مشاهد الجدران الشاهقة التي نراها في محيط قصر الاتحادية, تعبر بوضوح عن ارتفاع الحواجز السياسية بين مؤيدي ومعارضي قرارات الرئيس, التي فشلت في ازالتها محاولات التخفيف من خلال الالتفاف, كما أن مساعي الحوار المبتورة سدت أبواب الأمل لايجاد مساحة مشتركة يمكن البناء عليها للتوافق وحلحلة الأزمة الحالية. الجدران السميكة التي انتشرت في الآونة الأخيرة بالقرب من عدد من الأماكن الحيوية, بدت لأصحابها وسيلة سهلة لمنع أي اشتباك بين قوات الأمن والمتظاهرين. لكن عندما تنتقل إلي القصر الرئاسي وبصورة كثيفة تجعل المسألة مخيفة, فإذا كانت هي وسيلة فرضتها الأجواء الأمنية, فإن معانيها السياسية كبيرة, حيث توحي باتساع الشرخ بين الرئيس ومعارضيه, وتعطي انطباعا مسبقا بعدم القدرة علي التواصل السياسي, وتقطع الطريق علي أي اتجاه جاد للحوار الوطني. والأخطر أنها تؤثر علي صورة مؤسسة الرئاسة التي من المفترض أن تكون حاضنة لجميع القوي. وقد ظهرت معالم الفجوة في الارتباك الحاد الذي رأيناه في كثير من القرارات التي صدرت عنها, ولا يمكن فهم أسباب صدورها ولا حتي دواعي التراجع عنها, إلا في اطار سياسة الجيتو التي تنفصل عن المحيط الواسع لتراعي مصالح جماعة معينة, علي حساب مصالح شرائح أخري. لذلك سيكون من الصعوبة الوصول لصيغة تخرجنا من المتاهة التي جرنا إليها البعض بارادته ودخلها البعض الآخر دون ارادته, إلا إذا تمت ازالة الجدران السياسية قبل العوازل الاسمنتية. الشواهد التي أمامنا تشي باستمرار الحواجز المعنوية والمادية. فما كشفته تطورات الأيام الماضية يقول إن التصورات التي يتبناها خطاب رئيس الجمهورية هي تصورات اقصائية, لا تؤمن بالمشاركة الوطنية, ولا تملك الارادة لتقليل الفواصل السياسية, ولا تراعي القوي المعارضة لتصرفاته, بصرف النظر عن نسبتها, كبيرة أو قليلة. وأي شخص يضع انحيازه جانبا سيجد أن غالبية الميول والتوجهات والقرارات تصب في صالح تيار معين, يسعي إلي السيطرة علي مفاصل الحياة المصرية. الأمر الذي يثير حساسيات في صفوف المعارضين ويزيد من قلق المتحفظين والمهمشين. لأن الجدل الدائر حول الدستور وموعد الاستفتاء عليه, هو قمة جبل الثلج, ولا يعكس فقط اختلافا في تفسير مادة من هنا أو هناك, بل يتجاوز تقديرات اللحظة الراهنة ويشير إلي ما يمكن أن نراه في المرحلة القادمة من اجراءات, قد تصل إلي حد الخطأ في بعض القرارات المصيرية. هنا تكمن سلسلة من المخاوف, تولد معظمها بسبب طريقة اعداد الدستور والظروف التي سيتم فيها التصويت عليه. وهو ما عزز التباعد بين القوي المدنية والدينية وزاد من الشكوك في امكانية تسوية القضايا الخلافية. ورغم المرارات التي خلفتها مظاهرات واشتباكات قصر الاتحادية, غير أن نتيجتها الايجابية تأتي من ثبوت عدم الاستهانة بالقوي الليبرالية واليسارية, حيث فاقت قدرتها علي الحشد والتلاحم كل توقعات القوي الدينية, التي ظهرت علي تحركاتها علامات واضحة من عدم الرشادة, بصورة أدت إلي زيادة السخونة السياسية. وقد أكد أحد القيادات الاسلامية أن حيوية القوي المدنية وعافيتها الشعبية ستكون عاصما لعدم التمادي في مزيد من التصرفات الاقصائية, بدليل ميل جماعة الاخوان المسلمين للحرص علي أهداب الحوار عقب توالي أزمات الجمعية التأسيسية والاعلانات الدستورية. لكن هذا في تقديري لن يلغي الجدران السياسية, التي تتمسك ببقائها بعض القوي الدينية, وتحرض علي التشبث بها, من خلال الامعان في التصعيد ضد شخصيات سياسية وصحفية لامعة وأماكن قانونية واعلامية بارزة. بصورة تقلل من فرص التوافق الوطني, خاصة أن هذه الخطوات تحظي بمباركة ومساندة حزبية وتشارك فيها رموز اسلامية, تستخدم الدين لدغدغة مشاعر المواطنين وتشويه صورة المخالفين. هذا الطريق لم يأت نتيجة رعونة شبابية, لكنه جاء كأداة سياسية, ربما تعصم القوي الدينية من أي تفاهمات تترتب عليها تنازلات والتزامات تؤثر علي التحالفات الداخلية, التي جاء انسجامها الظاهر علي خلفية الشك في نوايا وأهداف القوي المدنية. وإذا كانت الجماعات الشبابية نجحت من قبل في تحطيم كثير من الكتل الخرسانية, فلن تعجز عن تكرارها أمام قصر الاتحادية. وستظل معركتها مستمرة مع فضاء الجدران السياسية. المزيد من مقالات محمد ابوالفضل