فى فجر مهيب، امتزجت فيه الدموع بالدعوات، ودَّعت مصر والعالم الإسلامى، الثلاثاء الماضى، قامة علمية شامخة، الدكتور أحمد عمر هاشم، عضو هيئة كبار العلماء بالأزهر الشريف، ورئيس جامعة الأزهر الأسبق، الذى وافته المنية عن عمر ناهز 84 عامًا، بعد رحلة زاخرة بالعطاء، قضاها فى خدمة الدين والعلم، والدفاع عن سنة النبى (صلى الله عليه وسلم) فى مواجهة دعاوى التشكيك والانحراف، وكل من تربص بها أو حاول أن ينال من المفاهيم النبوية الشريفة. كان الدكتور أحمد عمر هاشم فارسًا من فرسان الأزهر وعلم الحديث، سخر علمه وقلمه ومنبره لنصرة السُّنة النبوية، وظل حتى آخر لحظة فى حياته يحمل لواءها بالمؤتمرات والمحافل الدولية، داعيًا إلى التمسك بالمنهج الوسطى، ومواجهة الفكر المتطرف والإلحاد بأسلوب علمى رصين. مشروع حياة لم يكن دفاع الدكتور هاشم عن السنة دفاعًا نظريًّا فحسب، بل كان مشروع حياة متكاملاً. فقد أسس العديد من البرامج الأكاديمية والبحثية التى تُعنى بعلوم الحديث فى جامعة الأزهر، وأشرف على عشرات الرسائل العلمية، وشارك فى إعداد المناهج الأزهرية التى تعزز صلة الطلاب بالحديث النبوى الشريف. فى أكثر من مناسبة، حذّر الفقيد من خطورة ما وصفه ب«العبث بالسنة»، مؤكدًا أن الهجوم على صحيح البخارى وسائر كتب الحديث ليس خلافًا علميًّا، بل حملة منظمة تهدف إلى هدم المصدر الثانى للتشريع الإسلامى. صرح الدكتور هاشم فى أحد لقاءاته قائلاً: «من ينال من صحيح البخارى إنما يريد أن يقتلع السنة من جذورها، لأن البخارى هو رمز الدقة والنقد العلمى فى تاريخ الأمة». وأضاف: إن كثيرًا ممن يهاجمون الحديث يفعلون ذلك بغير علم، وأنهم لم يقرأوا كتب الشرح والتمحيص، ولم يعودوا إلى علماء الحديث، الذين وضعوا أدق المناهج فى العالم للتحقق من النصوص والرواة. ورغم المكانة العلمية الرفيعة التى بلغها، ظلّ الدكتور هاشم يحتفظ بتواضع العلماء، لا يتكلف فى حديثه، ولا يتعالى بعلمه، بل كان يقابل طلابه ومحبّيه بابتسامةٍ ودودة، ويقول دائمًا: «ما نلنا هذا العلم إلا لنهدى به الناس، لا لنرتفع عليهم». الرئيس السيسي وفارس الحديث لم يكن الدكتور أحمد عمر هاشم مجرد عالم جليل فى نظر القيادة المصرية، بل كان رمزًا للعلم الأصيل الذى يُجله الجميع، وفى مقدمتهم الرئيس عبدالفتاح السيسي، الذى عبّر أكثر من مرة عن تقديره العميق لهذا العالم الكبير. خلال حضوره أكثر من احتفال دينى، كان مشهد الرئيس السيسي وهو يقبّل رأس الدكتور أحمد عمر هاشم، بمثابة لفتة إنسانية تعبّر عن احترام الدولة المصرية للعلماء، وتقديرها لرموز الأزهر الشريف. حدث ذلك فى احتفالية ليلة القدر عام 2022، وتكرر فى صلاة عيد الأضحى بالعاصمة الإدارية عام 2025، فى مشهد أثر فى الكثيرين بسبب العلاقة المفعمة بالاحترام والتقدير. لم يقف الأمر عند الرمزية فقط، بل تجسّد فى مواقف عملية تعكس وفاء القيادة المصرية لعلمائها، حين وجّه الرئيس السيسي بإرسال طائرة طبية مجهّزة لنقل الدكتور أحمد عمر هاشم من مالطا إلى القاهرة بعد إصابته بوعكة