أخيرا توجه الجميع الي المكان المحدد علي الشاطئ, وكان التأخير سببا في أن العربات لم تتمكن من الوجود في الأوقات المحددة لها من أجل نقل ضيوفنا كل بدوره, مما اضطر الكثيرين للذهاب سيرا إلي المكان المحدد.. كانت الخطبة التي ألقاها سيد نابادير وهو قسيس كان ضمن حاشية الامبراطورة( أوجيني) لها طابع باقة من الورد مهداة الي بطل مجهول. ثم نهض شيخ الأزهر بدوره وبارك باسم الله عمل هؤلاء الرجال الذي ترجم الي مشروع كبير مفيد للانسانية جميعا. ان اللغة العربية لها نغمات ثقيلة وحادة, ولكنها في فم المصري تأخذ شكل تقسيمات عذبة وموسيقية. كان صوت الشيخ العربي يصاحبه من بعيد ككورس أصوات الموج التي كانت تتابع واحدة تلو الأخري بصوت الهديل الخفيف, لتصل الي الشاطئ وتتكسر علي الرمال وهذه الرؤوس المتوجة وهذا الجمع المميز المختار, وهذه الشمس العظيمة شمس مصر. ربما كانت الفقرة السابقة التي يصف فيها نوبار باشا افتتاح قناة السويس في17 نوفمبر1869 طويلة بعض الشيء, الا أنها في حقيقة الأمر دالة وثاقبة فضلا عن شاعريتها, ولا تكشف فقط عن لحظة الافتتاح وبهائها, بل تكشف أيضا وهو الأهم عن مشاعر نوبار الأرمني المصري الذي لعب دورا مهما وخطيرا, ليس فقط في الادارة والنظارة, بل في السياسة الدولية علي مدي ما يزيد علي نصف قرن كامل. من جانب آخر, أتيح لمذكرات نوبار باشا التي نشرتها أخيرا دار الشروق, أتيح لها أن تصدر في أفضل صورة ممكنة, فقد ترجمها جارو روبير طبقيان ترجمة رصينة رائقة, وكتب المقدمة والملاحظات ميريت بطرس غالي, كذلك كتبت الدراسة والتعليق المصاحبين للمذكرات د. لطيفة محمد سالم مع مراجعة ل د. الهام ذهني, كل هذا الي جانب التعليقات التي كان ابنه بوغوص نوبار قد وضعها للطبعة الفرنسية. أكاد أقول أن الطبعة الأخيرة لدار الشروق هي بمثابة إعادة الحياة لنوبار بل وإعادة الاعتبار له. كاتب هذه السطور تقضي في الحقيقة ساعات ممتعة مع هذه المذكرات التي امتدت علي مدي724 صفحة من القطع الكبير, ومع فترة تاريخية مفصلية في حياة مصر, ومع واحد ممن شاركوا في صياغة السياسة الداخلية والخارجية كموظف كفء ينتمي لأرقي تقاليد البيروقراطية المصرية العتيقة, علي الرغم من أن استدعاءه للعمل في الادارة جري عام1842, أي أنه حل علي مصر بعد أن كان وعيه وفهمه قد تشكلا بالفعل, لكن مصر كما هو معروف, وكما يكرر نوبار كثيرا في مذكراته قادرة علي هضم وتمثل الغرباء وإعادة صياغتهم. وحسبما أشارت د. لطيفة سالم في دراستها السابقة الاشارة لها, فإن نوبار كتب مذكراته بين نوفمبر1890 ومايو1894, أي أنه بدأها وهو في الخامسة والستين قبل اعتزاله العمل السياسي, وتناول الفترة التي امتدت منذ عام1842 وحتي1879 عندما قام الباب العالي تحت ضغط التحالف الدولي الأوروبي بعزل الخديو اسماعيل وتولية ابنه توفيق, أي37 عاما من العمل المتواصل, سواء في مطابخ السياسة الخلفية, موظفا وكاتبا وسكرتيرا, أو ناظرا للأشغال العمومية والخارجية ثم رئيسا للوزراء. والحال أن نوبار عمل مع خمسة ولاة: محمد علي وإبراهيم وعباس وسعيد وإسماعيل, لذلك فإن شهادته تكتسب أهمية مضاعفة, خصوصا أن الرجل لم يدع البطولة أو الوقوف في وجه الحكم المطلق أو الكفاح ضد المظالم والشرور المختلفة, بل علي العكس كان يعرف وضعه تماما ومكانته كموظف كفء لكنه نزيه, عارف لحدوده وأين يقف وإلي أين يتحرك, ومع ذلك, بل وفي ظل هذه الحدود استطاع أن يلعب دورا بالغ الأهمية مهما حاول البعض إهالة التراب علي هذا الدور, وخصوصا فيما يتعلق بموقفه من السخرة, ومشروع قناة السويس والمفاوضات المضنية قبل وأثناء وبعد شق القناة, وكذلك موقفه بشأن إقامة نظام قضائي مختلط. والواقع أن أي محاولة لفهم مشروع نوبار دون استعادة السياق والظروف والعصر وطبيعة الحكم الاوتوقراطي المطلق, سوف تكون محاولة محكوما عليها بالفشل. وهو ماأشار إليه نوبار في الصفحة الأخيرة من مذكراته قائلا: كم من الحكام احتلوها! قاصدا مصر طبعا كم من الشعوب دهست بأقدامها أرض مصر بدءا من ملوك الرعاة الي آخر المماليك, جميعهم تركوا آثار أقدامهم وبصماتهم العظيمة علي أرض مصر من أهرامات وتماثيل ضخمة ومعابد ومآذن ومنارات وعجائب كلها سحر ورونق كلهم