تجذبك صفحاتها.. وتثير شغفك.. تجعلك تتلهف لمعرفة المزيد، فتسارع لتقليب الصفحات لتعرف ما قاله صاحب المذكرات نوبار باشا أول رئيس لوزراء مصر. تلك المذكرات التى انتظرتها المكتبة العربية طويلا إلى أن أصدرها حديثا مركز الدراسات التاريخية بدار الشروق، بترجمة «جارو روبير طبقيان»، وملاحظات من ميريت بطرس غالى، ومراجعة د.إلهام ذهنى، مع تقديم ودراسة وتعليق الدكتورة لطيفة محمد سالم رئيس تحرير مركز الدراسات التاريخية. كتب نوبار القادم من أصول أرمنية الذى أصبح الموظف المرموق، وداهية السياسة المصرية، إذ تولى منصب رئاسة النظارة أو الوزارة ثلاث مرات وقبلها كان يشغل العديد من المناصب إذ عمل وزيرا للنقل والأشغال والداخلية والخارجية مذكراته التى تقع فى 675 صفحة من القطع الكبير ما بين نوفمبر 1890 ومايو 1894، أى بدأ فيها وهو فى عمر يناهز الخامسة والستين ولم يكن قد اعتزل العمل السياسى بعد واشتملت على الفترة الممتدة منذ عام 1842 وحتى عام 1879، أى سبعة وثلاثين عاما، تغطى المدة من قدومه لمصر إلى عزل الخديو إسماعيل. وأوضحت د.لطيفة أن نوبار استبعد من مذكراته حياته الخاصة، وهذا أمر مسلم به، لأنه لم يكتب سيرة ذاتية، كما أسقط فترة توليه نظاريته الثانية (10 يناير 1884 9 يوينو 1888) والثالثة (15 إبريل 1894 12 نوفمبر 1895). وأرجع ميريت غالى السبب إلى أن صحته لم تكن تساعده على تسجيل الأحداث. ولكن هناك اعتقادا بوجود أسباب أخرى جعلته يبتعد عن الكتابة فى تلك الأثناء، حيث كان الاحتلال البريطانى جاثما على صدر مصر. ولعل تأخر وقت كتابة تلك المذكرات جعل الدكتورة لطيفة سالم تسأل: هل ما كتبه نوبار مذكرات؟ فتقول: «...والمذكرات تنقسم إلى ثلاثة أقسام: أولها اليوميات وتأتى فى المقدمة، وهى التى كتبها صاحبها يوما بيوم تبعا لما يحدث له، أى بما قام به كفاعل، وبما شاهده وسمعه فى حينه. وثانيها المذكرات ويدونها صاحبها بعد مرور بعض من الوقت لتكون الأحداث التى شارك فيها بمعنى تجربته الشخصية ماثلة أمامه، وله أن يستغنى عن وقائع ويذكر أخرى. وثالثها الذكريات التى يشحذ فيها الكاتب ذهنه لاستدعاء أحداث الماضى، ليجمعها بعد فترة طويلة من وقوعها، ومن ثم يكتنفها بعض القصور: فإما أن يسقط بعضها أو يتداخل بعضها ببعض، وإما أن تتم الاستعانة بمن كتب تلك الأحداث وتكون معلوماته غير دقيقة، وفضلا عن ذلك فإن المبررات التى تسجلها الذكريات، ونغمة الأنا التى قد تعلو، يجب وضعها فى الحسبان. إذن تقرر د.لطيفة سالم فى تقديمها أن ما كتبه نوبار كان ذكريات لا مذكرات، إذ إنه استحضر وقائع مضى عليها الكثير، ومن هذا المنطلق ينطبق عليها مسمى ذكريات». ولكن تتراجع الدكتورة لطيفة عن ذلك الرأى فتقول: «وعلى أى حال، فإن هناك رأيا آخر وهو الشائع حاليا يطلق على اليوميات والذكريات مذكرات، وبناء على هذا التشابك، فإن ذكريات نوبار باشا تدخل تحت المذكرات، ذلك الاسم الذى جرى على الألسنة، واختاره من وقع عليهم مهمة النشر للنص الفرنسى الأصلى». «إن من يرى مصر منذ أربعين عاما لا يسعه إلا أن يندهش من التحولات والإصلاحات التى حدثت بها. إنه عالم جديد هذا الذى يظهر.. إلى من يرجع؟ وما السبب فى هذا التحول؟ وكيف حدث؟. ما أن يتعلق الأمر بمصر الحديثة، فإنه دائما يجب الرجوع إلى محمد على الكبير.. إنه هو الذى حولها وفتح لها أبواب المدنية الحديثة والمنافسة مع أوروبا، ومن خلال الأبواب التى فتحها محمد على جرت الأحداث ودخلت الأفكار التى أكملت العمل الذى بدأه. وقد وجدت نفسى مدعوا لأداء دور فى هذه الأحداث، بل ووجدت نفسى واحدا من الذين ابتكروا كثيرا من هذه الأفكار. والآن وقد وصلت إلى عمر لا يعنى معه المستقبل شيئا كثيرا بالنسبة لى، سوف أعيش وأعايش هذه الذكريات والأحداث التى كنت أنا نفسى شاهدا عليها، وسوف أترك لنفسى العنان كى أبحر معها وسط تيار أفكارى». كلمات ذكرها نوبار باشا أول رئيس لوزراء مصر كمدخل لمذكراته التى كتبها فى مدينة كان الفرنسية فى نوفمبر 1890. ليبدأ تدفق الذكريات أو المذكرات. قبل القراءة وقبل الدخول الحقيقى فى عالم المذكرات لابد لنا أن نذكر هنا كلمات الدكتورة لطيفة سالم وهى مهمة إذ تقول: «ومن المؤكد أن للمذكرات أهميتها العلمية، فلها المكانة بين المصادر التى يعتمد عليها فى الكتابة التاريخية، ولكن لابد من أن تخضع لمنهج البحث التاريخى.. ولا نريد أن نسترسل فى بيان كيفية استخدامها، وإنما لابد من الإشارة إلى أن قراءتها يجب أن تكون فى حدود الزمن الذى عايشته حتى لا نصدر الأحكام التى تدين أو تبرئ أصحابها». ومن ناحيتنا نزيد على ذلك فنقول إنه يجب أن نقرأ المذكرات ونحن مدركون أنها مجرد استدعاء للأحداث والشخصيات ووقائع مضى عليها الكثير، لا تسجيلا يوميا، فضلا عن أن مذكرات نوبار باشا تتوقف عند عام 1879 أى لم يذكر فترة توليه النظارتين الثانية والثالثة، والتى كان بتسجيلها تكتمل المذكرات. وهذا لا يقلل من جمال المذكرات وأهميتها فهى ترسم جزءا من صورة مصر أيام من أرادوا إصلاحها وتطورها. مضمون المذكرات خدم نوبار باشا فى عهد ستة من ولاة مصر، محمد على باشا وإبراهيم باشا ثم عباس حلمى الأول ثم سعيد ثم إسماعيل ثم توفيق وأخيرا عباس حلمى الثانى، لذلك تشهد مذكراته على الكثير من تاريخ مصر فى عهد هؤلاء الولاة، وتكشف عن الوجه الآخر لنوبار باشا الذى كثيرا ما تعرض للاتهام بموالاته للأجانب على حساب المصريين. ورغم ذلك يقدم فى مذكراته بشكل عام ضيقه بسيطرة الأجانب على الوضع العام فى مصر، وسعيه لتأسيس المحاكم المختلطة للحد من هذه السيطرة. وتنقسم مذكرات نوبار إلى أربعة أقسام تضم واحدا وأربعين فصلا، بالإضافة إلى مقدمة وملاحظات لميريت بطرس غالى، وبعض الملاحق وأقسام المذكرات غير متوازية، فبينما يخصص صاحب المذكرات ستة فصول لمحمد على وإبراهيم وأربعة لعباس وستة لسعيد، فإن إسماعيل يستحوذ على خمسة وعشرين فصلا. وبديهى أن ذلك يرجع إلى عدة أسباب، ذكرتها د.