بعد "العبور الكبير" الذي تم بسلام إلي داخل أكبر دولة أوروبية دون أن يتم تفتيش أمتعتي أو جهاز الكمبيوتر الخاص بي، اكتشفت أن دخولي إلي ألمانيا كان أيسر من خروجي منها، ففي صالة المغادرة استوقفني موظف الجمارك وطلب مني فتح حقيبة يدي، وفي الحقيبة التقط مقص أعشاب اشتريته ونسيت أن أضعه في الحقيبة الكبيرة، هذا المقص أثار ريبة الموظف ومعه حق طبعا - لذلك عرضت أن أتنازل عنه، ولكن الموظف لم يقتنع بذلك وبدأ يفتش حقيبتي قطعة قطعة. وعندما ارتفع صوتي محتجا أسرع إلي شرطي شاب وحسم الخلاف واعتذر لي وقدم لي كتيبا صغيرا يحتوي علي كل الممنوعات عند ركوب الطائرة، ثم انتهي الأمر بأن تنازلت عن مقص الأعشاب وتبادلنا كلمات الاعتذار والشكر .. إلخ. ذلك نموذج للأخطاء الصغيرة التي نرتكبها بحسن نية، ثم ينتج عنها سوء تفاهم ولغط كبير . ما حدث للسيدة المصرية التي قتلت علي يد شاب ألماني وعشرات غيرها من قبل في العديد من المدن الأوروبية من اعتداء بدني وأحيانا لفظي لابد أن يقودك إلي مشاعر سلبية ويجعلك تترجم كل سوء تفاهم إلي عداء للأجانب و"إسلاموفوبيا" كما يطلقون عليها في صحفهم. إنه الخوف من الإسلام ومن انتشاره السريع، واعتبار كل مسلم إرهابيا ما لم يثبت عكس ذلك، وعلي عكس ما تصورت كانت النساء المحجبات، والمنقبات من حولي، علي قلتهن، يسرن بأمان في الشوارع ويتجولن في الأسواق دون أن يثرن أي اهتمام. بعض المحجبات كن بملامح أوروبية، والبعض الآخر كن من الأفريقيات والآسيويات. علي أن الحجاب في ألمانيا بالذات ليس من الأمور المستجدة أو المستنكرة، فقد عرف الألمان حجاب السيدات إبان الحرب العالمية الأولي مع تواجد الجنود الأتراك الذين آثروا البقاء والعمل في ألمانيا بعد الحرب، ومع تدفق الجنود الهاربين من الجيش السوفيتي من شعوب شرق أوروبا، ثم بدأت موجة ثانية من العمال الأتراك تتدفق في الخمسينيات للمشاركة في إعادة إعمار وبناء المدن الألمانية التي تهدمت تماما بعد الحرب العالمية الثانية، أما الموجة الأخيرة من المسلمين فكانت من اللاجئين السياسيين الذين فروا من الحكومات الإسلامية تلاحقهم تهمة الإرهاب . والألمان تحديدا يعرفون الإسلام ربما أكثر من غيرهم من الشعوب، فلا ننسي أن الاستشراق بدأ في ألمانيا، وأن أهم المستشرقين الغربيين أمثال جولدتسير وغيره قد أدوا خدمة جليلة للإسلام بدراسة تاريخ الدولة الإسلامية والشريعة الإسلامية والأدب العربي وبترجمة "ألف ليلة وليلة"، ولا يمكن إنكار تأثر مارتن لوثر المصلح الديني الأول في المسيحية بتعاليم و مبادئ القرآن الذي قرأه مترجما إلي الألمانية، وقدم بعدها المذهب البروتستانتي، أقرب المذاهب المسيحية إلي الإسلام. الألمان إذن لا يجهلون ماهية الإسلام، وقد اعترف شاعرهم الأكبر جوته بالتأثر بآيات القرآن الكريم والإعجاب الشديد برسول الإسلام سيدنا محمد عليه