار باشا أول رئيس وزراء لمصر عن محمد على وإبراهيم باشا وعباس وسعيد، وأصابنا الانبهار والدهشة من مستوى تلك المذكرات خاصة الترجمة العربية الكاملة للمذكرات الصادرة حديثا عن دار الشروق التى سطرها رجل سياسى وثقافى من الدرجة الأولى، نجىء اليوم لعرض مذكراته عن الخديو إسماعيل الذى أخذ النصيب الأكبر من المذكرات، ففترة إسماعيل هى الجزء الحقيقى والأهم من المذكرات، وهو ما أكده المفكر الكبير ميريت بطرس غالى فى ملاحظاته على المذكرات، وهو ما أكدته أيضا الدكتورة لطيفة سالم فى دراستها «استدعاء الماضى»، إذ تقول: «إن إسماعيل يستحوذ على خمسة وعشرين فصلا.. وبديهى أن ذلك يرجع إلى عدة أسباب، منها أن تلك الفترة قد تم فيها صياغة المشروع التحديثى، وأن نوبار قد بلغ مرحلة من النضج والخبرة مما كان له الأثر فى إسهامه بدور فعال فى توجيه الأحداث».
ولابد لنا أن نعرف أن وضع نوبار مع إسماعيل (1863 1879) لم يختل؛ فمنذ البداية راح الوالى يستشيره، ليس هذا فقط، وإنما رأى فيه المعبر عن أفكاره، والأداة المنفذة لها. ومن هنا وجد صاحب المذكرات حسب دراسة «استدعاء الماضى» أن الفرصة قد حانت ليترجم الإصلاح المنشود كما يراه. ومضت مهامه الصعبة تأخذ سبلها. فعندما تعقدت مسألة قناة السويس، حاول معالجتها، لكنه لم يحصد النقاط لصالحه كما أراد، وحين صدر التحكيم وجده ظالما وانتقده. وسعى فى الحصول على المميزات التى ترفع من شأن مصر، وتمثلت فى الفرمانات المتتالية لإسماعيل. وأقلقته مسألة السخرة، وتأزم من استخدامها فى كثير من الأعمال، ولمسها عن قرب عندما تولى إدارة سكة الحديد، حيث عايش بؤس الفلاحين الذى سُخروا وتركوا زراعاتهم وهجروها، وكانوا فى الوقت نفسه مطالبين بدفع الضرائب. وأترك الآن المساحة لنوبار باشا ليحدثنا عن الخديو إسماعيل المثير للجدل والحيرة، على أن نطرح بعض الأسئلة الملحة حول نوبار باشا ومذكراته فى نهاية هذه الحلقة.
إسماعيل البقال
بدأ نوبار مذكراته عن الخديو إسماعيل بقوله: «كنت بالكاد أعرف الوالى الجديد لأن العلاقة كانت نادرة بين الأمراء والموظفين، حيث كان هناك كثير من التحفظ فى العلاقات ما بين الطرفين. ويمكننى القول: إنه كان من الضرورى أن يكون الأمر كذلك. كنا نعرف فقط أن إسماعيل يقتصر اهتمامه الجاد على أراضيه ومزارعه التى اتسعت مساحتها وامتدت. كما اقتصرت علاقاته مع الأوروبيين على بيع منتجات أراضيه لهم وتبادل بعض الأعمال معهم، وكان الجميع يتحدثون عما يسود دائرته من نظام. صحيح أن «سعيد» كان يعامل إسماعيل كأنه بقال وكان يقول دائما: «سوف تفتقدوننى عندما يصبح واليا عليكم». لكن «سعيد» أيضا كانت له طرائف كثيرة منها أنه كان لا يبالى بالمالية أو الاقتصاد فى الدولة ويرى أنها عمل لا يليق بأمير بل عمل يصلح فقط من أجل الموظفين. كان من الطبيعى إذن أن يتفوه بمثل هذه الكلمات التى تعبر عن الازدراء عندما يتحدث عن هؤلاء الذين كان من الممكن أن تكون لديهم مثل هذه الاهتمامات التى كانت مصر بالتحديد فى حاجة إليها.
