تراجع مؤشرات الأسهم اليابانية في جلسة التعاملات الصباحية    ردا على الدعم الأمريكي، الصين تطلق أكبر مناوراتها العسكرية حول تايوان    وفاة خالدة ضياء أول رئيسة وزراء لبنجلاديش    أحمد شوبير يعلن وفاة حمدى جمعة نجم الأهلى الأسبق    45 دقيقة متوسط تأخيرات القطارات على خط «طنطا - دمياط».. الثلاثاء 30 ديسمبر    الأرصاد الجوية تُحذر من طقس اليوم الثلاثاء    زيلينسكي: لا يمكننا تحقيق النصر في الحرب بدون الدعم الأمريكي    كروان مشاكل: فرحي باظ وبيتي اتخرب والعروسة مشيت، والأمن يقبض عليه (فيديو)    هدى رمزي: الفن دلوقتي مبقاش زي زمان وبيفتقد العلاقات الأسرية والمبادئ    "فوربس" تعلن انضمام المغنية الأمريكية بيونسيه إلى نادي المليارديرات    بيان ناري من جون إدوارد: وعود الإدارة لا تنفذ.. والزمالك سينهار في أيام قليلة إذا لم نجد الحلول    الإمارات تدين بشدة محاولة استهداف مقر إقامة الرئيس الروسي    محافظة القدس: الاحتلال يثبت إخلاء 13 شقة لصالح المستوطنين    مندوب مصر بمجلس الأمن: أمن الصومال امتداد لأمننا القومي.. وسيادته غير قابلة للعبث    النيابة تأمر بنقل جثة مالك مقهى عين شمس للمشرحة لإعداد تقرير الصفة التشريحية    إسرائيل على خطى توسع في الشرق الأوسط.. لديها مصالح في الاعتراف ب«أرض الصومال»    حسين المناوي: «الفرص فين؟» تستشرف التغيرات المتوقعة على سوق ريادة الأعمال    بعد نصف قرن من استخدامه اكتشفوا كارثة، أدلة علمية تكشف خطورة مسكن شائع للألم    أستاذ أمراض صدرية: استخدام «حقنة البرد» يعتبر جريمة طبية    القباني: دعم حسام حسن لتجربة البدلاء خطوة صحيحة ومنحتهم الثقة    سموم وسلاح أبيض.. المؤبد لعامل بتهمة الاتجار في الحشيش    انهيار منزل من طابقين بالمنيا    عرض قطرى يهدد بقاء عدى الدباغ فى الزمالك    حوافز وشراكات وكيانات جديدة | انطلاقة السيارات    ناقدة فنية تشيد بأداء محمود حميدة في «الملحد»: من أجمل أدواره    الناقدة مها متبولي: الفن شهد تأثيرًا حقيقيًا خلال 2025    صندوق التنمية الحضارية: حديقة الفسطاط كانت جبال قمامة.. واليوم هي الأجمل في الشرق الأوسط    حسام عاشور: كان من الأفضل تجهيز إمام عاشور فى مباراة أنجولا    نيس يهدد عبدالمنعم بقائد ريال مدريد السابق    تحتوي على الكالسيوم والمعادن الضرورية للجسم.. فوائد تناول بذور الشيا    أمم إفريقيا – خالد صبحي: التواجد في البطولة شرف كبير لي    ترامب يحذر إيران من إعادة ترميم برنامجها النووي مرة أخرى    في ختام مؤتمر أدباء مصر بالعريش.. وزير الثقافة يعلن إطلاق "بيت السرد" والمنصة الرقمية لأندية الأدب    الكنيست الإسرائيلي يصادق نهائيًا على قانون قطع الكهرباء والمياه عن مكاتب «الأونروا»    الزراعة: نطرح العديد من السلع لتوفير المنتجات وإحداث توازن في السوق    مجلس الوزراء: نراجع التحديات التي تواجه الهيئات الاقتصادية كجزء من الإصلاح الشامل    