هذا ما أكده الدكتور حامد عمار شيخ التربويين والاستاذ بكلية التربية بجامعة عين شمس حيث سرد لنا تاريخ الأمية وتشخيص أسبابها, ومحاولات مختلف الجهود الدينية والوطنية ومشروعات التحديث لمعالجتها بمشروعات متناثرة هنا وهناك, لكنها لم تكن ذات الأولوية أو الجدية الجديرة بها, فقد انطلقت صيحة وطنية لمكافحة الأمية مع رفاعة الطهطاوي(1801 1883 م) لتأسيس ذلك المجتمع الذي يدعم الحرية والعلم في كتابه الشهير( المرشد الأمين في تعليم البنات والبنين), وبعده جاءت دعوة مجلس شوري القوانين عام1867 بإصدار قانون لمكافحة الأمية يحقق خطوة رسمية تقوم بها الدولة لتحقيق ذلك الهدف, وهذا يعني أن وعي مجتمعنا بالسعي لإزالة ما أطلق عليه اليوم عارا قد انقضي عليه حتي الآن نحو136 عاما!! وظلت الأمية تزداد وتتكاثر جيلا بعد جيل, وربما كان ذلك من المطالب في مجتمعات تحرص علي بقاء الأمية لتوفير قطاع من طبقة العمال الرخيصة, أو طبقة يمكن لنظام الحكم أن يضمن خضوعها وصمتها, وبذلك يضمن سيطرته عليها واستمرار خداعها والهيمنة علي مقاليد الحكم, وهو ما ترجمه شعار الخديو عباس في مقولته' الشعب الجاهل أسلس قياديا من الشعب المتعلم', وقد كان قانون محو الأمية الشهير عام1944 شاهدا علي ذلك. وفي سياق المقارنات الدولية نشير إلي أن نسبة الأمية في اليابان في أعقاب الحرب العالمية الأولي عام1914 كانت مقاربة لأحوالها في مصر, وفي أعقاب الحرب العالمية الثانية كانت النسبة في مصر مماثلة لنسبتها في معظم الدول النامية في الملايو( ماليزيا) وكوريا واندونيسيا والبرازيل ومعظم دول أمريكا اللاتينية. واليوم لا مقارنة مع اليابان, ولا مقاربة مع كثير من تلك الدول النامية التي ودع معظمها الأمية غير مأسوف عليها, أو أصبحت في حالة احتضار تلفظ أنفاسها الأخيرة. التسرب وأمية المتعلمين والأميون كما يضيف د. عمار يتألفون عادة ممن يعانون الفقر الشديد, ويضاف إليهم ممن بلغوا السادسة من العمر ولم يطرقوا باب المدرسة أصلا ويؤثر الأب أن يكون أبنه بجواره لمساعدته في لقمة العيش في أي عمل من الأعمال, وتفضل الأم أن تبقي معها ابنتها في البيت لقضاء بعض حاجاته ولوازمه اليومية, وكل منهما يضيق بهذه المساعدة لينطلق إلي ما يعرف بأولاد الشوارع. ويضاف إلي ذلك كارثة التسرب التي قد تغطي عليه وتستره بعض اللجان الرسمية في المدرسة بالتواطؤ مع عمدة القرية أو المجلس المحلي, أو بالادعاء بأنه قد هاجر إلي الخارج ولا يعلم أحد أين رحل, وعلي أساس الإحصاءات الرسمية لوزارة التربية والتعليم لعام2011 بلغت نسبة المتسربين من الالتحاق بالصف الأول الابتدائي0.2% ممن يفترض التحاقهم ويقدر عددهم بنحو12.000 طفل من البنين والبنات, وفي المدرسة الإعدادية بلغت نسبة المتسربين من الالتحاق بالصف الأول في نفس العام5.4% أي نحو137.000 من البنين والبنات. وتلك النسب تمثل التسرب في السنة الأولي في الابتدائية مما يعني أطفالا أميين علي الإطلاق, والتسرب من السنة الأولي الإعدادية يعني في الغالب نصف أميين, وبخاصة إذا لم يجدوا عملا يوظفون فيه مهارة القراءة,وأغلب الظن أنهم سوف ينسون ما تعلموه في المدرسة الابتدائية, وينضمون مع مرور الزمن إلي جماعة( فك الخط) في أحسن الأحوال ممن يعتبرهم الإحصاء السكاني العام في فئة المتعلمين. وإذا أردنا أن نتعمق أكثر في مدي التعلم الحقيقي من خلال المرحلتين الابتدائية والإعدادية, فسوف ندرك أن الذين يكملون سنوات التعليم في كل منهما لا يجاوز معدل القيد الصافي خلال السنوات الابتدائية الست نحو89.8%, وفي السنوات الإعدادية الثلاث65.8% وفيها ندرك نسبة المتساقطين خلال كل من سنوات المرحلتين من التعليم الأساسي, وبتتابع التسرب التساقطي أو عدم الالتحاق في المرحلة الثانوية من الفئة العمرية ما بين15-17 سنة يصل إلي39% و معدل الالتحاق بالمرحلة الجامعية ما بين18-21 سنة يصل إلي29%, ومن ثم تصبح نسبة الملتحقين المقيدين في مختلف مراحل التعليم الحكومي من مرحلة رياض الأطفال إلي الجامعات من الفئات العمرية ما بين4-21 سنة نحو66% ومع ما حدث من تحسن في هذه النسبة إلا أنها تظل متدنية بكل المقارنات مع الدول الناهضة. مظاهر الفساد ويقول د.