عندما سافرت إلى القاهرة لتقديم فروض الولاء والطاعة للوالى الجديد مساء نفس اليوم الذى تسلم فيه السلطة، صرح لى إسماعيل عن فكرة كانت تراوده منذ عهد سعيد ألا وهى تقسيم الأزبكية وبيعها. كانت الأزبكية حديقة كبيرة فى القاهرة أصلها بحيرة قديمة تم تجفيفها وحمايتها من مياه الفيضان، وكان تصطف على جانبيها الأشجار الرائعة التى زرعها محمد على. كانت جموع غفيرة من الشعب تتجمع فى هذه الحديقة مساء كل يوم لتتنزه وتشرب القهوة أو البوظة على أنغام الموسيقى الشرقية التى قد تكون بالنسبة للأذن الأوروبية نشازا لكنها مع تأثير القهوة والبوظة والأشجار تحت سماء القاهرة بنجومها كانت تعكس دائما الجو الشرقى فى مشهد حالم يأخذ بالألباب بعيدا عن الواقع، وكلها أمور لا يستطيع أن يفهمها سوى هؤلاء الذين يحسون مثل هذا البهاء والسحر.
أمر غريب
ولأن نوبار الذى بدا واضحا ثقل خبرته ونضجه السياسى أيام إسماعيل كان يضع أمنيات وتصرفات إسماعيل تحت المنظار دائما، لذلك نلاحظ قوة التعليقات ودوام التساؤل حول الخديو، وهذا يتضح فى تعليقات نوبار على اقتراح إسماعيل بيع حديقة الأزبكية، إذ يقول: «بدت لى فكرة قطع الأشجار التى زرعها محمد على وراقب نموها بكل حب لتحل محلها العمائر والمنازل القبيحة من أجل جمع المال وهذا كان أمرا غريبا لم يكن من الممكن توقعه. لم أرد على إسماعيل بشىء، لكننى لم أستطع أن أمنع نفسى من التساؤل: هل كان من حقه أن يقسم ويعرض للبيع حديقة عامة ومكانا للترويح عن شعب بأكمله؟ حقيقى لم يكن فى نفسى شىء أقوله، لكن أصحاب المنازل التى كانت تحيط بالحديقة ألم يكن من حقهم فى هذه الحالة أن يشكوا ويطالبوا بالتعويضات ضد هذا الإجراء الذى من شأنه أن يضيع قيمة منازلهم التى تطل على الحديقة؟ وعلى الرغم من أنه لم يكن قد مضى على وصول إسماعيل إلى الحكم عدة ساعات فقط، فإنه بدا لى أنه كان مشغولا بعدة أمور أخرى».
الوظيفة أفضل من الأرض
عن تلك الأمور الأخرى يذكر نوبار أن هذه الأمور التى شغلت إسماعيل كانت تتعلق بحالة الموظفين الذين نالوا مخصصات من الأراضى بدلا من المعاش. ويستفيض نوبار حول هذه النقطة فيؤكد: «كان إسماعيل يجهل أننى كنت من أشار بهذه الفكرة على سعيد. كان معظم الموظفين سعداء بوضعهم الجديد، فبدلا من معاش كان يصرف لهم بصفة غير منتظمة، أصبحت لديهم أراضٍ بإمكانهم التعيش منها. صحيح أن بعضا منهم كان غير مستريح لهذا القرار؛ لأن الأرض التى خُصصت له بعد التقسيم لم تكن تربتها جيدة، إلا أن هذا الأمر كان ينطبق على قلة منهم. تحدث إسماعيل معى عن الموظفين جميعا بوصفهم ضحايا قرار فردى، وقال لى إنه ينوى تصحيح هذا الظلم الواقع عليهم بشكل نهائى بقرار إعادتهم جميعا إلى الخدمة وإعطائهم وظائف فى الإدارات، وبالتالى وفى ظل هذه القرارات، كان يجب إعادة الأراضى التى تملكوها إلى الحكومة. اعتقدت فى البداية ومن الطريقة التى عرض بها المسألة أنه مهتم بالموظفين بحق لأننى كنت قد عرفت المصريين بما فيه الكفاية كى أعلم أن جميع الموظفين ستكون فرحتهم كبيرة بعودتهم إلى الخدمة حتى لو كان هذا معناه ترك أراضيهم.
