شاعرة موهوبة غزلت بأرق الكلمات قصائد جميلة صارت الأكثر سحراً فى الأدب الأمريكى لكن المفارقة الجديرة بالتأمل أن الشاعرة إميلى ديكنسون لم تنشر سوى عشر قصائد. من قصائدها التي بلغت مايزيد علي ألف وسبعمائة وسبعين قصيدة طوال حياتها. ولذلك, لم تكن الدوائر الثقافية في عصرها, منتصف القرن التاسع عشر, تدري عنها شيئا. وكان يمكن أن تطوي الايام صفحتها, لولا أن اختها الصغيرة عثرت علي كنز قصائدها بعد موتها عام1886. وكان عمرها لايتجاوز ستة وخمسين عاما. وبرغم العثور علي كنز القصائد.. إلا أن شاعرية اميلي ظلت حبيسة في قبو ذكريات العائلة والاصدقاء القلائل المقربين اكثر من نصف قرن... ولم تنطلق قصائدها, وتحلق شهرتها الأدبية إلا في منتصف القرن العشرين, عندما تسني نشر هذه القصائد. وبدأ الكتاب والنقاد والدارسون البحث عن سر اميلي ديكنسون, والتنقيب في أوراق حياتها علها تفصح عن لغز الشاعرة. وكان أبرز لغز في مسيرة اميلي, ولايزال, هو انسحابها من الحياة الاجتماعية انسحابا تاما طوال الخمسة عشر عاما الأخيرة من عمرها. فلم تبرح منزلها طوال هذه السنوات. والاكثر غرابة أنها آثرت في خلال السنوات الخمس الأخيرة قبل موتها, أن تعتكف في حجرة نومها. ولذلك خلع عليها بعض الكتاب لقب الناسكة, دون أن ينطوي اللقب علي معني ديني محدد, أو دلالة روحية معينة. العزلة الموحشة والسؤال الآن كيف بدأت أميلي مسيرة حياتها؟.. وكيف انتهي بها الحال الي تلك العزلة الموحشة التي لم يؤنسها فيها سوي قصائد الشعر؟... ولدت اميلي عام1830 في بلدة أمهرست بولاية ماساشوستس. وكان والدها محاميا لامعا وانخرط انخراطا شديدا في الحياة السياسية والحزبية, وصار عضوا في الكونجرس. وكانت مكتبته تضم كتبا ومجلدات كثيرة. شبت اميلي بين جدران هذه المكتبة وقرأت كثيرا وطويلا. وكانت فتاة خجولة. ومن كثرة ما قرأت وتأملت الطبيعة الخلابة من حولها, أدركتها حرفة الشعر.. وكانت تبدي شغفا حائلا باللغة, ومولعا شديدا بالكلمات. وصارت القصائد توءم روحها.. وبدت لكل من حولها من أفراد الاسرة كأنها تعيش لتكتب الشعر. وكانت تسمح لسوزان زوجة شقيقها أن تقرأ بعضا من قصائدها في صالون أدبي أمام نفر من عليه القوم في البلدة. وفي تلك الفترة تقريبا كانت تخرج من بيتها من حين إلي آخر.. وكان أهل البلدة يطلقون عليها لقب الاسطورة, خاصة بعد أن تناهي اليهم إنها شاعرة.. لكن أميلي ما أن بلغت نحو الخامسة والثلاثين من عمرها حتي كفت عن مغادرة بيتها. ويعلل بعض الباحثين ذلك بفشلها في قصة حب. غير أن أحدا لم يكتشف دلائل محددة عن قصة الحب المزعومة هذه. أما الكاتبة ليندال جوردون التي أصدرت في مستهل العام الحالي2010 كتابا عن السيرة الذاتية لاميلي فقد عللت عزلة الشاعرة بإصابتها بمرض الصرع. ولذلك كان عليها أن تلوذ بالوحدة. وعندما اشتد عليها المرض في سنواتها الاخيرة كانت لاتغادر حجرة نومها بالطابق الأول من منزلها, بينما تعيش أختها الصغيرة بالطابق الأرضي. مجرد تأويلات لاتستند إلي وقائع محددة أو أدلة اكيدة. وهنا يتدخل علي خط محاولات كشف أسباب عزلة اميلي, كاتب باحث هو هولاند كوتر. ويقدم دراسة بديعة حول الشاعرة. ويوضح انه وقع في هوي قصائدها عندما قرأ كتابا نشرته الكاتبة الامريكية لورا بنيت عام1950 بعنوان شعراء أمريكيون. ولم يترك شيئا كتبه أحد عن الشاعرة إلا وقرأه. { ويفسر كوتر سر عزلة اميلي تفسيرا أدبيا, ويرجح انها اختارت طواعية واختيارا أن تنأي بنفسها عن الصخب حتي تتفرغ لتأملاتها وقصائدها. ويوضح أن اميلي كانت تعرف ماتريد. وأدركت أن عشقها الأول والأخير يملي عليها الانسحاب من الحياة الاجتماعية المحيطة بها حتي تتوافر لها مساحات خالصة من التركيز والتأمل.. ولاشيء يستحق أن يجتذبها بعيدا عن قصائدها. ويشير كوتر إلي أن إميلي كانت تدرك إدراكا واعيا بأنها تبتعد عن مجريات الامور العادية.. عظيم.. ليكن الامر كذلك, حتي كتاب آخر, وإشعار آخر, خاصة وأن دور النشر الأمريكية تعتزم اصدار كتابين جديدين عن الشاعرة. كما أن مدينة نيويورك سوف تشهد في منتصف يونيو الحالي(2010) معرضا لاحياء ذكري اميلي. ومن المرجح الا يكف الكتاب والباحثون عن تأليف الكتب وصولا الي كشف أسباب عزلة الشاعرة. وثمة نقطة مهمة وجوهرية يشير اليها الكاتب هولاند كوتر وهي كيفية تفسير الدوائر الثقافية والسياسية لاميلي, بمعني توظيفها في خدمة الأهداف الأمريكية. ويوضح أن الأيديولوجيا اقحمت الشاعرة في أتون معارك سياسية, لاتمت لها بأي صلة. وهو ماقد يبدو واضحا من خلال رصد فترتين مهمتين في التاريخ السياسي لأمريكا: أولهما: فترة عقد التسعينيات من القرن التاسع عشر. وكانت أمريكا, تتطلع آنذاك, الي أن تصبح نقية وذات طابع ريفي بسيط. ومن ثم صورت اميلي علي أنها شخصية شعبية, وروجت بأن انسحابها وعزلتها كان رفضا للعالم الحديث الآتي بكل تعقيداته المادية.وفي تلك الفترة صارت اميلي المتحدثة باسم الحنين الي الماضي والزمن الجميل! ثانيهما: فترة الحرب الباردة التي اندلعت عقب الحرب العالمية الثانية بين المعسكرين الأمريكي والسوفيتي. وكان المعسكر الامريكي الغربي يشعر آنذاك بقلق شديد من احتمالات انتشار الشيوعية, ونشوب حرب نووية مدمرة. وتطلعت أمريكا مرة أخري للماضي. وكانت اميلي ديكنسون هي رمز لهذا التطلع. ولاتزال حياة اميلي لغزا