عمار إن القضاء علي الأمية لا يمكن توقعه إلا من خلال سياق سياسي لا يتجاهل حقوق الفقراء في حقهم الطبيعي والانساني في التعليم, وفي إطار مجتمع التسلط والاهتمام بالتعليم الخاص وجامعاته, يمتد الفساد في مكافحة الأمية وبكل تجلياته من الغش والتزييف والرشوة في منح شهادات بمحو الأمية. وفي برامج الأحزاب والفئات المجتمعية والانتخابات التي انبثقت عن ثورة25 يناير, كنت أتمني أن يتم التركيز علي هذه القضية في برامجها, لكنها لم ترق إلي أولويات برامجها ومشروعاتها الأخري, في حين أنه إذا ما تحققت أهداف التحول الديمقراطي من المأمول أن يتضمن تعليما ديمقراطيا للجميع, بما فيهم الأميين الذين تتفاوت تقديراتهم ما بين30% و40% من مجتمع الكبار. ولم يقتصر الفساد علي سد تلك المنابع بل يتعداه إلي برامج محو الأمية وتعليم الكبار ذاتها واختزالها ليصبح لدينا حاليا نحو6 ملايين من الأميين الذكور في الفئة العمرية ما بين15 35 سنة, و14 مليونا من الإناث في تلك الفئة العمرية. والاقتصار الآن علي هذه الفئة العمرية ما بين15 34 سنة بعد أن كانت القوانين تمتد إلي جميع فئات الأعمار من الأميين يعد تزييفا وفسادا واعتداء علي حق التعليم لأي أمي, وتضليلا ديمغرافيا للاختصار في الأعداد من المواطنين ممن يشملهم قانون تعليم الكبار, الذي لو امتدت سنوات العمر فسوف تصل لمن ينبغي تعليمهم وتم تسميتهم أميين إلي39% علي الأقل وليس20%! ومن أنواع الفساد في مشروع مكافحة الأمية ما كان يجري من امتحانات في برامجها من خلال مديريات التربية والتعليم, ومصداقية ما تصدره من شهادات تثبت محو أمية من يحملونها, حيث تمنح لمن لم ينجحوا في الامتحان, بل لمتعلمين وجامعيين أيضا!! وهكذا كانت شهادة محو الأمية سلعة تتفاوت فيما بين المحافظات, أو تعطي لمتعلمين لدعم جهود المسئولين في إثبات نشاطهم في هذا المجال. وهنا أتساءل: أليس لدينا الخبرة الكافية حتي الآن في طرق تعليم الأميين, والمناهج وأساليب التدريب, وكتابة الكتب المناسبة لهم خلال قرنين ونصف القرن من الزمان, منذ إنشاء مركز التنمية الأساسية بسرس الليان عام1952 ؟! روشتة علاج ويضع د.عمار روشتة القضاء علي الأمية مقترحا علي الدولة بأن تقوم وزارات الشئون الاجتماعية والثقافة والإدارة المحلية بتعبئة الجمعيات الأهلية, وقصور الثقافة للإسهام الكثيف في القضاء علي الأمية, ولدينا الأن نحو30 ألف جمعية ونحو20 قصرا من قصور الثقافة, لكي تكلف كل واحدة من هذه المؤسسات بالقضاء علي محو أمية ما بين50-100 من الرجال والنساء كل عام, مقابل خمسون جنيها عن كل من تقضي علي أميتهم بصدق وأمانة. هذا الي جانب ما تقوم به الهيئة العامة لمحو الأمية, ومع هؤلاء تواصل القوات المسلحة جهودها في القضاء علي أمية المجندين لديها, يضاف إلي ذلك تعبئة طلاب الجامعات في تلك المهمة كجزء من رسالة الجامعة في خدمة المجتمع, وأن يشار إلي ذلك في تقرير يضاف إلي شهادة التخرج, وهذا يتطلب وضع خطة لمدة خمس سنوات تشمل التزام تلك الهيئات والجماعات بالمشاركة في معركة محو الأمية باعتباره عملا وطنيا, وإتاحة حق التعليم لأولئك الفقراء. كما تتضمن الخطة تكليف ممثلي أعضاء المجالس المحلية في القري والمدن, بالتعاون مع المدارس الابتدائية والاعدادية في القضاء علي ظاهرة عدم التحاق الأطفال في سن السادسة بالمدرسة الابتدائية, لضمان عدم التسرب أو التساقط من المدرسة بعدها, مع معالجة مشكلات أولياء أمورهم ومساعدتهم بالمعونات الاجتماعية, وبهذا نقضي أيضا إلي حد كبير علي ظاهرة أطفال الشوارع, وما ينتج عنها من مشكلات اجتماعية, وتصدق المقولة' إن كل من لا نجد لهم مجالا للتعليم, سوف نضطر لفتح سجون لهم في المستقبل', وبعملية حسابية عاجلة مع جدية العمل والأداء أتوقع أن نقضي علي ما يصل إلي3 ملايين سنويا من مصدر الأميين بمشاركة القطاع المدني.