هيفاء وهبي تطرح أغنيتها الجديدة 'أزمة نفسية'    التعاون الدولي: انعقاد 5 لجان مشتركة بين مصر و5 دول عربية خلال 2025    وزير الخارجية يجتمع بأعضاء السلك الدبلوماسي والقنصلي من الدرجات الحديثة والمتوسطة |صور    سقوط موظف عرض سلاحا ناريا عبر فيسبوك بأبو النمرس    ما أهم موانع الشقاء في حياة الإنسان؟.. الشيخ خالد الجندي يجيب    نائب رئيس جامعة بنها يتفقد امتحانات الفصل الدراسي الأول بكلية الحاسبات والذكاء الاصطناعي    الصحة: ارتفاع الإصابات بالفيروسات التنفسية متوقع.. وشدة الأعراض تعود لأسباب بشرية    الاستراتيجية الوطنية للأشخاص ذوي الإعاقة تؤكد: دمج حقيقي وتمكين ل11 مليون معاق    توصيات «تطوير الإعلام» |صياغة التقرير النهائى قبل إحالته إلى رئيس الوزراء    الإفتاء توضح مدة المسح على الشراب وكيفية التصرف عند انتهائها    معدل البطالة للسعوديين وغير السعوديين يتراجع إلى 3.4%    نقابة المهن التمثيلية تنعى والدة الفنان هاني رمزي    نيافة الأنبا مينا سيّم القس مارك كاهنًا في مسيساجا كندا    «طفولة آمنة».. مجمع إعلام الفيوم ينظم لقاء توعوي لمناهضة التحرش ضد الأطفال    وزير الصحة: تعاون مصري تركي لدعم الاستثمارات الصحية وتوطين الصناعات الدوائية    هل تجوز الصلاة خلف موقد النار أو المدفأة الكهربائية؟.. الأزهر للفتوى يجيب    المستشار حامد شعبان سليم يكتب عن : وزارة العدالة الاجتماعية !?    السيمفونى بين مصر واليونان ورومانيا فى استقبال 2026 بالأوبرا    تاجيل محاكمه 49 متهم ب " اللجان التخريبيه للاخوان " لحضور المتهمين من محبسهم    تعرف على مواقيت الصلاة اليوم الإثنين 29-12-2025 في محافظة الأقصر    «الوطنية للانتخابات» توضح إجراءات التعامل مع الشكاوى خلال جولة الإعادة    أسود الأطلس أمام اختبار التأهل الأخير ضد زامبيا في أمم إفريقيا 2025.. بث مباشر والقنوات الناقلة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الفشل البريطاني في فصل الجنوب..‏ونجاح الانفصال عن مصر
نشر في الأهرام اليومي يوم 15 - 01 - 2011

يختزل الموقف العام والخاص من المشهد السوداني وأوضاعه وتقلباته الكثير من المتغيرات الجذرية الحادة والعاصفة التي لحقت بمزاج الرأي العام المصري والعربي وتوجهات المسئولين منذ انطلاق فقاعة السلام. بعد توقيع اتفاقية كامب ديفيد‏,‏ ففي الأربعينيات من القرن العشرين كانت صرخات المتظاهرين الغاضبة في شوارع القاهرة تؤكد في مواجهة المحتل البريطاني علي عمق الشعور الوطني والقومي وعمق مشاعر الوحدة والاتحاد كما تؤكد في نفس الوقت واللحظة توقد المشاعر الوطنية والإرادة التي لا تلين لاستعادة كل الحقوق وتحدي جميع العقبات والصعاب ويتضح ذلك من شعارات المتظاهرين المؤكدة دائما علي أن مصر والسودان لنا وانجلترا إن أمكنا وفي المقابل ومع بداية العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين فإن الشعارات المعلنة في أرجاء