استغلوا وتجاوزوا الحدود في استغلال هذا الشعب الذي عمل بجد وعرق وشيد لهم هذه الراوئع والآثار التي نعجب بها دون أن نفكر في الألم الذي عاني منه الشعب في حين أن لا أحد من هؤلاء الحكام استطاع التغلغل في أعماق هذا الشعب الذي ظل ساكنا مثل المحيط. ولابد أن أضيف سريعا أن نوبار المسيحي الأ رمني تمتع بحقوق المواطنة, وترقي في سلك الادارة حتي ترأس الوزارة, دون أن يعوقه دينه أو جنسه, لذلك فإن مايحدث هذه الأيام من فتنة مخجلة بل ومنحطة بين الأقباط والمسلمين, تؤكد الي أي مدي تخلفنا وإلي أي درك وصلنا, لأن تولي نوبار المسيحي الأرمني مرة أخري الوزارة حدث قبل قرن ونصف قرن من الزمان, وفي ظل حكم او توقراطي بالغ العنف ضد المحكومين. صحيح ان الأرمن كان لهم وضع خاص في دولة محمد علي, الا أن هذا الوضع كان بسبب أمانتهم ومهارتهم وعملهم المتواصل والدؤوب: فبوغوص يوسفيان المسيحي الأرمني مثلا لم يكن مجرد مترجم استقدمه محمد علي, بل سرعان ما أصبح وكيلا للباشا ولسان حاله مع الخارج, وفي الوقت نفسه هو خال نوبار ووالده كان أيضا وكيلا لمحمد علي في باريس, وعندما مات الاب, كان الشغل الشاغل لمحمد علي ألا تعثر السلطات الفرنسية علي المراسلات التي دارت بينه وبين والد نوبار, ولذلك تم إرسال نوبار علي وجه السرعة لتسلم أوراق أبيه والعودة سريعا إلي مصر بها لتبدأ سنوات خدمته, التي امتدت حتي خلع اسماعيل. من جانب آخر, هناك وشائج عديدة تربط بي مذكرات نوبار من ناحية, حوليات أحمد شفيق باشا التي صدرت في عدة أجزاء في سلسلة تاريخ المصريين عن هيئة الكتاب منذ سنوات, فكلتاهما كتبت عن الفترة نفسها تقريبا, إلا أن شفيق باشا كان موقعه داخل قصر الخديو, حيث عمل تشريفاتيا ثم تدرج في مناصب القصر حتي تولي أرفعها, لذلك كشف عن دهاليز وأروقة القصر وماكان يدور داخله من أسرار مرتبطة علي هذا النحو أو ذاك بصنع القرار السياسي ولذلك أيضا فهي معا مذكرات نوبار وحوليات شفيق باشا يكمل كل منهما الآخر, يقدمان لوحة بانورامية عريضة للفترة نفسها. واذا كانت العلاقة بين نوبار ومحمد علي توضح الي أي حد كان الأخير متحضرا فيما يتعلق بموقفه من نوبار المسيحي, إلا أن المذكرات نفدت بقوة لطبيعة العلاقة المعقدة بين محمد علي وابنه ابراهيم الذي تولي الولاية في حياة والده بسبب غياب عقل ووعي الباشا الكبير ولاشك أن نوبار كان يتمتع بفطنة وذكاء خاصين لأن خدمته استمرت بعد ابراهيم, وعمل مع عباس1848 1854 بل وتولي مسئولية الاشراف علي مشروع السكك الحديدية حتي اختلف مع عباس وانسحب من خدمته, ومع ذلك فإن عباس سرعان ما استدعاه مرة أخري ليعمل وكيلا له في فيينا, وهو الامر الذي يؤكد الي اي مدي كان نوبار حصيفا أما علاقته بسعيد1854 1863 فلم تكن علي ما يرام بسبب معارضته لمشروع امتياز قناة السويس وكراهيته لديلسبس, ومعارضته أيضا للامتيازات الأجنبية, واهتمام سعيد بالجيش فقط, لذلك شهدت الصلة بينهما شدا وجذبا دائمين, لأن نوبار كان ذكيا بما يكفي لأن يعبر عن رأيه بأمانة مع أبداء استعداده لتنفيذ ما يقرره سعيد بأقص قدر من الدقة! أما علاقته باسماعيل فتحتل أكثر من نصف عدد صفحات المذكرات, وهو دائم الانتقاد له ويعتبره بوضوح المسئول الاول عن خراب البلاد, فتجميل امتدادات القاهرة في عهدة والاوبر والمسرح والحدائق والميادين لم تكن سوي انبهار شكلي بفرنسا, واستدانته كانت بلاحساب, وفساده أيضا كان بلا حدود, بل انه كان مصابا بما يشبه العته العقلي الذي قاد مصر للإفلاس والخراب, وقاده نفسه للعزل والنفي, ينهي نوبار باشا مذكراته علي النحو التالي: أيا كان المستقبل الذي ينتظر مصر أن تستقل او تظل محتلة, فإن العدالة ستظل قائمة تقف بين الحاكم والمحكوم إن الفلاح أصبح مسلحا بها ولن يحرم مجبرا من ثمار تعبه وحرثه. ان ماسيعطيه الله له سيتمكن من الحفاظ عليه والتمتع به والتسبيح بحمد الله ان بلاده لم تعد بلاد عبودية وبيته لم يعد بيت عبيد لكل هذا, أظن أنه من الواجب اعادة الاعتبار لنوبار باشا الذي أخطأنا في حقه ورفعنا تمثاله من الاسكندريةان نوبار الأرمني المسيحي كان مصريا في الوقت نفسه, ومذكراته تقدم صورة مختلفة تماما عن الصورة التي رسمتها لنا أغلب كتب التاريخ.