صحية أثناء مشاركته فى مؤتمر علمى هناك، فى موقف لاقى إشادة واسعة من الأزهر وطلابه ومحبيه. نعى رئاسى فى لفتة تقدير رسمية تعبّر عن المكانة الرفيعة للعالم الجليل، نعى الرئيس عبدالفتاح السيسي الفقيد ببيان نشر على الصفحة الرسمية للرئاسة جاء فيه: «تلقيت ببالغ الحزن والأسى نبأ وفاة العالِم الجليل والداعية الكبير، الأستاذ الدكتور أحمد عمر هاشم، عضو هيئة كبار العلماء بالأزهر الشريف، ورئيس جامعة الأزهر الأسبق، الذى وافته المنية بعد رحلة زاخرة بالعطاء، فى خدمة الدين والعلم، وسيظل علمه الغزير باقيًا وراسخًا على مر الزمان. رحم الله العالم الجليل وأسكنه فسيح الجنان. وأتقدم لأسرته وذويه وكل تلاميذه من أبناء الوطن وخارجه، بخالص التعازى والمواساة». جاءت كلمات الرئيس لتؤكد المكانة الرفيعة التى حظى بها الدكتور أحمد عمر هاشم فى قلوب المصريين وقيادتهم، فقد كان مثالًا للعالم العامل، وصوتًا للأزهر الشريف فى الدفاع عن السنة ومواجهة الغلو والانحراف الفكرى. بهذه العلاقة المتبادلة بين الرئيس والعالم، تجلّى أحد أبهى مشاهد الوفاء فى تاريخ مصر الحديث، حيث امتزجت الهيبة الرسمية بروح التقدير الإنسانى لعالمٍ عاش عمره فى خدمة الحديث الشريف، ودولةٍ لا تنسى فضل علمائها. محطات حياة بدأ الدكتور أحمد عمر هاشم مسيرته العلمية بحفظ وتجويد القرآن الكريم فى العاشرة من عمره، ودرس الابتدائية بالأزهر الشريف، واستمر فى دراسته الأزهرية إلى أن تخرج فى كلية أصول الدين عام 1961. كان لحج الدكتور أحمد عمر هاشم وهو طالب بكلية أصول الدين قصة يرويها بنفسه، حيث يقول الإمام الراحل فى حديث له عن الحج: «لقد فوجئت وأنا طالب فى السنة الرابعة بكلية أصول الدين برؤية الرسول صلى الله عليه وسلم وهو يطوف الكعبة وأنا وراءه، فحملت تلك الرؤية لوالدى فقال له إنك ستحج لبيت الله وستتخصص فى حديث الرسول صلى الله عليه وسلم ما دمت تسير خلفه، لكن كيف تحج ووالدك لم يحج؟» ويستطرد: «بعد أسبوع يستدعينى رئيس جامعة الأزهر فذهبت لمكتبه فقال لى: كل جامعة انتدبت طالبًا مثاليًا منها ليحج هذا العام فى البعثة الرسمية للحج ووقع الاختيار عليك... كانت هذه هى الفرحة التى لم أتحمل وقعها وما كنت أظن أن أؤدى تلك الفريضة وأنا طالب، وعندما ذهبت للحج كنت أنا وزملائى نبحث عن الأماكن التى ذهب إليها رسول الله، فذهبنا إلى غار حراء ودخلنا المكان الذى نزل الوحى فيه على رسول الله وصلينا فيه، وما تركنا مكانًا ذهب إليه رسول الله إلا وذهبنا إليه، وأنصح كل شاب وهو مقتدر أن يحج وهو فى شبابه لأن متعة الحج فى الشباب لا يضاهيها سعادة». وعندما عُيِّن معيدًا، طلب منه والده أن يتخصص فى علم الحديث حتى تتحقق الرؤية التى رآها وهو طالب، فعُيِّن بقسم الحديث وعلومه بكلية أصول الدين. ويقول الدكتور أحمد عمر هاشم: «لقد تحملت منذ اللحظة الأولى وأنا معيد شرح أصح كتاب بعد كتاب الله وهو صحيح البخارى، ومن فضل الله أكملت كتاب «فيض البارى فى شرح صحيح البخارى» وعشت حياتى لهذا الكتاب وأنا أقدمه لتتحقق لى