جنوب السودان تقول باي باي الخرطوم معلنة الفرح بالانفصال وسط موقف رسمي مضمر وغير معلن يرحب بالانفصال ويجد فيه حلا للكثير من المشكلات وتحللا من الأعباء المرتبطة بنحو‏8‏ ملايين جنوبي يمثلون نحو‏20%‏ من أهل السودان البالغ اجماليهم نحو‏40‏ مليون نسمة وكأن التخلص من أحمال الوطن والدولة البشرية والإنسانية قد أصبح الخيار السحري السهل والميسور لتجاوز الخيبة والاخفاق والفشل في الاضطلاع بالمسئوليات العامة والخاصة وخيانة الأمانة والمسئولية في أبشع صورها وأشكالها‏.‏
وعلي الرغم من أن انفصال جنوب السودان عن شماله يتم وفقا لحق تقرير المصير وبناء علي استفتاء لأصحاب الحق المباشر في تقرير مصيرهم وبالرغم من كل ما يمثله ذلك من جاذبية وتحضر وما يشكله من ميراث عظيم لحركات الاستقلال والتحرر الوطني في كل الدول النامية للتخلص من مستعمريهم إلا أنه يتحول مع الزمن الراهن وفي العديد من الحالات والظروف والأوضاع إلي مقصلة المستعمر الغربي الحديثة والمعاصرة لتكسير عظام الكثير من الدول وتفكيك أوصالها وفي نفس الوقت واللحظة فإنه تحول إلي ماركة مسجلة لتأجيج النزاعات العرقية والطائفية وتعميق الخلافات الدينية والثقافية واللغوية‏,‏ كما أنه اصبح شيطان شديد الذكاء والفاعلية لتقليم أظافر الدولة الوطنية المتماسكة والقوية وتمزيق نسيجها الاجتماعي والإنساني وتحويلها إلي كانتونات فاقدة القدرة ومنعدمة الإرادة لا تملك إلا القيام بدور التابع المنقاد مع تحول أراضيها وسمائها ومواطنيها إلي أدوات يعبث بها الآخرون وفقا لمصالحهم ورغباتهم كيفما شاءوا ومتي شاءوا بأقصي درجات الثقة والاطمئنان‏.‏
صياغة الكيان السوداني الموحد صناعة مصرية كاملة
وبداية فإن الفكر الانفصالي لتمزيق الوحدة وتكريس الانفصال يتصادم بالاساس مع ما تملكه مصر من حقوق تاريخية لفكرة الوحدة السودانية استنادا الي قوانين الملكية الفكرية واضافاتها الحديثة التي تحرسها وتحميها منظمة التجارة العالمية في ظل ربطها بالحركة العالمية للسلع والبضائع والخدمات حيث تؤكد حقائق التاريخ ان مصر تملك حق الملكية الفكرية الأصيل في صياغة كيان السودان بحسابات الجغرافية وبحسابات السيادة والحدود وكذلك بحسابات اقامة العاصمة وتسميتها وصياغة التقسيم الإداري لمكوناتها فهي صانعه الخريطة الجفرافية للسودان في حين ان مسار الاحداث الراهنة يجعلها تبدو وكأنها شاهد متفرج علي الأحداث وتبدو وكأنها نسيت أو تناست كل عظات التاريخ ودروسه والأكثر خطورة أن ما يتم ويجري علي السطح يبدو وكأنه قبول بفقدان عناصر القوة التي تنساب من البنان يوما بعد يوم ويثبت مجري الأحداث مدي الضعف في ذاكرة التاريخ القائلة إن السودان بمعناه المعاصر قد ولد في أحضان الدولة المصرية الحديثة بقيادة محمد علي الألباني الأصل حامل جنسية الدولة العثمانية في أوائل القرن التاسع عشر الذي أدرك بوعي استراتيجي عميق وفذ أن احياء الامبراطورية والقوة المصرية يجب أن يبدأ بتأمين