السلام، وظهر تأثره واضحا في ديوانه الشرقي الشهير، ومنذ أحداث الحادي عشر من سبتمبر والأجيال الجديدة من الأوروبيين يقبلون علي قراءة كل ما تقدمه المطابع من كتب عن الإسلام، وقد تحول الكثيرون إلي الدين الحنيف، وأغلبهم من النساء . والمسلمون في ألمانيا يشكلون الأغلبية الدينية الثانية بعد المسيحية، ويصل تعدادهم حاليا إلي ما يقرب من خمسة ملايين مسلم، كما تقول أحدث الإحصائيات، وهو رقم كبير يزيد علي تعداد أكثر من دولة إسلامية وأن تعداد ألمانيا يصل إلي اثنين وثمانين مليون نسمة حاليا. المهم أن هذا العدد الضخم ليس كتلة موحدة متجانسة، فنصف المسلمين الألمان، كما هو معروف من الأتراك والباقي من جنسيات أوروبية شرقية من البوسنة ويوغوسلافيا ومن أفغانستان وإيران والمغرب وكازاخستان، وجميعهم يتحدثون لغات مختلفة، ولكنهم جميعا تعرفوا إلي الإسلام عن طريق الترجمة، فالعرب أقلية ضئيلة في ألمانيا . وفي المدينة الصغيرة التي أمضيت بها إجازتي كان البقال التركي المصدر الأساسي لشراء اللحم الحلال وكل ما هو خالٍ من لحم الخنزير ودمائه، ونادرا ما رأيت الطرحة السوداء والبالطو الطويل، الرداء الرسمي الذي تمسكت به فلاحات الأناضول اللاتي جئن مع أزواجهن العمال إلي البلد الأوروبي، ورغم قرب المسافة حيث يقع الشق القديم من استانبول العاصمة في أوروبا، ورغم تشابه الطبيعة بين البلدين - تركيا وألمانيا - فقد ظلت المرأة التركية علي ولائها لكل ما نشأت عليه في مسقط رأسها من عقيدة وعادات وأعراف وسلوكيات، نسبة قليلة جدا من الأتراك "تأوربت" وذابت في المجتمع الألماني علي مدي نصف القرن الماضي. وإذا كان معظم مسلمي ألمانيا من السُنة حيث يقدرون بنحو 5,2 مليون شخص. فهناك نحو 500 ألف من أبناء الطائفة العلوية معظمهم من تركيا و نحو 200 ألف من الشيعة في ألمانيا معظمهم من لبنان. كما يوجد آلاف الصوفيين والإسماعيليين، وهذا العدد الكبير من المسلمين في ألمانيا يمارس طقوسه الدينية بحرية ربما تفوق ما يتمتعون به في بلادهم الأصلية، وهم يتفرقون فيما يقرب من 400 هيئة ومؤسسة إسلامية، وعشرات من المراكز الإسلامية، المنتشرة في معظم الدول الألمانية والتي تقوم بتزويدهم بالكتب الإسلامية، وتفتح لأبنائهم مدارس إسلامية، وتترجم أمهات الكتب الإسلامية إلي الألمانية وتصدر دوريات إسلامية توزع مجانا علي المسلمين وغيرهم، أي أن الهوية الإسلامية مصانة في ألمانيا، والدليل علي ذلك وجود أكثر من 300 مسجد منتشرة في المدن الألمانية الكبري، ويتلقي أبناء المسلمين تعليمهم الإسلامي في بعض المدارس الملحقة بتلك المساجد أيام العطلات وبلغة الجالية التي شيدت المسجد أو المركز . وعلي كثرة هذه المدارس فهي غير كافية وينقصها التوحيد في البرامج الدراسية، وهنا لابد أن يلعب الأزهر الشريف دوره المطلوب، الذي لم أشعر به علي الإطلاق أثناء