وزارة الأوقاف تعلن عن وظيفة وكيل دائم (الشروط وطريقة التقديم)    أسعار اللحوم الحمراء اليوم الثلاثاء 19 أغسطس    حركة القطارات | 90 دقيقة متوسط تأخيرات «بنها وبورسعيد».. اليوم الثلاثاء    الأمم المتحدة: مقتل عدد قياسي من عمال الإغاثة خلال 2024 ونصفهم في غزة    رئيسة المفوضية الأوروبية تشكر ترامب على جهوده من أجل إعادة أطفال أوكرانيا المخطوفين    رئيس الوزراء يصل مقر انعقاد منتدى مجلس الأعمال المصري الياباني في طوكيو    هل محادثات ماكرون مع ترامب تتطرقت إلى تنازل أوكرانيا عن أراض؟    موعد مباراة المصري وبيراميدز في الدوري الممتاز والقناة الناقلة    الأرصاد تحذر من ارتفاع مؤقت في درجات الحرارة    بحثاً عن جثمان صغير.. رفع عبّارة نيلية بطهطا ابتلعه النيل أثناء التنزه بسوهاج "صور"    يعرض قريبا، تعرف على قصة وأبطال مسلسل أزمة ثقة    نجلة طلعت زكريا تكشف سر عن أحمد فهمي تجاه والدها الراحل    أوبن إيه آي تدرس إضافة إعلانات ل ChatGPT بحذر    دراسة تحذّر من الاعتماد على تقنيات الذكاء الاصطناعي في الفحوص الطبية    وداعا لتقديرات الأطباء، الذكاء الاصطناعي يحدد موعد ولادة الجنين بدقة 95 %    الماريجوانا على رأس المضبوطات.. جمارك مطار القاهرة تحبط محاولات تهريب بضائع وأسلحة بيضاء ومخدرات    ضبط سائق دهس شابًا وفر هاربًا بالفيوم    وزير الزراعة: نستهدف 12 مليار دولار صادرات زراعية هذا العام.. وإضافة 3 ملايين فدان خلال 3 سنوات    رئيس «مدينة مصر»: نسبة إلغاء التعاقدات فى معدلاتها الطبيعية ولا تتجاوز 6%    إصابة عامل إثر حريق داخل مطعم فى منطقة التجمع    رسميًا.. جدول صرف مرتبات شهر أغسطس 2025 بعد بيان وزارة المالية (اعرف هتقبض كام؟)    مخاطر الخلط بين أبحاث علوم الفضاء وفقه أحكام الفضاء    «الصفحة اتقفلت».. آمال ماهر تحسم موقفها من عودة «الإكس» (فيديو)    5 شهداء جنوب شرقى مدينة دير البلح    ماكرون: لا سلام دون توفير الضمانات الأمنية لأوكرانيا    "الجبهة الوطنية بالفيوم" ينظم حوارًا مجتمعيًا حول تعديلات قانون ذوي الإعاقة    تحت عنوان «حسن الخُلق».. أوقاف قنا تُعقد 131 قافلة دعوية لنشر الفكر المستنير    رسميًا.. 24 توجيهًا عاجلًا من التعليم لضبط المدارس قبل انطلاق العام الدراسي الجديد 20252026    عيار 21 الآن بعد الانخفاض.. أسعار الذهب اليوم الثلاثاء 19 أغسطس 2025 بأسواق الصاغة    الاتحاد الأوروبي يخفض وارداته من النفط إلى أدنى مستوى تاريخي    ترامب: أوروبا ستقدم الضمانات الأمنية لأوكرانيا    د. إيهاب خليفة يكتب: الثورة المعرفية الجديدة .. الاستعداد لمرحلة الذكاء الاصطناعي «العام»    مستند.. التعليم تُقدم شرحًا تفصيليًا للمواد الدراسية بشهادة البكالوريا المصرية    رئيس وزراء السودان يطالب الأمم المتحدة بفتح ممرات إنسانية في الفاشر    فرصة لطلاب المرحلة الثالثة.. تعرف الجامعات والمعاهد في معرض أخبار اليوم التعليمي    تفاصيل إصابة علي معلول مع الصفاقسي    وقت مناسب لترتيب الأولويات.. حظ برج الدلو اليوم 19 أغسطس    «زي النهارده».. وفاة الكاتب محفوظ عبد الرحمن 19 أغسطس 2017    الزمالك يطمئن جماهيره على الحالة الصحية ل«فيريرا»    "أقنعني وتنمر".. 