عمقها الجنوبي ما بعد أسوان وهو عمق كان شماله يضم عددا من الامارات والممالك الاسلامية الصغيرة والمتناثرة وكان جنوبه غابات وأحراشا بكرا لم يجرؤ علي النفاذ إليها أحد من قبله وتحركت جيوشه إلي الأعماق الافريقية لتصنع كيانا جغرافيا متكاملا بسط عليه سيادته وحكمه وأقام له عاصمة أسماها الخرطوم ونظم العمران والنقل والاتصال بين أرجائه ووضع قواعد للأمن والتجارة والصناعة واستغلال الثروة التعدينية وأنشأ المدارس ونهضت المدن وبذلك فهو المالك الوحيد لحق الملكية الفكرية لهذا الكيان الجغرافي المتكامل الذي كان من قبله مجرد مساحات جغرافية مترامية لا رابط بينها تخلو مما يجمعها وتعيش علي ما يفرقها وكانت دوما في حكم المجهول في خرائط المستعمرين الأوروبيين للقارة الافريقية‏.‏
وهذا الوعي الاستراتيجي المذهل بركائز ومكونات الأمن القومي القادر علي بناء القوة المصرية الامبراطورية الشاملة أضاف إليه حفيده الخديو إسماعيل المزيد من الحلقات من خلال سعيه لاكتمال السيطرة علي امتدادات الساحل الافريقي في آرتيريا والصومال لتأصيل العنف الافريقي لمصر واصطدامه بالاستعمار الايطالي في ذلك الوقت في أثيوبيا وهو ما لا يدرك تفاصيله ومعانيه الكثير من دارسي الاستراتيجية المصرية وكذلك من القائلين عن أنفسهم أنهم خبراء في الشئون الافريقية ومع غياب الوعي لحقائق الامن القومي ارتكبت ثورة‏23‏ يوليو لخطأ استراتيجي فادح بكل المعايير والمقاييس بالسماح بانفصال السودان عن مصر والتعامل مع الوحدة السودانية وكأنها إرث بغيض من مواريث أسرة محمد علي يستوجب التخلي عنه والتخلص منه وعدم الحفاظ علي استمراره ولو بذلت الثورة جهدا منظما وواعيا وتعاملت مع الوحدة باعتبارها قضية أمن قومي بالغة التعقيد والحساسية لاستمرت الوحدة وكما كان فاروق الأول ملكا لمصر والسودان لبقي جمال عبد الناصر رئيسا لمصر والسودان‏.‏
صناعة المناخ النفسي لإثارة الفتن المصرية السودانية
ولصناعة الانفصال في السودان تاريخ طويل لعبت فيه بريطانيا الدور الرئيسي لتهدم ما بنته الأيدي المصرية السودانية منذ احتلالها لمصر وفرضها الإدارة الثنائية المصرية البريطانية علي السودان وهي إدارة ما كانت يوما من الأيام ثنائية بل كانت دوما أحادية تملك بتلابيبها كاملة سلطة الاحتلال البريطاني في القاهرة وفي الخرطوم علي السواء ومع غياب الوعي وغياب حقائق التاريخ بالتزييف تارة وتحت ظلال الممالأة والخنوع تارة أخري فإن المهديين من اتباع الطرق الصوفية المهدية حملوا مصر والمصريين ثأرا تاريخيا لا أساس له من الصحة ولا أساس له علي أرض الواقع وارتبط ذلك بقمع الثورة المهدية الكبري عام‏1898‏ بأم دورمان في السودان وما ارتبط بها من ضحايا كثيرة وكأن الجيش البريطاني المحتل ليس هو صاحب الأمر والنهي وكأن الجنود والضباط المصريين في السودان كانوا يملكون من أمرهم أي شأن وكأن البنادق والمدافع البريطانية كانت غير موجهة للمصريين كما للسودانيين لو عصوا الأوامر وتمردوا عليها وتسبب الثأر التاريخي الزائف الذي غزاه المحتل البريطاني في قيادة المهديين لتيار الانفصال عن مصر باعتباره لونا من ألوان القصاص من مصر والمصريين وكان في حقيقته وواقعه قصاصا من السودان والسودانيين‏.‏