لطيفة فى دراستها عن نوبار باشا، منها أن تلك الفترة قد تم فيها صياغة المشروع التحديثى، وأن نوبار قد بلغ مرحلة من النضج والخبرة مما كان له الأثر فى إسهامه بدور فعال فى توجيه الأحداث. وفى السطور الآتية نعرض فى الحلقة الأولى من قراءة المذكرات للستة فصول الأولى المخصصة لمحمد على وإبراهيم باشا، على أن تشمل الحلقة الثانية الفصول العشرة لعباس وسعيد، وننهى القراءة بعرض الفصول الخمسة والعشرين المخصصة للخديو إسماعيل الذى تنتهى المذكرات بتاريخ عزل الخديو إسماعيل. بداية المذكرات «وعندما اقتربت السفينة من مصر أيقنت أننى على وشك الدخول إلى عالم جديد».. عبارة قالها نوبار باشا فى فصله الأول (1842 1844)، وذلك بعد أن تم الاتفاق بين محمد على وبوغوص خال نوبار بأن يتم إرسال نوبار إلى مرسيليا للمطالبة بأوراق والده الشخصية. ومعروف أن نوبار ينتمى إلى الأرمن الذين أصبح لهم وضع خاص فى دولة محمد على، إذ اعتمد عليهم فى تنفيذ سياسته، بعد أن أيقن أمانتهم وثقافتهم ومهارتهم. ويحكى نوبار فى الأوراق الأولى من مذكراته انطباعاته عن مصر وحكم محمد على، وتوقف قليلا عند حادثة لا تزال وقت كتابة المذكرات تؤثر عليه وهى تجربة خاله بوغوص مع الوالى محمد على. يقول نوبار عنها: «ولا أزال حتى هذه اللحظة أرى تجربة خالى ماثلة أمامى وهو يعيش منطويا ومنزويا فى صالون صغير لا يستقبل أحدا ولا يذهب إلى الوالى قبل أن يصلى صلاة قصيرة وكأنه يدخل إلى قفص الأسد، وذلك بسبب تأثير الأحداث التى مر بها والمواقف الدموية التى كان شاهدا عليها وتركت آثارها فى نفسيته، بل إنه هو نفسه كاد أن يصبح ضحية غضب الوالى فى يوم من الأيام. حدثت الواقعة بعد فترة قليلة من تنصيب محمد على واليا على حكم مصر وكان بوغوص أو الخواجة «وهى كلمة تعنى سيد العمل» رئيسا لخزانة جمارك دمياط، وعلى أثر مناقشة بينه وبين محمد على فى بعض الأمور المالية استشاط الأخير غضبا وصاح قائلا : «فليسق من قدميه». وكانت هذه عبارة تعنى اعتقال شخص لإعدامه، فتقدم أحد القواسة بسرعة لتنفيذ الأوامر، وسيق بوغوص إلى خارج الغرفة، ولكن القواس كان تركيا وكان مدينا بمعروف له فتظاهر بأنه يقوده إلى شاطئ النيل لإلقاء جثته فيه بعد تنفيذ حكم الإعدام فيه وأخذه إلى منزل مهجور حيث اختبأ وعاد القواس ليخبر محمد على بأن أوامره نفذت. وأضاف نوبار باشا أنه بعد فترة قصيرة مر محمد على بضائقة مالية فى رشيد واحتاج بشدة إلى النصيحة، فلم يستطع أن يمنع نفسه من الصياح قائلا: «رباه، لو كان بوغوص هنا لأنقذنى من هذه المحنة». واعترف بعد ذلك القواس بأنه لم ينفذ الأوامر، فصاح محمد على: «بوغوص حى؟! اذهب وأحضره حالا، وإلا دفعت رأسك ثمنا عن رأسه». أحوال الرعية بعد ذلك أوضح نوبار باشا إنجازات محمد على وأحوال الرعية «المسيحيين»، والذى يعد نوبار باشا واحدا منهم، مؤكدا أن محمد على فتح أمام مصر التقدم الصناعى الأوروبى، بل استدعى الطبيب والمهندس