5 صور لمواقف رومانسية بين محمد النني وزوجته الثانية    عشبة رخيصة قد توفّر عليك مصاريف علاج 5 أمراض.. سلاح طبيعي ضد التهاب المفاصل والسرطان    محافظ سوهاج يُقرر خفض تنسيق القبول بالثانوي العام إلى 233 درجة    عماد النحاس يكشف موقف لاعبي الأهلي المصابين من المشاركة في المباريات المقبلة    مفاجأة حول عرض لانس الفرنسي لضم ديانج من الأهلي    حقيقة إصابة أشرف داري في مران الأهلي وموقف ياسين مرعي من مباراة غزل المحلة    حدث بالفن | مطرب مهرجانات يزيل "التاتو" وإصابة فنانة وتعليق نجل تيمور تيمور على وفاة والده    محافظ الدقهلية يفتتح حمام سباحة التعليم بالجلاء بتكلفة 4.5 مليون جنيه.. صور    للربط مع مصر.. إنزال الكابل البحري عالى السعة في مدينة العقبة بالإردن    شام الذهبي في جلسة تصوير رومانسية مع زوجها: مفيش كلام يتقال    أستاذ تاريخ: مقولة "من النيل إلى الفرات" تزييف تاريخي صدره الصهاينة    ضياء السيد: الأهلي سيواجه أزمة أمام بيراميدز.. والتسجيل سيدين محمد معروف    «لو العصير وقع علي فستان فرحك».. حيل ذكية لإنقاذ الموقف بسرعة دون الشعور بحرج    ما علاج الفتور في العبادة؟.. أمين الفتوى يجيب    هل يجوز قضاء الصيام عن الميت؟.. أمين الفتوى يجيب    أمين الفتوى: تركة المتوفاة تُوزع شرعًا حتى لو رفضت ذلك في حياتها    رئيس «جهار» يبحث اعتماد المنشآت الصحية بالإسكندرية استعدادآ ل«التأمين الشامل»    البحوث الفلكية : غرة شهر ربيع الأول 1447ه فلكياً الأحد 24 أغسطس    هل المولد النبوي الشريف عطلة رسمية في السعودية؟    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



رحلة اكتشاف قصائد حجازى "المجهولة"
رحلة البحث ترصد تداعي المؤسسة الثقافية وتعرض تراث الأدب العربي للاندثار والقصائد المكتشفة تفتح لنا باب البحث عن حقيقة تأريخ "مدينة بلا قلب"
نشر في اليوم السابع يوم 26 - 11 - 2009


قصيدة عشرون عاماً
منذ خمسين عاما صدر الديوان الأول للشاعر أحمد عبد المعطى حجازى، حمل هذا الديوان اسم "مدينة بلا قلب" فشكَّل نقلة نوعية كبيرة فى تطور الشعر العربى، وأسس ل"شاعرية المدينة" التى صارت من تيمات الشعر الأكثر استخداما فى تجربة الشعر الحديث، والمتصفح ل"مدينة بلا قلب" يجد أن هناك الكثير من القصائد عالية النضوج والخبرة، كما سيجد اكتمالا بنائيا ووحدة فكرية كبيرة فى هذا الديوان، فكيف يمكن لشاعر يصدر ديوانه الأول أن يصير "خبيرا" بالشعر ومجددا له منذ خطوته الأولى؟ وكيف يصير رائدا وهو مازال يتحسس موضع قدمه فى زمن مزدحم بالشعر الجيد والشعراء المجيدين؟ وكيف يصل "شاب" إلى كل هذا النضوج، فى حين أن هناك شعراء كبار لم يصلوا إلى هذه الدرجة من الوعى والأصالة إلا بعد سبعة دواوين؟