شفاعة رسول الله». حصل الدكتور أحمد عمر هاشم على الماجستير فى علم الحديث بعنوان «الإمام أحمد بن حنبل وأثره فى السنة»، ثم على الدكتوراة من خلال رسالته: «السنة النبوية فى القرن السادس الهجرى». عُين عميدًا لكلية أصول الدين بالزقازيق عام 1987، ثم شغل فضيلته منصب رئيس جامعة الأزهر الشريف عام 1995م، ثم عضوية هيئة كبار العلماء بالأزهر الشريف، كما شغل عضوية المجلس الأعلى للشئون الإسلامية، والمجلس الأعلى للطرق الصوفية، واتحاد الكتاب، والمجلس الأعلى للصحافة، والمجلس الأعلى للثقافة، والمجلس الأعلى للجامعات. كما حصل الدكتور أحمد عمر هاشم على جائزة الدولة التقديرية فى العلوم الاجتماعية عام 1992م، وتقلد وسام العلوم والفنون من الطبقة الأولى؛ تقديرًا لدوره الدعوى الرائد، ومكانته العلمية والثقافية العظيمة فى مصر والعالم كله. وتم تكريمه من الدولة المصرية على أعلى مستوى فى أكثر من مناسبة، ومنها تكريمه على يد الرئيس عبدالفتاح السيسي. مواقف لا تُنسى فى أحد المؤتمرات بالأزهر، وقف الدكتور أحمد عمر هاشم يخاطب الشباب قائلاً: «إياكم أن تنخدعوا بمن يُشكّك فى دينكم، فالسنة النبوية هى النور الذى يشرح لنا القرآن، ومن يطعن فيها، إنما يريد أن يُطفئ نور الله بأفواههم». كما شارك فى ندوات دولية فى ماليزيا وباكستان والمغرب، مدافعًا عن صورة الإسلام الحقيقية، ورافضًا كل صور الغلوّ والتكفير. ومن مواقفه المعروفة أنه كان يُصرّ على حضور مناقشات رسائل الماجستير والدكتوراه فى المحافظات بنفسه، رغم مرضه وتقدمه فى السن، ليشجّع الباحثين ويغرس فيهم روح البحث والصدق. وبعيدًا عن المنابر، كان للدكتور أحمد عمر هاشم وجهٌ إنسانى عميق، حيث يحكى بعض طلابه أنه كان يوزّع مكافآت المؤتمرات على المحتاجين، ويقول مبتسمًا: «رزقى جاء بكم، فليعد إليكم». وكان يرفض الألقاب التى تُضفى عليه هالةً من التعظيم، ويقول: «أنا خادم للسنة، ولست سيدها، ولولاها ما كان لى اسمٌ يُذكر»، حتى فى أيام مرضه الأخيرة، ظلّ يُوصى المقرّبين منه بالثبات على العلم والدعوة، ويؤكد أن «الزمن يتغير، لكن الدين لا يتبدل، والحق لا يموت».
إرث علمى ترك الدكتور أحمد عمر هاشم مكتبة عامرة بالمؤلفات وصلت إلى 105 كتب ومجلدات، والعديد من الدراسات التى أصبحت مرجعًا للباحثين والدارسين. من أبرزها «الحديث النبوى بين الرواية والدراية»، وهو من أهم كتبه فى الدفاع عن السنة وبيان ضوابط التحقق من الرواية. وكذلك كتاب «منهج الإسلام فى تربية الشباب»، الذى تناول فيه أسس بناء الشخصية المسلمة الواعية المتوازنة. وكتاب «نور النبوة»، وهو من الكتب التى جسدت حبه العميق لرسول الله (صلى الله عليه وسلم) ودعوته للاقتداء به فى كل جوانب الحياة. وكتاب «القرآن والسنة فى مواجهة الإلحاد»، حيث واجه فيه دعاوى الشك والتشكيك بأسلوب علمى رصين. وله موسوعة معاصرة فى علم الحديث، تعد أول موسوعة لشرح الأحاديث الصحيحة، وترتيبها ترتيبًا موضوعيًّا، وتبويبها تبويبًا فقهيًّا، وهى «فيض البارى فى شرح صحيح البخارى» فى 11 مجلدًا. 0