إن المصرى بطبعه موظفا، بل إن الوظيفة تمثل بالنسبة له السلطة، وكنت فى ذلك الوقت أعرف عضوا فى أسرة أحد العمد كان مستعدا أن يقبل بكل ترحاب أن يبادل مركزه كعمدة منتظر ويضحى بجزء من ثروته كى يشتغل فى خدمة الحكومة ويحصل على وظيفة حتى لو كانت صغيرة، لكنها ستسمح له بتوسيع نفوذه وتأثيره بشكل أوسع عما كانت عليه فى قريته الصغيرة. كنت حينذاك بعيدا جدا عن توقع ما كان إسماعيل يخفى من وراء هذا القرار. وسرعان ما تبينت كل شىء عندما بدأ التنفيذ بعد عودتنا من القسطنطينية حيث أعيد بعض الذين كانوا قد أحيلوا إلى المعاش أو على الأقل هؤلاء الذين كانوا يتمتعون برضاه وحمايته. أما باقى الموظفين فلم يتكلم أحد عنهم، وأعيدت الأراضى السيئة إلى الحكومة أما الجيد منها فتم ضمها إلى خاصة الوالى الذى وسع بذلك من ممتلكاته على حساب الموظفين.
تفاصيل مهمة
وحتى يوضح نوبار للقارئ السبب فى سرد كل هذه التفاصيل، يقول: «هذه التفاصيل لها أهميتها لمعرفة من الذى فى النهاية كان سببا فى تحول مصر، هل تصرفات محمد على وطريقته فى التفكير هما اللتان جلبتا على مصر هذا الخلط فى الأفكار ووضعتنا فى موقف نعانى الآن من أجل الخروج منه؟ أم شخصية سعيد وأسلوبه هما اللذان قلبا الأوضاع فى مصر رأسا على عقب؟ أم شخصية إسماعيل ونهجه فى الإدارة؟ إن هذه التفاصيل الصغيرة والأحداث التى بالنسبة لكثيرين تُعدّ لا أهمية لها مثلت بالنسبة لى المؤشر الذى يمزج بين الرجال وشخصياتهم وتساعد على فهم تكوينهم. لذا فإن مثل هذه الأحداث ظلت محفورة فى ذاكرتى بشكل أعمق من غيرها التى من الممكن أن تمثل أهمية أكبر نسبيا.
وفى سياق نفس هذا الترتيب فى الأفكار، تذكر نوبار حدثا خطر على باله، ففى اليوم التالى لولايته، أرسل إسماعيل فى طلبه، وكانت الساعة العاشرة والنصف صباحا وقال له: «فى خلال نصف ساعة، سوف أستقبل أعضاء الهيئة الدبلوماسية. أعد لى خطبة قصيرة. قال هذا وأخذنى من يدى بمودة زائدة وذهب بى إلى صالون صغير يمكن القول إنه كان حجرة للعمل لأن المكتب كان عليه حبار جف الحبر الذى بداخله. لم أكن قد تمكنت بعد من إدراك الموقف، حفل استقبال قنصلى؟ لم يكن هذا أبدا من تقاليدنا ولا عاداتنا. كان القناصل حتى فى عهد سعيد لا تتم دعوتهم فى شكل هيئة، بل كان قنصل يذهب إلى القصر بصفته الشخصية من أجل تقديم التهنئة للوالى».
ويضيف نوبار: «يبدو أن الأبهة وتقاليد المراسم المتبعة فى قصور أوروبا استهوت إسماعيل، كنت وسط كل هذه التساؤلات أنتظر منه أن يعطنى فكرة من أجل الخطبة أو حتى يشير إليها بوجه عام. ولا كلمة قالها لى ويبدو أنه كان بهذا يعنى أنه علىّ أنا كتابة الأفكار وصياغتها. فلم يكن يعرف إلا أن فى مثل هذه المناسبات كان حكام أوروبا يلقون بكلمة أمام الهيئات القنصلية وكان يريد أن يلقى هو أيضا خطبة خاصة به. كتبت ما خطر على بالى ولم تكن سوى تعبير عما يدور فى ذهنى دون أن أشعر تكلمت عن رغبته الأكيدة فى القضاء على السخرة وإعطاء العلاقات بين الأهالى والأجانب الأولوية وتوفير أرضية أكثر جاذبية لها. وإلى جانب هاتين الفكرتين كتبت بعض العبارات المعتادة عن الاقتصاد ونظام المصروفات، وكتبت عن فكرة جديدة كانت تتردد فى تلك الأيام بشأن إصدار قانون مدنى جديد، ثم كتبت عن تطوير التعليم. كنت أنتظر منه أن يستوضح عن بعض النقاط أو يسألنى أن أشرح له نقطة ما لكن لم يحدث شىء من هذا».
