تتفنن دول الغرب بزعامة أمريكا فى تطوير أساليب سيطرتها على دول العالم الأضعف بهدف نهب مواردها وتركيع إرادتها، فبعد أن انتهى الاستعمار التقليدى من العالم.. أو كاد مع استثناءات قليلة مثل احتلال العدو الصهيونى للأرض الفلسطينية. . تتفنن دول الاستعمار فى ابتكار أساليب حديثة لاستمرار سطوتها، وقد نشرت جريدة «الجارديان» البريطانية فى 7 مايو مقالاً متميزاً لكاتبها جورج مونييوت يفضح هذه الأساليب الحديثة فتحت عنوان: «الامبرالية لم تنته.. إنهم يسمونها حالياً القانون الدولى»، يقول الكاتب إن العدل أحادى الجانب يرى الأمم الأضعف تعاقب بينما الأمم الغنية والشركات العملاقة تمارس نفوذها حول العالم. ويشرح مونييوت كلامه قائلاً إن إدانة تشارلز تيلور، رئيس ليبريا السابق، قد أرسلت رسالة واضحة للرؤساء الحاليين، وهى أن علو المنصب لا يسبغ حصانة على شاغله، والواقع أن الرسالة كانت من شقين: وهى أنه إذا كنت على رأس دولة صغيرة ضعيفة فإنك قد تكون هدفاً لكل وطأة القانون الدولى، ولكن لو كنت على رأس دولة قوية فليس هناك ما تخشاه فكل من يهتم بحقوق الإنسان يرحب بحكم محكمة العدل الجنائية الدولية بإدانة رئيس ليبريا فى جرائم قتل مواطنيه، ولكن هذا الحكم يذكرنا بأنه لم يتحمل أحد للآن نتائج الحرب غير المشروعة ضد العراق ويتماشى ذلك مع التعريف الذى ساقته المحكمة عن «جريمة العدوان» الذى صدر من محكمة جرائم الحرب فى نورمبرج بعد الحرب العالمية الثانية وسمته المحكمة «الجريمة الدولية الكبرى»، وهى الاتهامات التى كان مفروضاً فى ظل نظام قانونى محايد توجيهها إلى جورج بوش وتونى بلير ومعاونيهما، فهى جرائ أشد وحشية من الجرائم التى أدين تيلور رئيس ليبريا بسببها. يزعم وزير الخارجية البريطانى وليام هيج أن إدانة تيلور توضح أن هؤلاء الذين ارتكبوا أبشع الجرائم يمكن القبض عليهم ومحاسبتهم على أعمالهم ولكن محاكم جرائم الحرب الدولية التى أنشئت منذ عشر سنوات، وجريمة العدوان قد تم تحديدها فى القانون الدولى منذ سنة 1945، ورغم ذلك فليس للمحكمة سلطة على «أبشع الجرائم»، وذلك لأن الدول القوية لأسباب واضحة تسوق فى تنفيذ العدالة الدولية، ولم تدخل أى من بريطانيا أو أمريكا أو غيرها من دول الغرب «جريمة العدوان» فى قوانينها، فالقانون الدولى يبقى مشروعاً إمبريالياً لا تعاقب فيه إلا الدول التابعة على ما ترتكبه من جرائم. وفى هذا الخصوص يتماشى صندوق النقد الدولى مع القوى العظمى، فرغم ما يتشدق به من إصلاحات يبقى الصندوق تحت السيطرة الأمريكية والقوى الاستعمارية السابقة، فكل الأمور الدستورية بالصندوق تحتاج إلى موافقة 85٪ من الأصوات، ولأسباب غير مفهومة تحتفظ أمريكا بحصة قدرها 16.7٪ من الأصوات وبذلك تضمن حق الفيتو ضد أى قرار للصندوق لا يعجبها، ولبلجيكا مثلاً ثمانية أمثال عدد الأصوات المخصصة لبنجلاديش، ولإيطاليا حصة فى الأصوات أكبر من الهند، وتملك بريطانيا وفرنسا معاً أصواتاً تفوق أصوات 49 دولة أفريقية، ويقضى العرف الإمبريالى أن يكون العضو المنتدب للبنك أوروبياً وأن يكون نائبه أمريكياً. ونتيجة لذلك فإن صندوق النقد الدولى مازال هو الأداة التى تستخدمها أسواق المال الغربية لفرض سيطرتها على باقى دول العالم، وعلى سبيل المثال، ففى نهاية العام الماضى، نشر الصندوق تقريراً يحصن الدول النامية على زيادة «عمقها المالى»، ويعنى بذلك أن تزيد هذه الدول من عرض كل المطالبات المالية والمطالبات المضادة لاقتصادها على العالم، بزعم أن ذلك يجنبها الأزمات