هنا نحن أمام افتراض من اثنين، الأول: أن يكون "حجازى" "معجزة شعرية" يكتب شعرا صافيا وعميقا وهو مازال فى المهد صبيا، والثانى: هو أن هناك العديد من التجارب والقصائد والمحاولات التى سبقت ما نشر، لكن الشاعر أبى أن ينشرها، لأسباب تخصه هو، لكن هذين الافتراضين بقيا على حالهما، ليس لهما من المعلومات ما يؤكدهما أو ما ينفيهما حتى كتبت سابقا دراسة عنيت بقراءة "دلالة الصديق فى ديوان مدينة بلا قلب" ونشرتها فى مجلة الرافد الإماراتية، وبعد نشر المقال تحدثت مع "حجازى" عن ديوانه الأول وظروف نشره، وعن سبب ترتيب القصائد بداية من قصيدة "العام السادس عشر" فتذكر هو قصيدة أخرى كان قد كتبها فى الخمسينيات، معنونة ب"عشرون عاما" ولأنى لم أقرأ القصيدة من قبل سألته: فى أى ديوان نشرت؟ فقال: إنها لم تنشر فى دواوينى، وحكى أنه كان ينوى نشرها ضمن مجموعة من القصائد كان قد كتبها قبل قصائد "مدينة بلا قلب" لكنه نشر الديوان أولا؛ استثمارا لبداية حركة الشعر الحر، وحينما سافر إلى فرنسا أودع هذه المجموعة "الأولية" عند الكاتب الراحل الكبير رجاء النقاش، وحينما عاد أودعها شقته بوسط البلد، وضاعت إلى غير رجعة، وأثناء الحديث تذكر حجازى أن قصيدة "عشرون عاما" سبق ونشرها هى وقصيدة أخرى معنونة ب"بكاء الأبد" فى مجلة الرسالة الجديدة، وقال هاتان القصيدتان لا يعرف عنهما أحد شيئا وحاولت أن أستدعيهما من الذاكرة فلم أنجح، فسألته: هل هذه المجلة هى التى كان يصدرها "الزيات"؟ فقال لا، هذه المجلة أنشأت بعد الثورة، وكان يرأس تحريرها يوسف السباعى ويديرها محمد أنور السادات!
مجلة ثقافية أنشأت فى أوائل الخمسينيات، رئيس تحريرها ومديرها من أعضاء مجلس قيادة الثورة، إذن فهى من النوعية التى يطلق عليها اسم "مجلات البرستيج" التى لا يقصد من ورائها إلا تجميل أوجه الأنظمة الحاكمة وتبنى التيارات الجديدة للإيهام برجعية الأنظمة الغابرة، وقد كانت الثورة سبَّاقة فى هذا، فأنشأت دار التحرير التى تصدر جريدة الجمهورية لنفس السبب، ولأن تتابع الأنظمة الحاكمة الجديدة فى مصر عادة ما يرتبط بطمس معالم النظام السابق؛ ولأن الإهمال والتراخى وصل بالمؤسسة الرسمية إلى مداه؛ كانت مهمة العثور على مجلة "الرسالة الجديدة" "مهمة صعبة" تتطلب مهارات غواص مُدَرَب، وآثارى حاذق، ولما كان البحث عن قصائد حجازى المغمورة، ضروريا لترميم وجهة النظر التى يجب أن نتبناها تجاه مشروعه الشعرى، رأيت أنه من الضرورى أن أجد هاتين القصيدتين، والمكان الأول وربما الأخير الذى من المفترض أن تكون به المجلة هو "دار الكتب المصرية" أو "متاهة الكتب المصرية" كما يحلو لى أن أسميها، والرحلة فى (دار/ متاهة) الكتب تبدأ هكذا: تدون بياناتك كاملة، وسبب الزيارة، ووقتها، والمكان المقصود، وبعد كل هذا تترك بطاقة هويتك التى لن تستردها إلا عند "المغادرة"، ثم الحصول على "تأشيرة" بها "رقمك كزائر" ومكان تواجدك، وبعد الوصول إلى قاعة الدوريات مهاراتك تنحصر فى القدرة على الانتظار، لأن بعد أن تبحث عن رقم "الفيش" المدون به المجلة، وتكتبه فى بطاقة الاستعارة، عليك أن تجلس هادئ البال مطمئنا، متحفزا لسماع اسمك من العامل الذى يأتى كل نصف ساعة تقريبا لينادى على أسماء من وجد مطلبهم، وإن لم تسمع اسمك عليك أنت تنتظره فى المرة القادمة وربما بعد القادمة.