وبالقدر الذي حرص به الاستعمار البريطاني علي تهيئة الظروف الداعمة لفصل شمال السودان عن جنوبه فقد سعي بكل الطرق والوسائل لفصل السودان بشماله وجنوبه عن مصر وكانت هناك مخططات متكاملة الأركان لا تعتمد فقط علي سلطة المحتل ولا تعتمد فقط علي البعثات التبشيرية الوافدة من أوروبا ولكنها تعتمد أيضا علي بناء طابور خامس قوي ومتراص في الشمال ضد مصر عن طريق عملية غسيل مخ منظمة وطويلة الأجل لإثارة الحساسيات والأحقاد والضغائن ضد المصريين وقادها بالدرجة الأولي والأساسية كلية غوردون بالخرطوم وهي جامعة بريطانيا تحمل اسم الحاكم البريطاني الأسوأ في تاريخ الاحتلال والأكثر عدوانية وشراسة في تنفيذ مخططات الاحتلال حيث ركزت هذه الكلية علي مهمة رئيسية ترتبط بغرس كراهية مصر والمصريين في نفوس المتعلمين السودانيين من أهل الشمال والجنوب واستغلت في سبيل ذلك علي أوسع نطاق الصورة النمطية للنوبي في الأفلام المصرية القديمة بإعتبارهم من العاملين في بيوت الكبراء والوجهاء لتصويرهم وكأنهم الطبقة الدنيامن المنظور المصري وتركيب عقد نفسية عليها لتأكيد تعالي المصريين علي السودانيين ونظرتهم الدونية إليهم وكأن المصريين هم السادة والسودانيين هم العبيد في خلط متعمد منظم بين أهل النوبة وأهل السودان وفي نفس الوقت واللحظة فإن الأفلام المصرية وكان كبار المنتجين لها من اليهود وكبار المخرجين لها من اليهود ركزت علي صورة نمطية للسوداني تغلفها القسوة الشديدة والغلظة المفرطة من خلال مشاهد قوات الهجانة واستخداماتها دائما لقمع المصريين في تمردهم وعصيانهم ضد السلطة والاحتلال مما صنع فجوة ذهنية وصنع التباسا في المشاعر والأحاسيس يصب في خانة الجفاء والرفض خاصة في السودان وبين فئاته المتعلمة‏.‏
ومنذ اللحظات الأولي لاحتلال بريطانيا للسودان مع احتلالها لمصر باعتبارهما دولة واحدة ساعة الاحتلال فإن مخططات فصل الجنوب عن الشمال كانت جاهزة ويومها كانت الأغلبية العظمي من أهل الجنوب وثنية أصحاب معتقدات افريقية قديمة ولن يكن هناك مسيحيين علي الأطلاق وكانت هناك أقلية مسلمة لها نفوذ وتأثير وفعالية تكاد تصل نسبتها إلي نحو‏20%‏ من أهل الجنوب ولا تقل عن‏17%‏ بأي حال من الأحوال بالرغم من عدم وجود احصائيات رسمية دقيقة أو بالأصح وجود احصائيات لا يكشف عنها الاحتلال وقد تم الاعلان الرسمي عن المخطط الانفصالي البريطاني مع اصدار قانون المناطق المغلقة الذي تحول جنوب السودان كاملا بمقتضاه إلي منطقة مغلقة وكان ذلك بمثابة الاعلان الأول لتقسيم السودان جغرافيا بين شمال وجنوب وهو ما يعني أن حق الملكية الفكرية لأوضاع التقسيم وحدوده يرجع لبريطانيا كما أن هذه الخطوة سبقها