الاقتصادية، وكما يوضح مشروع بريتون وودر، فإن الدول النامية ذات الاقتصاد الكبير والسوق المالية المحدودة لا تكون عرضة للأزمات الاقتصادية الناتجة من اقتصادات الدول المتقدمة ذات الأسواق المالية الكبيرة، وكما ضغط صندوق النقد الدولى فى ثمانينيات وتسعينيات القرن الماضى على الدول الآسيوية لتحرير عملتها مما مكن المضاربين الغربيين من ضرب هذه العملات، فإنه لا يمكن فهم تصرف البنك الدولى إلا فى ضوء أنه أداة فى يد قوى المال الكبرى فى الغرب وتعود بنا الذاكرة إلى «حرب الأفيون» التى شنتها بريطانيا على الصين فى القرن التاسع عشر بزعم حرية التجارة الدولية، ولو كانت البضاعة هى الأفيون. إن تصفية الاستعمار القديم لم تتم إلا بعد أن وجدت القوى الاستعمارية وإمبراطوريات المال التى تخدمها وسائل جديدة لاستمرار سيطرتها على العالم، بعض هذه الأدوات مثل البنك الدولى وصندوق النقد الدولى بقى دون تغيير، ولكن هناك برامج أخرى ابتكرها الاستعمار لاستمرار سيطرته على العالم. وتوضح لنا جريمة اختطاف عبدالحكيم بلحاج وزوجته ما يمكن أن يلجأ له الاستعمار الحديث من أساليب، فقد قامت وزارة الخارجية البريطانية والمخابرات البريطانية بدور بوليسى دولى يضع أنفه فى شئون الدول الأخرى، ففى سنة 2004 قرر تونى بلير أن معمر القذافى كان كارتاً رابحاً فى سبيل حصول بريطانيا على حصة من النفط الليبى فى صورة عقود تحصل عليها شركات النفط البريطانية، وقدم بلير عربون الصداقة للقذافى بالقبض سراً على المعارض الليبى عبدالحكيم بلحاج وشحنه مع زوجته إلى القذافى فى ليبيا. ومثل الجرائم الاستعمارية التى ارتكبتها الحكومة البريطانية فى كينيا وغيرها من الدول، والتى غطت عليها وزارة الخارجية البريطانية حتى تم الكشف عنها عندما رفع الحظر عن الأرشيف السرى الشهر الماضى، ظلت هذه البرامج محجوبة عن الجمهور، وكما كذب وزير المستعمرات البريطانى آلان لينوكسى بويد، على البرلمان مراراً بخصوص وقائع سجن وتعذيب أفراد قبائل الكيكويو، فإن جاك سترو، وزيرالخارجية سنة 2005، كذب بدوره على البرلمان فأعلن أنه «ليس هناك أى حقيقة فى أن الحكومة البريطانية كانت طرفاً فى أى جرائم خطف وتعذيب معارضين أجانب. وعندما نقرأ رسائل e.mail المتبادلة بين جيمس ميردوخ وجيرمى هنت يصدمنا أن نكتشف أن الحكومة البريطانية تقوم مرة أخرى بدور عميل لإمبراطورية هى إمبراطورية ميردوخ الإعلامية فى هذه الحالة، وتنظر للناخبين باستخفاف، وفى قيامها بالعمل ضد الصالح العام لحساب شركات أخبار عملاقة وقوى مالية ضخمة ومليارديرات ممن يمولون حزب المحافظين، نرى وزراء حكومتنا يعملون لحساب دوائر المال العليا، ويحكمون بريطانيا كما كان أسلافهم يحكمون المستعمرات. إن محاولة بوش وبلير الحصول على القوة والنفط والنفوذ فى العراق تمت تحت نفس شعار تمدين المتخلفين الذى طالما استخدمه الاستعمار، ومازالت الحرب الاستعمارية دائرة فى أفغانستان بعد قرنين من بدء «اللعبة الكبرى» وهى الدور البوليسى الذى تقوم به القوى الكبرى لحساب نفسها، وتطبق «العدالة» على الضعفاء فقط باسم القانون الدولى، ويؤكد كل هذا أن الاستعمار لم ينته بل تشكل بشكل جديد، فالإمبراطوريات لا تعرف حدوداً، حتى نبدأ نحن الشعوب فى فهم ذلك ومواجهته مجتمعين، سواء شعوب بيضاء أو سوداء، وسنظل خاضعين إلى أن نفهم ذلك ونواجهه. وإلى هنا ينتهى هذا السرد التاريخى الموثق، ونحمد المولى أننا بعد ثورة 25 يناير المجيدة قد فهمنا ذلك وواجهناه وسنهزمه بإذن الله. نائب رئيس حزب الوفد