كل هذا يحدث بطريقة آلية وشبه دائمة حلى تعوَّد مرتادو ال"دار" على هذا، لكن حينما يكون مطلبك هو "مجلة الرسالة الجديدة" لابد أن تتحلى بصفات أخرى غير القدرة على الصبر، لأن العامل سيأتيك بعد "كثير" ليخبرك أن المجلة غير موجودة وعليك أن تبحث فى "الميكروفيلم"، والميكروفيلم هذا لمن لا يعرفه جهاز يشبه التليفزيون إلى حد بعيد به زران لتحريك "البكرة" المطبوع عليها المجلات للأعلى وللأسفل، وهذا الجهاز البدائى لا يتطلب أية مهارات ذهنية خاصة، وكل ما يتطلبه هو ظهر قوى وعين من حديد، وهذا أيضا لا يضر المعتاد ولا يجعله يتبرم، لكن ماذا ستفعل إذا أخبرك الموظف المبتسم أن المجلة غير موجودة فى "الميكروفيلم"؟
أشهر طويلة قضيتها باحثا عن مجلة الرسالة الجديدة، وفى آخر زيارة لدار الكتب ذهبت وأنا آمل أن تكون المجلة خرجت من الترميم، لكن إجابة الموظف المبتسم لم تتغير باستثناء خفوت الابتسامة، ولهذا كان لابد أن يتسلل أحدهم إلى المخزن (الذى يطلقون عليه فى دار الكتب اسم الترميم) ليستخرج المجلة ويأتى بها، وهذا ما حدث بالفعل. كدت أصيح مثل اينشتاين "وجدتها" قصيدتا "بكاء الأبد" المنشورة فى مارس 1955 و"عشرون عام" المنشورة فى فبراير 1957، ترقدان على الورق الأصفر الرقيق، ما أن تلمسه حتى يذوب بين يديك، لكن بعد أن ذهبت عنى الدهشة رويدا صحت صيحة الثانية كانت مختلفة تماما عن الأولى، كنت مثل "على بابا" حينما قال: "دهب، مرجان، ياقوت، أحمدك يا رب".
المادة التحريرية بالمجلة عامرة بالمفارقات والإشكاليات التى مازالت على حالها إلى الآن، فهناك دراسة عن الشعر الحر وهل سينتهى أم سيبقى؟ وحوار لطه حسين يقول فيه: إن ريادة الأدب تكاد تنسحب من مصر وتذهب إلى لبنان! وإن مصر غنية فى الرواية فقيرة فى الشعر! وفى باب بريد الشعر الذى كان يحرره الشاعر فوزى العنتيل كانت المفاجآت بالانتظار، فمن الواضح أن هذا الباب كان يحظى باهتمام بالغ من الشعراء الشباب، وهذا ما تدل عليه رسائل الشاعر الشاب "محمد عفيفى عامر مطر" محمد عفيفى مطر" الذى كان قد أرسل ثلاث قصائد إلى المجلة فكان رد العنتيل هكذا: "اخترنا من جملة قصائدك قصيدة ستنشر، أما القصائد الباقية فهى فى أكرم جوار(!) .. أرجو منك أن تهتم بتنويع إنتاجك فمن عيوب الشاعر أن يكون إنتاجه لونا واحدا تغنى فيه القصيدة عن البقية، وأمامى ثلاث مقطوعات هى فى الحقيقة قصيدة واحدة تتكرر، "غريب"، "غربة شاعر"، "من دموعى"، .. لست أوافقك فى أن الحب "يمر ساجد الخطوة"، لأن الحب عظيم متكبر، ولست معك فى أن أشواك الطريق أدمت قدميك، فأنا أرى أن القيد قيدك.. وأن وظيفة الشاعر هى أن يغنى للحياة وأن يسكب آلامه الصغيرة فى الحياة البشرية المتدفقة، وإنه ليسعدنى أن أسمع هتافك للحياة قويا رائعا" . أكتوبر 1955.