والبحار واحترم كل هؤلاء حتى يتعلم الناس بدورهم احترامهم. وليقرب نوبار باشا الصورة قال: «فقد كان هذا شيئا هينا؛ لأنهم كانوا يقصد الطبيب والمهندس والبحار من الأجانب والضيوف والسادة. لكن أن يتم رفع شأن المسيحى «الرعية» وأن يحترم من المسلم وأن يسير جنبا إلى جنب مع البك والباشا التركى أو الشركسى وأن تتم مساواته بالمسلم ويحظى بنفس الاهتمام والتكريم هنا بالفعل كانت صعوبة العمل، الذى مثل انقلابا لكل المعتقدات والأفكار المتجمدة فى البلاد. وليدلل نوبار على كلامه حاول بكل الطرق أن يمتدح رؤية محمد على وإبراهيم ابنه لتقدم وتطور مصر، وحاول أن يتذكر كل الحوادث على تدل على ذلك منها، ففى فصله الثانى قال نوبار عن محمد على: «أقول إن هذا العادل الكبير، هذا المصلح للعادات وللأفكار المظلمة، كان محل تقدير الشعوب الكردية والتركية فى آسيا الوسطى، واعتبروه ممثل الإسلام بحق ومدافعا صلدا عن العقيدة فى مواجهة المسلمين غير الأوفياء فى القسطنطينية، الذين تأثروا بالتقاليد الأوروبية ويتلقون أوامرهم من موسكو». وفى منطقة أخرى من المذكرات يذكر نوبار باشا أن محمد على هو الذى غير فى مصر كل الأفكار السائدة فى الشرق، كل هذه الأفكار المتخلفة عن أوروبا.. إنه هو الذى كسر واخترق الحاجز الذى كان الشرق قد غلف نفسه به باستدعاء العنصر الأوروبى وتشجيعه على الإقامة فى البلاد والاستقرار بها عن طريق تملكه الأرض للبناء والاستكشاف. فى كلمة واحدة: لقد جعل مصر البلد المنعزل فى اتصال مع التقدم الذى تمثله أوروبا. الإنجليزية هى السبب ولم يغفل نوبار باشا فى مذاكرته ذكر سبب إسناد المناصب إليه والرتب الكثيرة التى منحت له. وكان السبب بسيطا جدا وهو معرفته القليلة بالإنجليزية اللغة التى لم يكن أحد من معية محمد على يعرفها فضلا عن أنه سبقته سمعة أنه رجل مثقف وعالم، وبلغة الواثق من نفسه يقول نوبار: «لقد كان لاهتمامهم بى عند دخولى فى معية محمد على فائدة كبيرة على، لكن ألم أكن أستحق بالفعل هذا الاهتمام.. ألم أكن كاتبا وموظفا مثقفا.. ألم أكن أنا من فك لهم طلاسم خطاب دوق دى راجيز؟!». وللحقيقة كلمات الثقة النوبارية قريبة من الحقيقة، فمن يقرأ المذكرات يندهش من جمال أسلوبها، ولعل هذا جعل الدراسة السابقة للمذكرات تؤكد أن الأسلوب، الذى اتبعه نوبار باشا فى المذكرات السهل الممتنع، والثرى الشائق، وأنه اختار التعبير القصصى، وذلك باستحضار الأمثلة ونقل الحوارات. التقرب من الوالى فى فصله الثالث قال نوبار: «إنه بعد شهرين أو ثلاثة من دخولى فى ديوان محمد على، جاء إبراهيم باشا إلى الإسكندرية لقضاء الوقت وطلب من والده إلحاقى بخاصته». وتساءل نوبار: «لماذا إذن لم يصطحب إبراهيم باشا سكرتيره معه.. ولماذا طلبنى من والده؟ أعتقد أن إبراهيم علم بشكوك والده نحوه فأراد أن يزيح هذه الشكوك باستعارة رجل من خاصة والده وديوانه ليصبح شاهدا ومترجما لمحادثاته مع القناصل العموميين». وبذلك أصبح نوبار باشا قريبا من السلطة ليسجل لنا رأيه فى حادثة مشهورة فى تاريخ مصر، وهى توتر العلاقات بين محمد على وإبراهيم باشا، وتهديد محمد على بترك مصر والاعتكاف بالحجاز. وعن انطباعه نقرأ: «وفى الطريق قال لى دون أن أستطيع قراءة أى تعبيرات على وجهه وملامحه: إن والده اعتكف فى سراى محرم بك، ويهدد بترك مصر والذهاب إلى الحجاز.. وعند وصولنا إلى محرم بك رفض محمد على استقبال ابنه، فاتجهنا مباشرة إلى سراى رأس التين، حيث كان الوجهاء الذين يشاركون فى أعمال الاجتماع قد تجمعوا. وفى هذه الاثناء، علمت أن المجلس شعر بأنه قدم توصيات بخصوص الضرائب والإصلاح الإدارى أغضبت محمد على إلى أقصى درجة. وكان الحضور يتهامسون أن ابنته نازلى جلبت له بالأمس جارية من قصر الحريم ونظرا لصغر سنها أعطوا محمد على بعض المقويات كى يسترد صحته وشبابه.. وأخيرا قيل همسا بأنه ذهب للصيد وهو فى كامل نشاطه. وبكلام أكثر فصاحة تساءل نوبار: «هل كانت نية محمد على التى أعلنها بالاعتكاف فى الحجاز خدعة.. أم كانت حقيقة؟ ماذا يمكن أن يخفى هذا الإصرار من جانب رجل يحسب دائما حسابا لكل ما يفعله ويعرف دائما ماذا يريد؟ انعقدت الجلسة وكتب خطاب لمحمد على يحوى تساؤلا عما إذا كان يمكنه أن يفصح عن رغباته التى لن تجد سوى العبيد المطيعين لها.. لكن بعد قليل من الوقت عاد صبحى بالخطاب فلقد عرفت الرسالة وحاملها وعلق الوالى على هذا الخطاب بأن هناك فى هذا المجلس شخصا غادرا وآخر طامعا، وأراد من المجلس تسليمهما له». وبمزيد من الأسئلة يسأل: «... من كان يقصد بهذا القول؟ كل فرد فى هذا المجلس كان يعرف من هما المقصودان، ولكنه لم يكن يجرؤ على القول بأن الغدار كان إبراهيم، أما الطماع فكان شريف باشا. لكن لماذا لا يتم الإعلان عنهما لماذا أراد محمد على أن يقوم المجلس بتسليمهما له؟ أليس هو الحاكم.. أليس النفوذ كله له؟». بعد ذلك ترك أعضاء المجلس الإسكندرية واحدا تلو الآخر. وبعد عدة أيام علم نوبار أن محمد على استقبل أعضاء المجلس كلا على حدة وأن الأمور عادت إلى طبيعتها. ولكن لم يسكت نوبار باشا فهو كشخص يحب الفضول سأل قبطان بك مملوك إبراهيم وقائد السفن الحربية فى أثناء الحملة على الشام كيف سارت المقابلة الأولى بين محمد على وابنه بعد هذه الأحداث. وكان سؤال نوبار باشا بعد مرور ثلاث سنوات. وقص عليه قبطان بك أنه عند العودة إلى القاهرة تلقى إبراهيم خطابا من محمد على مليئا بالعتاب، وأنه أمضى اليوم كله نائما واضعا الخطاب على بطنه، قائلا: «أريد أن يُدفن هذا الخطاب معى، وذلك من شدة الاتهامات وقسوة العتاب الظالم الذى لا أساس له. إنه يحمل لى اتهامات أريد أن أحملها معى إلى القبر». إبراهيم باشا العبقرى كان نوبار باشا معجبا بشدة بإبراهيم باشا فهو يراه مثال الرزانة والانسجام فى الملكات والقدرات، وبتعبير أقوى وأدق: كان إبراهيم يصل إلى حدود العبقرية. يذكر نوبار: «كان يهتم بكل شىء، كان مغرما بأرضه وكان