طريقة فى الإقناع
بعد ذلك ينتقل نوبار إلى نقاط أكثر سخونة يكون فيها نوبار صانع الأحداث وليس مجرد سامع أو رائى وهى التى تتعلق بتوجه إسماعيل من أجل الحصول على فرمان الوراثة على الولاية إلى القسطنطينية وذهاب نوبار لفرنسا لمنع اعتراضها على ذلك وبالفعل صدر الفرمان، فضلا عن مجهودات نوبار لموافقة الدول صاحبة الامتيازات على إقامة نظام قضائى مختلط، يقتصر نظره على القضايا المدنية والتجارية بين المصريين والأجانب وبين الأجانب المختلفى الجنسية، وتحدّدت نسبة القضاة الأجانب فى المحاكم. وحاول وقتها الخديو عرقلة المشروع، لكن نوبار أحبط تخطيطه، ومن الملفت للنظر كما تذكر د.لطيفة سالم أنه بعد أن كان يتخذ أى إجراء يخبر الخديو حتى يضعه أمام الأمر الواقع.
ثم تتحول الأحداث حتى يبعد الخديو إسماعيل نوبار عن مصر لأنه أصبح يشكل عقبة أمام الخديو، وطلب منه مغادرة مصر وألا يعود إليها، فسافر إلى فرنسا ومكث بها فترة، تضخمت خلالها الأزمة المالية يذكر أنه تم بيع أسهم الخديو إسماعيل فى القناة للحكومة البريطانية وتتابعت شدة الإجراءات الأجنبية، وعندئذ احتاج إسماعيل إلى نوبار، فطلب منع العودة لإنقاذ ما يمكن إنقاذه. وتبنى صاحب المذكرات اقتراح تأسيس نظارة مسئولة، ولم يجد مانعا، كما تؤكد سالم، من أن ينضم إليها خبيران إنجليزى وفرنسى، وضغط على الخديو ليوافق؛ لأن معنى وجود مجلس نظار له اختصاصاته هو سحب سلطات منه. وكانت لنوبار طريقة إقناع فى تعامله مع الدولة العثمانية وولاة مصر، ارتكزت فى أحيان كثيرة على مس الوتر الإسلامى.. فمثلا يتحدث مع إسماعيل عن الشورى فى الإسلام، وأنه سوف يحكم مع مجلس النظار ومن خلاله، والنتيجة أنه شكّله فى 28 أغسطس 1878.
كانت دائما الرقابة
وفى سطور المذكرات الأخيرة يؤكد نوبار: «كنت أريد تغيير الرقابة الأجنبية التى فرضتها علينا القوى العظمى بإدارة أخرى نخضع لها بأنفسنا، جعلت المراقبين وزيرين، كنت أريد وزراء مصريين ولكنهم فرضوا علىّ الأجانب. كانت دائما الرقابة، دائما حكومتان تحكمان حكومة ثالثة وهذه ليست فكرتى التى فشلت وإنما هى فكرة الحكومة الفرنسية. أعتقد أننى انتهيت هكذا من مسألة كتابة ما يتعلق بحياتى العملية ويتبقى لى بعد ذلك أن أكتب بعض الأشياء؛ ردا على تلغراف أرسله ولسون، أصرت الحكومة البريطانية وتبعتها الحكومة الفرنسية إلى إعادتى لمنصب رئيس مجلس النظار، وفهم ولسون وبخاصة دى بلينيير أخيرا أننى أنا من كنت أقف حائلا بينهم وبين الوالى وبرحيلى كانوا سيجدون أنفسهم وجها لوجه مع سموه، لكن هذا الأمر لم يعنهم. رفض الخديو بشكل قاطع إعادتى وينحاز فيفيان وجودو إلى صفه وحدث تغيير إدارى، ولم يحصل الوالى على الرئاسة التى كان يزعم أنه يريد ممارستها؛ لأنها أعطيت إلى ابنه الكبير ولى العهد الأمير توفيق».