تواجدي في ألمانيا. مطلوب من علماء الأزهر تقديم صورة الإسلام الصحيح والمبادئ الإسلامية الأصيلة لشعوب تتعطش إلي المعرفة وعلي استعداد تام لتقبل كل ما يقتنع به العقل ويتقبله القلب. وعلي الرغم من ذلك التشرذم الواضح للمسلمين الألمان فهناك مجلس أعلي للمسلمين لفت الأنظار إليه منذ سنوات عندما ناشد رئيسه في ذلك الوقت نديم إلياس خاطفي الألمانية في العراق سوزانا أوستهوف، عن استعداده أن يتم استبداله بالمختطفة وأطلق نداءه مع الكثير من المؤسسات الإسلامية في الصحف الألمانية بقولهم: "أطلقوا سراحها"!!.. وبعد جريمة قتل الشهيدة مروة الشربيني خرجت مسيرات سلمية للمسلمين في ألمانيا تحت شعار "مسلمون ضد العنف" علقوا لافتات يطالبون فيها بالقصاص من قاتل الصيدلانية المصرية . لقد تعايش أبناء الدينين الإسلامي والمسيحي في سلام جنبا إلي جنب لفترة طويلة حتي استيقظت "النعرة الأوروبية" بين الشباب الأوروبي، ومع تصاعد جرائم الإرهاب التي انتشرت علي يد الجماعات الإسلامية في العديد من العواصم الأوروبية بدأت جرائم العنف ضد الأجانب منذ التسعينيات مستهدفة الأتراك، تلك الجماعة التي تستعصي علي "الأوربة" وترفض الاندماج رغم تمتعهم بكل ما يقدم للمتجنسين من مزايا . ولأن المرأة هي الهدف السهل الذي يحمل علي كاهله عبء الإعلان عن الهوية والاختلاف، ففي نوفمبر من عام 1992 ارتكبت جماعة من الشبان جريمة قتل ثلاث فتيات تركيات في مدينة مولن وجرح تسعة آخرين، وفي مايو 1993 هوجم بيت لعائلة تركية في مدينة سولينجن نجم عنه موت سيدتين وثلاث فتيات و جرح سبعة آخرين. بعد أحداث سبتمبر 2001 في "الولاياتالمتحدة" وبعد تعرض مدريد ولندن لضربات تنظيم القاعدة، تصاعدت موجة من التحذير من الأجانب ولما كان بعض منفذي أحداث سبتمبر قد جاءوا من ألمانيا فيما يعرف بخلية هامبورج، فقد انتهز اليمين الفرصة وراح يحذر من انتشار التطرف في أوساط المسلمين في ألمانيا خاصة. وامتد العداء للأجانب ليشمل آخرين ووصل إلي حد مطالبة مواطن ألماني من أصل أنجولي بالعودة إلي موطنه لأنه رشح نفسه للبرلمان في مقاطعة "ثورينجيا" وذلك رغم أنه يحمل الجنسية الألمانية منذ أربع سنوات ويعيش في ألمانيا منذ 21 سنة ! وإلي حد أن رئيس فرع الحزب الوطني الديمقراطي NPD في المقاطعة طالب المواطنين الألمان بأن يمتنعوا عن إعطائه أصواتهم، وأذعن الحزب المسيحي الديمقراطي الحاكم CDU لتهديدات الحزب اليميني NPD ونزع البوسترات التي تتضمن صورة للأنجولي المرشح، رغم استنكارهم المعلن لتصريحات اليمين المتطرف . والمرشح من أصل أنجولي يدعي شال وهو في الخامسة والأربعين من العمر وعضو نشيط بالحزب الحاكم وسبق له أن ترشح لمجلس المدينة وعضو في فريق سياسة الاندماج التابع للمستشارة إنجيلا ميركل، فماذا حدث ليغير الواقع في ألمانيا ويحول الأجانب إلي "بعبع" يخشاه الجميع!