لا تصدق أن كل بلاد العالم يسكنها أغنياء بل الفقر فى كل مكان وإن كان بنسب مختلفة ولكن فى النهاية هو الفقر الذى يعنى الحرمان والتشرد والجوع. فى سويسرا كما فى أمريكا وفرنسا وكندا آلاف المشردين بلا مأوى تجدهم يجوبون الشوارع أو قابعين أمام المحال أو متنقلين بين إشارات المرور يحملون لافتات تعلن فقرهم ومرضهم وطلب المساعدة. فى أحد البرامج التليفزيونية التى عرضتها إحدى القنوات الفرنسية بمناسبة بداية عام 2010 دعت القناة وزير خارجية فرنسا وزوجته لعشاء يناقش قضايا فرنسا بصحبة زوجين شابين.كانت المفاجأة عندما حكى الاثنان أنهما بلا مسكن وأنهما يعيشان فى خيمة نصباها فى إحدى الغابات شرق باريس لأنهما غير قادرين على استئجار غرفة رغم أن كلا منهما لديه قدر من التعليم وشهادات دراسية. كان البرنامج أشبه بالذى يقدمه الإعلامى القدير عمرو الليثى «واحد من الناس» ولكن على الطريقة الفرنسية التى لا تذهب فيها الكاميرا إلى الناس فى الأحراش التى يعيشون فيها وعندما تجىء بهم فى صورة تظهر آدميتهم التى لا تختلف عن أى واحد آخر ثم تكون المفاجأة عندما يكشفون عن حقيقة أوضاعهم. فى باريس مدينة النور والموضات والبارفانات والأناقة هناك الآلاف من عينة الزوجين اللذين يعيشان فى خيمة ويعتمدان فى طعامهما على «مطاعم القلب» وهى مطاعم وصل عددها فى فرنسا إلى 200 مطعم تقدم ملايين الوجبات الساخنة، للفقراء والمشردين فى فرنسا. والذين يقصدون هذه المطاعم يعرفون مواقعها فى باريس وفى المدن الفرنسية الكبرى ويقفون فى السابعة مساء فى طوابير طويلة انتظارا لوصول الشاحنات التى تحمل أوانى الأطعمة الساخنة والخبز والفاكهة لتوزيعها بمعرفة عدد كبير من الرجال والنساء الذين يعملون فى المشروع متطوعين. ومن المثير أن هذه المطاعم بدأت قبل 25 سنة على يد فنان كوميدى فرنسى اسمه كولوش لمع اسمه بين الخمسينيات والستينيات واشتهر فى ذلك الوقت بالسخرية من رجال السياسة الفرنسيين ولم يكتف بذلك بل رشح نفسه لرئاسة الجمهورية فى انتخابات 1981 وكان من بين ما أعلنه فى برنامجه الانتخابى حلمه أن يوزع 2000 وجبة مجانية على الفقراء الذين يلتقيهم كل يوم فى باريس. سقط كولوش فى الانتخابات لكنه ظل متمسكا بحلمه إلى أن تمكن فى عام 1985 من تحويله إلى حقيقة وإنشاء مشروعه الذى أطلق عليه «مطاعم القلب» بمساعدة أصدقائه الفنانين والمتطوعين الذين شاركوه تقديم برنامج تلفزيونى يدعم هذه المطاعم ويجمع التبرعات. مات «كولوش» فى حادث موتوسيكل فى السنة التالية 1986 لكن مشروعه لم يمت فقد وجد آلاف المتطوعين الذين دفعوا به ونشروه فى باريس وكل فرنسا حتى أصبح رمزا للعمل التطوعى والتكافلى. وأصبحت هذه المطاعم التى وصل عدد المتطوعين فيها أكثر من 52 ألف متطوع أساس حياة آلاف الذين لا يستطيعون توفير الطعام. ورغم نسيان تاريخ كولوش كمهرج ساخر سليط اللسان لا يتورع عن تعاطى المخدرات فإن حلمه «مطاعم القلب» جعل سيرته فى كل قلب. قرأت تصريحا لأحد الرؤساء المتطوعين لمشروع مطاعم القلب يقول إن هذه المطاعم فى الشتاء الماضى قدمت مائة مليون وجبة تقاسمها أكثر من 800 ألف من بينهم 327 ألف طفل ويضيف الرئيس التطوعى للمشروع أنها مطاعم تشبه تقليدا إسلاميا قديما هو «موائد الرحمن» التى تقام طوال شهر رمضان لكى يفطر عليها فقراء الصائمين. لكن المهم فى مطاعم القلب أنها لا تكتفى بتقديم الوجبات لمن يطلبها بصورة المن وإنما بطريقة تعيد فيها إلى ذاكرة كل رواد تلك المطاعم روح الفكاهة التى كانت تميز «كولوش» الذى كان يرتدى ثيابا ملونة مثل مهرجى السيرك ويضع على أنفه كرة حمراء. لذلك فإن من يدخل إلى مطعمه يجد الجدران ملونة، والموسيقى صادحة، والطهاة بشوشين. وهناك جو من التضامن والفرح الإنسانى يلف الجميع، متطوعين وزبائن. تقول صحيفة الشرق الأوسط فى تقرير نشرته عن هذه المطاعم إنه لأن كولوش كان من هواة ركوب الدراجة النارية وبسببها لقى مصرعه، فإن جمعيات راكبى الدراجات فى فرنسا أخذت على عاتقها أن تبعث بمنتسبيها إلى المدن والقرى البعيدة، يجوبون والشوارع بدراجاتهم لكى يجمعوا التبرعات ل(مطاعم القلب). فمن يصدق