ويكمل نوبار: «كنت دائما أبحث عن معرفة علاقة الوالى بالضباط والمشاعر التى أثارت حفيظتهم يقصد قرار تسريح أعداد من ضباط الجيش بلغت 2500 ضابط لضغط المصروفات لم أستطع التوصل أبدا إلى معرفة الأمر تماما. عموما أعتقد أن المشاعر كانت دائما أقوى ضد الوزيرين الأجنبيين اللذين استفادا من الدائنين الأوروبيين وحرما الضباط وأسرهم من القليل من الموارد التى كانت تسد رمقهم، لكننى لاحظت أيضا أن من بينهم مجموعة بل أستطيع القول جماعة كانت تتهم الوالى بصفته السبب الأول والرئيسى لما يحدث من سوء. ويهيأ لى أن الوالى كان يشعر بهذه الأحاسيس المناهضة له، لكنه كان يحتفظ بكبريائه».
ويأتى قلم نوبار ليسجل الختام الذى يعكس قلقه على مستقبل مصر السياسى، طارحا عدة أسئلة: هل ستظل الحالة الراهنة إلى الأبد؟ أم أنها ستكون مجرد حالة مؤقتة؟
هل ستخضع مصر أو تُحتل كما فى الماضى بواسطة قوى أجنبية وسلالات أجنبية دائما ما انتهى بها الحال بأن تحتويها مصر؟. ويجيب نوبار قائلا: «لا أعلم.. لكن ما أعرفه هو أن مصر أصبحت أكثر من أى وقت مضى ضمن هذه المجموعة من الأمور التى اتفق الجميع على تسميتها «المسألة الشرقية»، كما رأى نوبار أن مصر مغلوبة على أمرها، ويشيد بشعبها، لكنه يشبهه بالطفل الوديع الذى يتحول فى لحظة إلى طفل مشاغب، ويُبين كيف استغل الغزاة هذا الشعب منذ القدم، ويُلوّح بما يفهم منه بأن الله على كل شىء قدير، أى بيده الخلاص. وهنا لاحظت الدكتورة لطيفة أن هناك لمسات دينية أسبغها نوبار على ما كتبه بين الحين والآخر، بما يعنى أن الله يلهمه الصواب ويسدد خطاه ويجعل له مخرجا.
أسئلة بعد القراءة
والآن وبعد هذه القراءات من صفحات المذكرات هناك علامات استفهام تفرض نفسها مثل: هل كان نوبار ذلك الرجل الذى أحب مصر وكان يعمل على مصلحتها؟ وهل هذه الصورة الوردية عنه والتى رسمتها مذكراته قد اسُتخدمت فيها اللمسات الناعمة؟
تقول د. لطيفة سالم: «من خلال قراءات تاريخ العصر، نخرج منها بأن شخصية نوبار التصقت بها السلبيات، بخاصة أن فترة إسهاماته فى الحياة السياسية تُمثل ذروة التدخل الأجنبى فى شئون مصر، وكما هو معلوم انتهى بالاحتلال البريطانى لها الذى عمل معه نوبار نحو خمس سنوات. والواقع أن شخصيته ارتبطت فى الخطاب الوطنى بأنه المعبر عن المصالح الإنجليزية، وعندما قامت الثورة الوطنية المعروفة بالعرابية (1881 1882) أسقطته من حساباتها تماما، واختارت شريف على أساس أنه من الأتراك الدستوريين. ولكن يجب أن يوضع فى الاعتبار أثناء محاولة الكشف عن الجانب الآخر من الشخصية ضرورة المعايشة الكاملة لها فى ضوء الظروف المحيطة بها وفى ظل ملابسات الفترة الزمنية». وذكرت الدكتورة القديرة لطيفة سالم ملاحظات مهمة حول نوبار نورد هنا بعضها مما تسمح له المساحة:
على رغم مما أقدم عليه محمد على بشأن جعل مصر دولة مدنية، مما انعكس على مسيحيى مصر، فإن الاتجاه الإسلامى الذى كاد يسود المجتمع جعل ظهور شخصية نوبار المسيحى والأرمنى لا تلقى القبول، مع أنه قد أطلق عليه لقب «أبوالفلاح» نظرا لتعاطفه معه إزاء ما كان يعانيه من الضرائب والسخرة، وذلك الغبن الذى وقع عليه نتيجة أحكام المحاكم القنصلية الجائرة. وهنا من الضرورى مراعاة شعور الانتماء للدولة العثمانية فيما يتعلق بمسألة الخلافة الإسلامية من ناحية، وعلاقتها السيئة بالأرمن من ناحية أخرى، وقد انعكس ذلك على المصريين عندما أمسك نوبار بزمام مناصب مهمة. حقيقة إن مصر مثلت بوتقة انصهرت فيها العناصر المختلفة، ولكن لابد من الإشارة إلى أن هناك استثناء تمثّل فى أولئك الذين شكلوا قوة اجتماعية تربعت على قمة السلم الاجتماعى وأغلقت على نفسها، وعملت من أجل مصالحها؛ وذلك لا ينطبق على من هم أدنى منهم الذين امتزجوا بالمجتمع.