في أوائل القرن العشرين ترسيم للحدود بين مصر والسودان في وزارة بطرس غالي تم التلاعب فيها بخطوط العرض الفاصلة كحدود وكان ذلك أحد أسباب قتل بطرس غالي بالاضافة لدوره في مد امتياز قناة السويس ودوره في اعادة ترسيم الحدود المصرية والليبية بما يخالف الحقوق التاريخية الثابتة لمصر والتنازل عن واحة جغبوب وغيرها وكان صدور قانون المناطق المغلقة يعني عمليا انتهاء الحكم الثنائي للجنوب وبقاءه مجرد عنوان شكلي في الشمال مع انقطاع الوجود الرمزي المصري في الجنوب بشكل بات وقاطع وتزامن ذلك مع اتساع شديد لدور البعثات التبشيرية في الجنوب‏.‏
قانون المناطق المغلقة وفصل الجنوب عن الشمال
ومع تطبيق قانون المناطق المغلقة وتحول الجنوب إلي جيتو مغلق وسجن كبير لأهل الجنوب يمنعهم من التواصل والاتصال مع الخارج ومع الشمال تحديدا ويطلق يد الاحتلال ليصنع ما يشاء وقتما يشاء وكيفما يشاء حيث تضمن القانون منع هجرة أو وجود الجنوبيين في الشمال ومنع هجرة أو وجود الشماليين في الجنوب مستهدفا خلق كيان جنوبي كامل الأختلاف عن الشمال وتقطيع الأوصال والأواصر القائمة في جوانب اللغة والثقافة والدين واكتملت ملامح السياسة الجنوبية للاحتلال بمنع استخدام اللغة العربية وتحريم استخدامها في الجنوب وترحيل الموظفين ورجال الأعمال المسلمين الشماليين الي الشمال مع اطلاق يد البعثات التبشيرية المسيحية لتصنع ما تريد وفرض الاحتلال استخدام اللغة الانجليزية كلغة تعامل رسمية كما سمح باستخدام اللغات واللهجات المحلية كلغات الدينكا والنوير والشلك وهي القبائل الجنوبية الكبري بديلا للعربية كما منع استخدام الاسماء العربية ومع الأستقلال فقط واعلانه في عام‏1956‏ ألغي قانون المناطق المغلقة عمليا وانفتح الشمال علي الجنوب بدرجة أو بأخري مع بقاء رواسب الحقبة الأستعمارية الطويلة كما هي في الكثير من المجالات والأنشطة والمعاملات خاصة مع سيطرة خريجي مدارس الأرساليات التبشيرية علي الوظائف والمناصب والأعمال‏.‏
والمثير للدهشة أنه علي الرغم من قانون المناطق المغلقة وتطبيقاته الصارمة ونجاحه في تفريغ الجنوب من الشماليين وتحويله إلي ثكنة مغلقة فإن الجنوبيين في مؤتمر جوبا للأدارة وتقرير وضع جنوب السودان والمنعقد تحت قيادة سلطة الاحتلال البريطاني عام‏1947‏ والذي حضره ممثلون عن الجنوب والشمال قرروا بالأرادة الحرة المنفردة وفي تطبيق حر لحق تقرير المصير أن يبقي الجنوب جزءا من دولة واحدة ورفضوا الانفصال واصروا علي الوحدة علي الرغم من الضغوط الشديدة والمكثفة لسلطة الاحتلال البريطاني ولم يقبلوا ما طرحته من أفكار لفصل الجنوب عن بقية السودان أو ضمه إلي منظومة دول شرق افريقيا الواقعة تحت الاحتلال البريطاني أيضا في سلطة ادارية واحدة أو في كيان واحد‏.‏ وكان مؤتمر جوبا ضربة قاسية للمخططات البريطانية وكان صدمة قاسية ومروعة للجهود التبشيرية وانكشاف عدم مصداقية إحاديثها عن السطوة والسيطرة علي المجتمع الجنوبي كما كان تأكيدا لبقاء تأثير وفعالية النموذج الموحد الذي بنته مصر بأركانه التي رسمتها وحددتها كما كان أيضا أعلانه بعدم نجاح مخططات تفرقة القبائل الجنوبية ومخططات أثارة الخلاف والصراع بينها وبين قبائل الشمالي العربية المسلمة‏.‏