أن هذه المؤسسة الخيرية تتمتع اليوم بميزانية سنوية تصل إلى 158 مليون يورو! ويأتى معظم هذا المبلغ من تبرعات الناس حيث تبرع لها نصف مليون شخص، فى العام الماضى، كما جاء من عوائد بيع أسطوانات فنانين دعموا المبادرة. شىء من هذا يحدث فى مصر. فهناك مشروع اسمه (بنك الطعام) لا أعرف إن كان مستمرا أم واجهته المصاعب، فقد حضرت بداية نشاط قامت به إحدى الجمعيات الخيرية التطوعية وهى جمعية (خير وبركة) وقد بدأت نشاطها بالاتفاق مع الفنادق الكبرى على جمع الطعام الذى يفيض فى الأفراح والحفلات وإعداده بطريقة لائقة وتوزيعه على الفقراء، ولكن المشروع إحتاج تمويلا كبيرا وواجه مخاطر فساد الطعام وما ينتج عن ذلك فانتقل نشاط الجمعية إلى اختيار منطقة بالغة الفقر والعشوائية هى منطقة عزبة خير الله بمصر القديمة وبدأت برنامجا يسير بخطى كبيرة لرفع مستوى المنطقة وسكانها. متناقضات العصر من متناقضات عصرنا أننا أصبحنا نمتلك عمارات أطول ولكن وجهات نظر أكثر ضيقا، وأننا ننفق أكثر ولكن نتمتع بالحياة بصورة أقل. كما أصبحنا نمتلك بيوتا أكبر، ولكن عائلاتنا أصبحت أصغر، كما أن شهاداتنا أعلى ولكن مداركنا أقل، ومعرفتنا أوسع ولكن أحكامنا أضيق، ومشاكلنا أكثر ربما لأن الخبراء بيننا أكثر. كما أن صحتنا أصبحت أضعف بالرغم من زيادة أدويتنا وأطبائنا كماً ونوعية. وأصبحنا نشرب أكثر وندخن بشراهة ونصرف بغير تدبير ونضحك بدرجة أقل، ونقود السيارة بسرعة ونغضب بسرعة أكبر، ونطيل السهر ونقوم من النوم متعبين ومتأخرين، ونقرأ أقل ونشاهد التليفزيون أكثر وفوق هذا نادرا ما نفكر بالروحانيات. وبالرغم من أننا نجحنا فى مضاعفة ثرواتنا، كأمم وأفراد، فإن قيمنا تناقصت. وأصبحنا نتكلم كثيرا ولكن نحب بدرجة أقل، ونكره هذا ونبغض ذلك. وبالرغم من نجاحنا فى خلق حياة لأنفسنا فإننا فشلنا أن نحياها بطريقة سليمة، وأضفنا سنوات لعمرنا ولكن لم نضف قيمة لتلك السنوات. ونجحنا فى الوصول للقمر إلا أننا واجهنا صعوبة فى الوصول والتواصل مع جارنا عبر الشارع. وتمكنا من اختراق الفضاء الخارجى ولكن عجزنا عن ملامسة فضائنا الداخلى! كما نجحنا فى تنظيف مناطق كبيرة من التلوث ولكن نسينا تنظيف أرواحنا من الأحقاد والضغائن، وأصبحنا نكتب أكثر ونتعلم أقل، وما تعلمناه هو أن نستعجل ولكن فشلنا فى أن نتروى! كما صنعنا كمبيوترات أضخم بإمكانها خلق نسخ أكثر وتقارير أشمل، ولكن تواصلنا مع بعضنا أصبح أقل وأقل. وأصبح عصرنا عصر الأكلات السريعة والهضم المتكاسل، وأجسام أكبر ولكن شخصيات أصغر وأضعف. وأصبحنا نعيش عصر الدخل العائلى المزدوج ولكن بحالات طلاق أكثر. ونسكن بيوتا أجمل ولكن بشروخ عائلية أكثر.. إنه عصر السرعة فى السفر واستخدام الحفاظات والمناديل الورقية وكل شىء استهلاكى سريع، وأصبحت صيدليات المنزل تحتوى على أدوية للكآبة والترهل وخلق السعادة الوهمية والشعور المزيف لسكون والاطمئنان! إنه عصر يأتى لك فيه هذا المقال بأسرع من لمح البصر فإما أن تأخذ بمعانيه، أو ببعضها على الأقل، أو تقلب الصفحة وتستمر فى حياتك، ولكن قبل أن تفعل تذكر أن من المهم أن تقضى وقتا أطول مع من تحب فلن يكون من حولك إلى الأبد، وأن تضم صغارك إلى صدرك وتقول لهم كلمة حانية فهؤلاء أيضا لن يطول مكوثهم حولك عندما يكبرون ويذهبون لحال سبيلهم..). هذه السطور السابقة نشرها الكاتب الكويتى أحمد الصراف فى صحيفة القبس نقلا عن صاحبها الأصلى الساخر الأمريكى جورج كارلن الذى مات فى عام 2008 عن 71 عاما وكان مثيرا للجدل بسبب مهاجمته للأديان وكلماته اللاذعة. من حكاياته ما اشتهر بقضية كارلن لأنه فى برنامج فكاهى كان يذيعه من إحدى الإذاعات قدم فقرة عنوانها (سبع كلمات بذيئة لا يجب أن تقولها فى التليفزيون). وقد أقام مواطن فى نيويورك دعوى ضد محطة الإذاعات لأن الفقرة الفكاهية آذت ابنه الصغير القاصر الذى سمعها معه فى السيارة. وقد رفضت محكمة أول درجة دعوى الرجل ولكن فى المحكمة العليا صوت خمسة ضد أربعة لصالح المواطن التى ذكرت إن العرض بذىء ولكنه ليس فاحشا وبالتالى يمنع عرضه من السادسة صباحا حتى العاشرة مساء لأنه لا يلائم الأطفال.