كانت بريطانيا أكبر إمبراطورية في التاريخ, حيث سيطرت في مطلع القرن العشرين علي ربع سكان العالم وربع اليابسة تقريبا, وامتدت لكل القارات والمحيطات, فكانت لاتغرب عنها الشمس. وتم بناء الإمبراطورية علي مدي ثلاثة قرون في مراحل متعاقبة من التوسع باستخدام التجارة والاستيطان والحرب والفتوحات. واستندت الإمبراطورية علي دعامات ثلاث: الأسطول الملكي لحماية خطوط الملاحة,مع اضطرار المنافسين للتأمين علي سفنهم ضد القرصنة في مؤسسة اللويدز كضريبة للأمان, ثم سيطرت بنوك لندن علي التمويل والائتمان البنكي العالمي وتحكم بنك إنجلترا في الذهب ومناجمه في العالم مكنه من إغراق الأسواق المنافسة بفيضان صادرات بريطانية يقتل الإنتاج المحلي,وأيضا السيطرة علي مصادر الخامات الأساسية والمحاصيل والمعادن والبترول عالميا. كما طورت بريطانيا سياسة معقدة وفعالة للإبقاء علي نفوذها العالمي تحت شعارات براقة كالتجارة الحرة, فيما عرف بالإمبراطورية غير الرسمية( المقنعة) باستخدام التمويل والائتمان لتكوين روابط اقتصادية ومالية أقوي من الاستعمار السافر. وذلك بجعل اقتصاد المستعمرات معتمدا علي التجارة مع الامبراطورية من خلال تجار محليين تتوقف ثرواتهم علي تلك التجارة, فيتفانون في الدفاع عن استمرار أوضاع التبعية. فكان الاختراق التجاري والمالي يؤدي إلي السيطرة السياسية. وكانت الروابط الاقتصادية تستخدم لإلحاق المستعمرات بالاقتصاد الإمبراطوري المتنامي وتحقيق التبعية الاقتصادية. وكانت بريطانيا تنشر ملكها ونفوذها بالوسائل المقنعة ما أمكن, وبالاحتلال والضم السافر عند الضرورة, وتتراوح بسلاسة بين هذين النوعين من الاستعمار طوال تاريخ انتشارها المتواصل بلا انقطاع. فتصدير رأس المال والنظم المالية والمنتجات الصناعية وهجرة المواطنين ونشر اللغة الإنجليزية ونظريات الحكومة كانت كلها إشعاعات للحيوية الإمبراطورية, مع انتشار وتطوير مستمر للأسواق الخارجية. وكانت تبعية المستعمرات للتاج البريطاني من عدمها أمورا ثانوية. ولم تكن حكومات المستعمرات أبدا أداة للانفصال, بل مجرد تغير في وسائل التحكم من الطريقة السافرة العسكرية إلي المقنعة الاقتصادية. وكان نوع الاستعمار والسيطرة يتحدد بالظروف السياسية والاجتماعية للمنطقة وبالأحوال العالمية ككل. وكانت القوة السافرة تتدخل في المناطق الضعيفة عندما تفشل السياسات الأخري في تحقيق التبعية التجارية والإستراتيجية. وكان يتم ضم أسواق ومصادر خامات جديدة حسب الحاجات المتطورة للصناعة البريطانية. بحيث كانت الإمبراطورية البريطانية السافرة والمقنعة وسائل متكاملة لتحقيق التوسع التجاري والاستثماري والاستيطاني والثقافي. فلم يكن الحل مع دولة متمردة علي نظام التجارة الحرة هو مجرد قذفها بمدافع السفن, بل كان يتم التعامل معها بمرونة, وتبعا لقوتها السياسية واستعداد حكامها للتعاون, وإمكانية التغيير الاقتصادي دون اللجوء للقوة, وحسب الظروف والإقليمية والعالمية, وأيضا تبعا لقدرة المنافسين علي عرقلةالسياسة البريطانية. فعلي مدي