وكان رفض شعب الجنوب للانفصال في مؤتمر جوبا عام‏1947‏ يعني ان حق تقرير المصير قد حسم لصالح الوحدة واصبح درسا للاحتلال البريطاني بأن يعيد رسم مخططه واولوياته بحيث يعتمد الانفصال علي القوة المسلحة والنزاع المسلح بالدرجة الأولي وقامت ببناء ما يسمي الكتيبة الاستوائية الجنوبية كجزء من التشكيل العسكري الخاضع لجيش الاحتلال ورتبت أمورها بحيث تكون هي مصدر أشعال الفتنة والتمرد والدعوة للانفصال وعندما بدأت شمس الأستعمار البريطاني في الغروب وبدأت ترتيبات الأستقلال عن مصر والسودان الكيان الواحد أعلنت الكتيبة الأستوائية في الجنوب الثورة والتمرد عام‏1955‏ وبدأت حرب الأنفصال في جنوب السودان واستمرت الحرب حتي عام‏1972‏ عندما عقدت اتفاقية أديس أبابا وتم بناء عليها إقامة حكومة اقليمية في إطار الحكم الذاتي
‏***‏
مخطط فصل الجنوب عن الشمال لا يرتبط عمره فقط لا غير بتوقيع اتفاقية نيفاشا في أوغندا عام‏2005‏ والمسماة باتفاق السلام الدائم الذي يقضي بحق الجنوب في تقرير مصيره عبر الاستفتاء بين ابنائه بعد ست سنوات من التوقيع ولكنه يعود الي نهايات القرن التاسع عشر يوم أن احتلت بريطانيا مصر وبالتالي احتلت معها السودان الذي يشكل جنوب الدولة المصرية حتي استقلاله عن مصر باستفتاء شعبي مباشر في عام‏1956‏ ونفذت بريطانيا علي امتدادها مخططا متكاملا لفصل السودان عن مصر وفصل شمال السودان عن جنوبه وفشل مخططها في تقسيم السودان فأطلقت شرارة الحرب الأهلية عام‏1955‏ وغذتها وساندتها عن طريق كينيا وأوغندا مستعمراتها التي استقلت في سنوات لاحقة وظلت علي علاقتها الوثيقة بالمستعمر وكانت اثيوبيا دائما جسرا داعما لانفصال الجنوب حتي في ظل حكوماتها اليسارية وكانت معبرا مهما لتهريب السلاح والعتاد للقوي الانفصالية من مورديه الرئيسيين متمثلين في الكيان الصهيوني وامريكا والدول الغربية والأنشطة المتعددة للبعثات التبشيرية‏.‏
وكان الهدف الرئيسي للانفصال يصب دائما في خانة اضعاف مصر وملاحقة العمق الجنوبي للأمن القومي المصري في تطبيق حرفي لقاعدة رئيسية من قواعد الأستراتيجية ترتبط بما يسمي مبدأ شد الأطراف من كل الاتجاهات الأربعة مع التركيز علي الحلقات الأضعف والأسهل حتي يتم أضعاف القلب والمركز وهو في هذه الحالة بالأصل والأساسي مصر قلب العالمين العربي والأسلامي وبوابة القارة الأفريقية وبوابة العالم النامي المهمة وعندما يتحقق ذلك يتم ضمان نجاح المخطط الصهيوني الأمريكي الغربي للاستعمار الجديد والحديث بأعلي مستويات الكفاءة وبأسرع معدلات التنفيذ وبأقل التكاليف والأعباء والمغارم؟‏!.‏


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.