أقول وللشاعر الحقيقي شيطان آخر يلهمه بأحلي الألفاظ وأجمل المعاني غير شيطانه الخاص الذي يوحي له بعرائس الشعر.. هذا الشيطان الآخر متمثل في ملهماته اللائي يقدم لهن ذوب قلبه بتقاطر في حروف وكلمات, وأنات ألمه تتجسد في أبيات وقصائد, ولذلك تغني الشعراء بالملهمات, وأفردوا لهن عشرات القصائد علي اعتبار أنهن يقدمن للشعراء أفاقا جديدة تزدهر بها فنون الشعر, حتي أصبحت هذه الملهمات حقيقة ذات وجود وأنهن يتصفن بالعفة والفضيلة, فليست ليلي ملهمة قيس, أو عبلة ملهمة عنترة, أو عفراء ملهمة عروة أو أي واحدة منهن أو غيرهن سقطت في الرذيلة يوم التقت بشاعرها, بل ظلت العفة سلوكا تتمسك به.. الواحدة منهن كامرأة يتفجر الإلهام من نظراتها, وتفيض احلي الكلمات من بسماتها, وتتدفق أجمل المعاني من رنين صوتها,, امرأة استطاعت أن تملأ خيال الشاعر بالسحر والألق كما يملأ الربيع الشجر بالورد والزهر, فيتعلق بها كما تتعلق الأرض بحبات المطر في مواسم الجدب والجفاف.. حتي قيل ما من شاعر حقيقي أو كاتب كبير إلا وقد اقترن اسمه باسم واحدة منهن قالوا عنها بأنها ملهمته, ولذلك يخطئ من يظن أن ملهمة الشاعرأو شيطانه الآخر تمثال جميل بلا روح, بل علي العكس إن اكثر الملهمات إما متذوقات للشعر أو قائلات له. ولذلك يفتن بهن الشعراء, ويقولون فيهن أجمل القصائد, واذا كانت الملهمات تتمتعن بجوانب الحسن والجمال, فإنهن أيضا علي قدر من الذكاء والثقافة, والأمران معا يخطفان انتباه الشاعر, ويشدانه اليها. وكم من امرأة الهمت بذكائها وسحر حديثها وجدان الشاعر وألهبت خياله. وفي الأدب العربي أمثلة لهذه ألملهمات, نتبينها في العديد من المصادر ومنها ما كتبته الشاعرة الفلسطينية مي حلوش.. مثلا في العصر الجاهلي نجد فاطمة ملهمة امرئ القيس يقول فيها شعرا: أفاطم مهلا بعض هذا التدلل.. وإن كنت أذمعت صرمي فأجمل/ أغرك مني أن حبك قاتلي.. وأنك مهما تأمري القلب يفعل أو قيس بن الملوح الذي يقول في ليلي العامرية: أمر علي الديار ديار ليلي.. أقبل ذا الجدار وذا الجدار/ وما حب الديار شغفن قلبي.. ولكن حب من سكن الديار, وصور أخري للغزل في الملهمات علي لسان شعراء أفذاذ مثل عنترة بن شداد, وطرفة بن العبد, وزهير بن أبي سلمي وعمرو بن كلثوم.. كل واحد منهم كانت له ملهمته التي قال فيها الشعر, وفي عصر صدر الإسلام نجد عمر بن أبي ربيعة يقول في ملهمته زينب: أحدث نفسي والأحاديث جمة.. واكبر همي والأحاديث زينب/ إذا طلعت شمس النهار ذكرتها.. وأحدث ذكرها والشمس تغرب, وقصائد أخري نظمها شعراء منهم عروة في ملهمته عفراء, والحرث المخزومي في عائشة بنت طلحة أجمل نساء العرب وزوجة مصعب بن الزبير, وقيس بن ذريح في لبني, وكثير في ملهمته عزة, وجميل بن معمر في ملهمته بثينه, وفي العصر العباسي نجد الشاعر الكفيف بشار بن برد يقول في ملهمته عبده: ياقوم أذني لبعض الحي عاشقة.. والأذن تعشق قبل العين أحيانا أو أبونواس الذي يقول في ملهمته جنان. سجد الجمال لحسن وجهك.. واستراح إلي جمالك. وفي العصر الاندلسي نجد ابن زيدون يقول في ولادة بنت المستكفي إني ذكرتك بالزهراء مشتاقا/ والأفق طلق ووجه الأرض قد راقا كما نجد نار الهوي تكوي قلب كل من الإمام ابن حزم والملك ابن عباد في ملهميتهما. وفي العصر الحديث نجد عملاق الفكر العربي العقاد يتحول قلمه الجبار إلي قلب صغير ينبض بأجمل المشاعر وأرق الأحاسيس حين يقول في ملهمته الفنانة السمراء: تريدين قلبي خذيه خذيه.. رويدك لابل دعيه دعيه/ دعيه إذا غبت عني أري محياك وحبي فيه كما نجد أشعارا في الملهمات لكل من إبراهيم ناجي في زوزو حمدي الحكيم, وجبران في حلا الضاهر, وعمر أبوريشة في سعاد وبشارة الخوري في ملكه الصبا والجمال وغيرهم.