مائتي سنة تطورت العلاقات بالهند من مقنعة إلي اتحاد رسمي لعلاقة مقنعة مرة أخري بعد الحرب العالمية الثانية,وكحال ألمانيا واليابان الغامض الآن بعد استسلامهما بلا قيد أو شرط في نهاية الحرب. وقد استلزم نمو الصناعة البريطانية ربط مناطق جديدة بالتجارة الخارجية البريطانية, والتدخل بالقوة لفتح أسواق أغلقتها القوي المنافسة, كما حدث عند الاستيلاء علي الهند الغربية من فرنساوإسبانيا. وعادة كان ينهمر بعدها طوفان الواردات البريطانية, مع إجراءات سياسية واقتصادية واجتماعية تمنع غلق الأبواب مرة أخري. كما هرب الأسطول البريطاني الأسرة المالكة البرتغالية لمستعمرة البرازيل البرتغالية لحمايتها من نابليون, مقابل معاهدة تجارية دائمة وغير قابلة للإلغاء عام1810 تمتعت بمقتضاها الواردات البريطانية للبرازيل بجمارك أقل من واردات البرتغال. واعترفت بريطانيا بالأرجنتين والمكسيك وكولومبيا مقابل توقيع معاهدات تجارية معهم. كما توسعت الإمبراطورية بعقد معاهدات صداقة وتجارة حرة فرضت علي الدول الأضعف, كما حدث مع إيران وتركيا واليابان وزنزبار وسيام والمغرب, أو بالحصول علي ضمانات لفتح أسواق مناطق معينة أمام التجارة البريطانية مقابل الاعتراف بالنفوذ السياسي للقوي الأوروبية الأخري فيها, بحيث تتحمل القوي الأوروبية أثقال الحكم وحفظ النظام وينعم البريطانيون بمزايا التجارة, كما حدث مع البرتغال في الكونجو ومع ألمانيا في شرق إفريقيا, بل ونجحت في مؤتمر فيينا عام1814 في مبادلة حق السيطرة علي البحار مقابل تنازلات للقوي الأوروبية مصممة للإبقاء عليها منقسمة وأضعف من منافسة بريطانيا. كما طورت دبلوماسية لتحقيق توازن القوي الأوروبية بتكوين أو تمويل التحالفات ضد أي دولة تبدو علي وشك السيطرة علي المناطق الممتدة من روسيا إلي إسبانيا في أي وقت. وكان وضع المناطق تحت الحماية البريطانية واعتراف القوي الأخري بهذا من وسائل الظفر بالمزايا وتجنب الاستعمار المباشر وأعبائه العسكرية. لكن تحدي المنافسين للسيطرة البريطانية في بعض المناطق وغياب المؤسسات السياسية المحلية القادرة علي حفظ النظام بسبب تطبيق سياسة لإضعافها والسيطرة عليها, أدت أحيانا إلي اضطرار بريطانيا إلي التدخل المباشر لمنع الفوضي, كما حدث في مصر. فقد دمرت القروض الأجنبية الاقتصاد المصري في سبعينيات القرن التاسع عشر, وأدت الإجراءات البريطانية الفرنسية المصممة لتأمين المستثمرين الأجانب إلي إثارة الشعور الوطني. ومع ثورة عرابي عام1881 لم تستطع حكومة الخديو تأمين قناة السويس واستقطاع رطل اللحم الذي يقتطعه المرابون من الجسد المصري. فاضطرت بريطانيا للتدخل عسكريا لإعادة الاستقرار وتشكيل حكومة تابعة تحت السيطرة الشكلية للخديو. واضطر جيش الاحتلال للبقاء لحفظ الأمن وتحصيل الديون وإدارة الدولة; والتحكم بالقوة السافرة حتي جلائه بعد الثورة. ودروس التاريخ عظيمة الفائدة, وأهداف القوي الإمبراطورية الماكرة لم تتغير كثيرا. وفي السياسة الدولية, السذج يمتنعون. المزيد من مقالات د. صلاح عبد الكريم