وهناك رسالة أخرى من الشاعر "السيد أحمد حجاب" (سيد حجاب)، كتب فيها شعرا بالفصحى، عن قناة السويس التى تحررت من الطغيان واختار منها العنتيل ثلاث أبيات لينشرها فى بريد القراء. آخر المهارات التى يجب أن يتحلى بها زائر دار الكتب هى "مهارة لص" يعرف طريقة سحرية لإخفاء الكاميرا وطريقة أخرى تمكنه من إخراجها واستخدامها دون أن يراه أحد، وهذا لأن الدار لا توفر خدمة التصوير الضوئى ولا الفوتوغرافى وممنوع اصطحاب الكاميرات الديجيتال أو الهواتف النقالة المزودة بكاميرا، وإن لم أكن أتمتع بهذه المهارة فمن الصعب أن ترى الآن هاتين القصيدتين.
بكاء الأبد
عندما أبدعنى الغور السحيق
من فنون الليل والصمت العميق
طوحت بى كفه فوق طريق
ضائع النجمة مجهول الرفيق
لست أدرى وأنا صمت وليل
كيف أشدو؟ كيف أعطيه الشروق
* * *
عندما قلت اعطنى يا رب حبا
يصطفى فى هيكل الأحلام نصبا
ويوشى لى بزهر الفن ثوبا
ويسوى لى بنور الحسن دربا
لم تجب بالأمس قلبا صارخا
فخسرت اليوم يا رباه قلبا
* * *
يوم بللت تراب المعبد
بدموعى فى الشعاع المجهد
مرسلا صوتى وراء الأبد
أنا لم أقتل ولم تسرق يدي
قبل خلقى فلماذا عذبتني
يد ربى فى الطريق الأسود؟
* * *
عندما هرولت فى تيه القرون
راكضا فوق الضحايا التائهين
قلت: يا رب اعطنى نور اليقين
قبل أن يجرفنى ليل الظنون
سكت الله فأورت لهبي
قهقهات فى طبول الثائرين
* * *
عندما قلت له: هبنى الضلال
واسقنى الكفر وآثام الليال
وارمنى فى الأرض أشلاء جمال
تنزوى فيها ثعابين الزوال
أبصرت عيناى كهفا صاخبا
ملحد الرقصة مخمور الظلال
ابك من أجلى يا رباه وابك
ابك من أجلى ولو ساءك شكي
ابك أزهارى أيا مبدع شوكي
ابك طيرا ذدته عن كل أيك
لو جرت آثامنا فى الأرض نهرا
ما ثأرنا منك يا رباه فابك
نشرت بمجلة الرسالة الجديدة مارس 1955
عشرون عاما
فى قريتى فوق الطريق
ان كنت صاحبت الطريق
جميزة تمتد من أغصانها أيدى الشروق
بجوارها نامت قبور
تعطى دماها للجذور
يا عابرا أكل الثمار مآلك الجذر الكبير
وتدور مائدة الظلال
وتنام أصوات الرجال
وعلى رياح العصر يمشى نوحها فوق الزوال
ويعود موكبنا العريق
يتلو على الصمت العميق
أسطورة أصغى لها من قبلنا هذا الطريق
من قبلنا كانت وكان
كأس معتقة الدنان
أطفال قريتنا ارتووا منها وماتوا من زمان
مروا هنا، لعبوا هنا
هشوا العصافير هنا
ثم استحموا فى الظلال وتمتموا: هيا بنا!