لقد كان لنوبار رؤية نبعت من تكوينه وثقافته ومهامه داخل مصر وخارجها مما أكسبه الخبرات، ومن أحوال المجتمع التى درسها جيدا، وتوصل إلى أن مصر لم تزل فى مرحلة الطفولة التى لا تستطيع معها أن تكون دولة مستقلة.. وهو لا يعارض السيادة العثمانية عليها، وفى الوقت ذاته فقد رغب فى أن يتم ذلك دون تبعات مالية باهظة. ونظرا لمعارضته سلطة الحاكم الأوتقراطية التى عدها بيت الداء، رأى العلاج فى سلطة أجنبية تسقط الاستبدادية وتضبط الحكم، وتوّسم فيها خيرا، لكنه أدرك أخيرا أنها لم تكن كذلك.
عندما قبل نوبار التعاون مع سلطات الاحتلال، وأصبح رئيسا لمجلس النظار، أصر على ألا تكون هناك عناصر أجنبية فى نظارته، حيث استرجع ما سبق أن حدث له، كما أنه دخل فى مصادمات مع المسئولين الإنجليز لرغبته فى الحد من توغلهم فى الإدارة، مما تسبب فى الاستغناء عنه.. معنى هذا أنه لم يعارض الاحتلال، ولكنه أراد أن تكون له حرية التصرف فى إدارة نظارته، ولم تكن مسألة الاعتماد على المصريين بجديدة عليه، إذ آمن بضرورة تدريبهم على مختلف الأعمال التى يشغلها الأجانب.
أسباب وختام
وفى الختام يجب أن نذكر أن مذكرات نوبار باشا رغم أهميتها البالغة لم تترجم كاملة إلى العربية وإن كان قد تعرض لها بشكل مختصر د. أحمد عبدالرحيم مصطفى فى كتابه «عصر حككيان»، وكتاب «نوبار فى مصر» لنبيل زكى الذى قام بعرض المذكرات مستخدما طريقة الاختزال واللقطات السريعة على حد وصف د.لطيفة سالم.
ويجب الإشارة إلى أن مكتبة لبنان فى بيروت نشرت المذكرات عام 1983 ولكن باللغة الفرنسية التى كتب بها نوبار باشا وأرفقت معها مقدمة طويلة للمفكر ميريت بطرس غالى أوضح فيها أسباب تأخير نشر المذكرات بلغتها الأصلية كل هذه المدة منها أن نوبار كان يرغب فى نشر ما يرتبط منها بمحمد على وعباس الأول وسعيد، لكن الجزء الخاص بالخديو إسماعيل كان من الصعب نشره، فضلا عن أنه لم يرغب فى أن تُجزأ الخطابات والمذكرات، وانتهى الأمر بأنه وكل مهمة نشرها إلى ورثته، وبعد ربع قرن من كتابتها رأى الملك فؤاد أن الوقت لم يحن بعد لنشر هذه المذكرات، وكانت رغبة عدم النشر محل احترام أبناء وأحفاد نوبار. وأشار ميريت غالى إلى أنه بعد ثورة 1952 رأى أحفاد نوبار أن من السابق لأوانه الإسراع فى نشر هذه المذكرات، فمثل هذا الأمر سوف يعطى انطباعا بأن عائلة نوبار انضمت إلى قلب الانتقادات الموجهة إلى الأسرة الحاكمة المخلوعة.
ولكن اليوم المذكرات بين أيدينا مترجمة إلى العربية بالكامل لنتعلم منها ونعرف انطباعات أول رئيس وزراء لمصر عن ولاة مصر والمصريين.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.