بحق فخورا بالإصلاحات الملموسة والمهمة التى أدخلها ويجب أن نرد له هذا الحق فى أبعادياته التى كانت تقع معظم أراضيها فى مناطق زراعة الأرز. ورأيت يوما خطابا يثير الفضول فى أثناء إقامتنا فى إيطاليا كان إبراهيم يرسله إلى ناظر دائرته.. خطابا ظلت سطوره محفورة فى ذاكرتى إلى الآن يقول فيه: «كتب لى أحمد القاضى ناظر زراعة شباسات بأنه فى هذا العام زرع الأرز فى مساحة تزيد 800 فدان عن المساحة التى زرعها المرحوم حسن أفندى «الناظر السابق للزراعة هناك»، ولذلك فإننى أنوى كتابة نسخة أخرى من هذا الخطاب لأعلقها على صدرك كى تفضح كرامتك أمام زملائك بسبب إهمالك، وهذا من شأنه أن يعلمك فى المرة القادمة مراقبة وإدارة الأنفار، الذين تحت يديك بشكل أفضل. أما الخطاب الأصلى فإنى أنوى أن أعلقه على شاهد ضريح المرحوم حسن قائلا له: «أترى ماذا يفعل خلفك أحمد القاضى.. وسوف أترك هذا الخطاب معلقا على قبره حتى يحمل معه عاره إلى العالم الآخر كما حمله فى هذا العالم». وتساءل نوبار: «أكان فرعون يستطيع فى مثل هذه الظروف أن يعبر عن نفسه بشكل أفضل من هذا؟» فيجيب: لكن إبراهيم كان يعرف كيف يتحدث إلى كل شخص بلغته. فقد كان هو ووالده من العارفين بالرجال. ويكشف لنا نوبار فى نهاية مذكراته عن حكم محمد على وإبراهيم باشا لحظات محمد على الأخيرة ووفاة ابنه إبراهيم باشا: فى أثناء اللامبالاة، التى لازمت إبراهيم إلى قبره، كان أبوه كلما أفاق للحظات من غفلته الذهنية المستمرة يطوف شوارع القاهرة فى حراسة مماليكه وسط جموع الناس، التى كانت تنظر إليه باحترام ويرون فيه أحد المجاذيب «ويعنى الشخص الملهم من عند الله». وعندما أخبر بوفاة ابنه رد قائلا: «كنت أعرف لقد حبسنى.. كان قاسيا معى كما كان مع الجميع.. لقد عاقبه الله وأماته، لكنى أجد نفسى لكونى أباه من الواجب أن أترحم عليه وأدعو له الله». وعاش محمد بعد هذه الكلمات لعد أشهر تطارده دون هوادة فكرة أنه ما زال محبوسا. ويعود نوبار فيقول: «كان خوفو قد سبق ولجأ للعمل الإجبارى من أجل بناء الهرم الأكبر، الذى يحمل اسمه، وكان مقررا أن يكون قبرا له، لكن هيرودوت ذكر أن الأجيال، التى جاءت بعده لعنت ذكراه وأن أصداء أعماله البائسة كانت تتردد إلى الوقت الذى زار فيه مصر. بينما ستظل ذكرى محمد على خالدة ومقدسة متساوية بذلك فى وجدان الناس بذكرى الأولياء الصالحين. صحيح أن هذا التخليد لذكراه شىء عادل، لأن هذا الوالى الكبير سيطر على النيل الجامح، وأعطى للناس أسباب غناها، فحول مصر من بلد زراعى فقير إلى بلد يمتلك زراعة غنية، وإن كان مع كل هذه الوفرة ظل الفلاح بائسا، فإن الفلاح نفسه يعرف أن كل هذا سببه تناسى البعض لتقاليد الفلاح وأسلوب حياته البائسة، التى كان عليها أيضا فى العهد السابق». فى حلقة الغد نوبار باشا يقارن بين سعيد وأبيه يوثق نشأة تجارة الترانزيت ونقل البريد عبر الأراضى المصرية يرصد مساوئ الامتيازات الأجنبية والقضاء القنصلى