طافوا وهدهم الطواف
يرعون فى الأفق الخراف
كانوا خيالات تبين وتختفى خلف السجاف
اسأل عليهم من سماك
يا بدر وانظر من علاك
هل عاودوا الجميزة الخضراء أم ظلوا هناك
نسيت كأن لم تلقهم
نسيت أباهم قبلهم
نوحى عليهم يا سواقى الحى واسقى عهدهم
جميزة من ألف عام
طيرت من يدها اليمام
واليوم يا عمرى دفنت بظلها عشرين عام!
نشرت فى مجلة الرسالة الجديدة فبراير 1957
ما يضاعف من أهمية هاتين القصيدتين، كونهما لم تنشرا فى أى ديوان صدر للشاعر ولا حتى فى الأعمال الكاملة، ولم تتناولهما أية دراسة عنيت بقراءة شعر "حجازى". وإن صح القول إن: الشعر هو الصورة الحقيقية للشاعر؛ تكون دهشة مطالعة القصائد المبكرة لكبار الشعراء معادلة لدهشة مطالعة صورهم القديمة، وكلما ازدادت (الصورة/ القصيدة) فى القدم ازدادت أهميتها، والأمر يزداد تألقا وبهاء إن كانت هذه القصيدة نادرة وغير معروفة، وهذا كله ما يتحقق فى قصيدتى "بكاء الأبد"، و"عشرون عاما"، للشاعر الكبير أحمد عبد المعطى حجازى.
المفارق فى هاتين القصيدتين أن تاريخ نشرهما يقترب كثيرا من تاريخ كتابة العديد من القصائد المنشورة فى الديوان الأول لحجازى "مدينة بلا قلب" برغم أن الفارق الفنى بعيد جدا، فمثلا: التاريخ المثبت بديوان الشاعر يقول إن قصيدة "مذبحة القلعة" وقصيدة "الطريق إلى السيدة" تمت كتابتهما فى 1955، وهذا هو نفس تاريخ نشر قصيدة "بكاء الأبد"، أما قصيدة "عشرون عام التى نشرت فى 1957 فيقابلها فى نفس التاريخ معظم قصائد الديوان وأشهرها" لمن نغني، سلة ليمون، قصة الأميرة والفتى الذى يكلم المساء، أغنية الليل، ميلاد الكلمات، أنا والمدينة"، وفيما بين التاريخين كتبت قصائد "العام السادس عشر، عبد الناصر، كان لى قلب، إلى اللقاء"، وهذه القصائد التى اعتبرها النقاد آنذاك فتحا أسهم فى "حساسية العصر" وأضاف إليها، يستحيل مقارنتها بالقصائد المكتشفة من حيث الأسلوب وطريقة البناء وطبيعية التخييل الشعرى وحرفية تركيب الصورة، والتشكيل الكلى للقصيدة، وإذا فرضنا أن قصيدة "عشرون عاما" كتبت بعد أن أتم الشاعر عامه العشرين فبهذا يكون تاريخ كتابة القصيدة مثل التاريخ المثبت لكتابة "الطريق إلى السيدة" التى يعدها النقاد من أهم ملامح الحساسية الجديدة، وهذا وحده يفتح لنا باب البحث عن حقيقة تأريخ القصائد، فكيف يتغير خيال الشاعر بهذه الطريقة، وكيف يجد طريقه السريع إلى التطور، فى نفس الوقت الذى يحافظ فيه على الشكل السابق، والمضمون والرؤية الرومانتيكيين.
فى قصيدة "بكاء الأبد" يستهل "حجازى" بسرد سياق خلق أسطورى يتشابه كثيرا بطريقة المخالفة مع قصيدة "ميلاد شاعر" ل"على محمود طه" الذى يقول فيها:"جاء للأرض كالشعاع السني/ بعصا ساحر وقلب نبي"، فيقول حجازى " عندما أبدعنى الغور السحيق/ من فنون الليل والصمت العميق/ طوحت بى كفه فوق طريق/ ضائع النجمة مجهول الرفيق"، ثم يستعرض تجربته المفترضة فى التحاور مع المطلق الذى يأبق عنه فى آخر القصيدة قائلا: "لو جرت آثامنا فى الأرض نهرا/ ما ثأرنا منك يا رباه فابك"، وفى هذه النهاية التجديفية النزعة، يتشابه فيها مع المُنَظِر الأول لحركة الشعر الحر لويس عوض فى قصيدة malediction"" التى نشرت ضمن مجموعة بلوتولاند 1947 التى يقول فيها "خمسين سما فوق راسى، وما فهاش إله يسمع لى" التشابه لا نجده فقط فى النزعة التجديفية وحدها، لكنه يتميز بنفس المباشرة والاستسهال، بلا مقدمات توحى بعمق الأزمة الوجودية التى يترتب عليها هذا الصراخ، وهذا ما تخلص منه حجازى فى "مدينة بلا قلب" على الأقل.
وإذا نظرنا إلى القصيدة الأخرى "عشرون عاما" ضمن سياقها التاريخى من جهة وضمن مشرع حجازى الشعرى من جهة أخرى فسنجد أنها مثلت النواة الأساس التى ارتكز عليها الشاعر فى تجربته الشعرية، فالقصيدة تنطلق من إحساس عميق لمشهد متكرر قد تألفه العين ولا تلتفت له، وهذا المشهد هو صورة شجرة الجميز التى تبوح صامتة بجانب المقابر، فدارت القصيدة بين تداعى الذكرى، والتأمل الشعرى، والجدل مع مفردات المكان، ولعل من الواجب هنا أن نشير إلى ما تتميز به شجرة الجميز من تغلغل فى الوعى المصرى (الريفى على وجه التحديد)، ذلك لأنها تحتل مكانة مكينة فى مخيلة أهل الريف بما يصاغ عنها من حكايات شعبية، وبما تمثله من كونها علامة للسالكين، ومقصدًا للمتواعدين، ولعل ذلك الإحساس الحميمى المشوب بالرهبة تجاه شجرة الجميز قد تسرب إلى اللاوعى الجمعى للمصريين من خلال بعض الأساطير الفرعونية التى اعتبرت شجرة الجميز محط اهتمام الإلهة "حتحور" ربة الخصب والصبر معا، ومن هنا نستطيع أن نتفاعل مع ذلك الإحساس المركب تجاه تلك الشجرة بعينها.
عنوان القصيدة "عشرون عاما" يذكرنا بأول قصيدة فى الديوان الأول لشاعرنا الكبير، والمعنونة ب: "العام السادس عشر"، ومن العنوانين فقط نستطيع أن نتيقن من يقظة روح "حجازي" الشعرية تجاه عجلة الزمن، وكأن الشاعر يريد أن يصنع سيرة ذاتية شعرية يحاول من خلالها أن يرصد حرفيا الزمان والمكان، وما يدعم فكرة الاهتمام بالزمن ومكوناته فى هذه القصيدة هو حرص الشاعر على أن يرسم الصورة المكانية والزمنية فى أول ثلاثة أبيات من القصيدة مضيفا إلى ذلك الرسم ما يتخيله من أبدية وملكية تلك الشجرة التى يقول إنها "تمتد من أغصانها أيدى الشروق"، ويحذر "العابر" من أكل الثمار بأن مآله "الجذر الكبير" متماسا فى ذلك المعنى مع روح أبى العلاء المعرى فى قوله:
خَفّفِ الوَطْء ما أظُنّ أدِيمَ ال أرْضِ إلاّ مِنْ هَذِهِ الأجْسادِ
ومن خلال استدعائنا واستدعاء الشاعر من قبلنا للمعنى الذى طرحه "المعري" يتضح مدى إيمان الشاعر بملكية وأبدية شجرة الجميز حيث يجعلها موازية للأرض التى نمارس عليها الحياة أو يجعلها بديلا عنها، وفى نهاية القصيدة يصور تلك الحالة المتعالية لتلك الشجرة بقوله إنها: "نسيت كأن لم تلقهم/ نسيت أباهم قبلهم"، ويرتضى بدفن عمره تحت شجرة الجميز، فى إشارة إلى إتمام دورة الحياة بالتواصل والتوارث، خلافا للتجارب الأخرى التى تشترط الانقطاع، وهذا يدل على ثبات الموقف النظرى للشاعر منذ بدايته إلى الآن.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.