وأظن ثالثا أن عام 1973 هو بداية لنقلة كيفية في مسار الحضارة الانسانية, إذ في ذلك العام انعقد المؤتمر العالمي الخامس عشرفي فارنا ببلغاريا بتنظيم من الاتحاد العالمي للجمعيات الفلسفية. وكنت شاهد عيان علي هذه النقلة الكيفية, إذ دعيت من قبل الهيئة المنظمة لذلك المؤتمر علي الرغم من أنني لم أكن عضوا في أي جمعية فلسفية وهو أمر مخالف لقانون الاتحاد الفلسفي العالمي الذي ينص علي عدم التعامل إلا مع الجمعيات الفلسفية. والسؤال بعد ذلك: لماذا أقول عن مؤتمر فارنا إنه أحدث نقلة كيفية علي الرغم من أنه كان المؤتمر الخامس عشر في سلسلة المؤتمرات التي انعقدت منذ بداية القرن العشرين؟ الرأي عندي أن ثمة سببين: السبب الأول مردود إلي أن مؤتمر فارنا قد ضم لأول مرة فلاسفة من دول العالم الثالث: إفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية, ومن ثم اتسم بالعالمية, إذ قبل ذلك كانت الدعوات موجهة إلي الجمعيات الفلسفية الأمريكية والأوروبية شرقا وغربا. والسبب الثاني مردود إلي ما جاء في خطاب الفيلسوف والعالم الفزيائي وسكرتير عام الاتحاد العالمي أندريه مرسييه (1913-1999) في ديسمبر 1972 جاء فيه أن اللقاء بين مفكرين من مختلف الانتماءات الفلسفية يعتبر فرصة فريدة لتبادل الرأي في القضايا الخلافية والمشكلات الجوهرية في الفكر المعاصر الأمر الذي يشترط توفير الحرية اللازمة لأي حوار فلسفي. ثم استطرد قائلا: لا أحد يستطيع التنبؤ بأن يكون الحوار الفلسفي علي غرار ما كان يحدث في مؤتمراتنا العظيمة فيما مضي من الزمان. ثم أردف قائلا: إن مؤتمر فارنا حدث مهم في تاريخ الفلسفة في نهاية القرن العشرين. والمطلوب اذن التفاهم المتبادل, وعلي الأخص في مناخ سياسي عالمي يتسم بالتوتر. والسؤال اذن: لماذا بدا مؤتمر فارنا وكأنه يشي بعاصفة فلسفية؟ لقد لمحت بداية هذه العاصفة أثناء محاوراتي مع الفلاسفة السوفيت في موسكو في عامي 1968,.1969 فقد كان ثمة تيار عام وقوي منفتح ومنغلق علي الغرب في آن واحد. منفتح علي المشكلات التي تثيرها الفلسفة الغربية, ولكنه منغلق علي الحلول التي تقدمها هذه الفلسفة. وفي مؤتمر فارنا كان المفجر للعاصفة الفلسفية الفيلسوف البريطاني السير ألفريد إير. فقد شن هجوما عنيفا علي ماركس بدعوي أنه ليس فيلسوفا بل مجرد سياسي أو عالما من علماء الاجتماع, وأن الايديولوجيا التي كان يدعو اليها ايديولوجيا غير علمية وتخرجه من عالم الفلسفة, لأن وظيفة الفلسفة وصف العالم وليس تغييره لأن تغييره يتم بالتكنولوجيا وليس بالايديولوجيا. وجاء رد الفيلسوف الماركسي البلغاري ايريباجاكوف بأن إير أخطأ في تقييم ماركس, ذلك أن ماركس فيلسوف بمعني الكلمة, يؤسس رؤية كونية ذات مضمون اجتماعي ويتخذ منها سلاحا من أجل التحكم في الصراع الاجتماعي. ويترتب علي ذلك أن الفلسفة بالضرورة ملتزمة. ولهذا فان إير يخطئ عندما يفرغ الفلسفة من الايديولوجيا. ولم يتوقف الصراع بعد ذلك في هذا المؤتمر, إذ تواصل في اطار العلاقة بين الايديولوجيا والتكنولوجيا. و في هذا الاطار كان عنوان بحثي الذي ألقيته في ذلك المؤتمر انسان- إية القرن العشرين. ولفظ إية هنا هو اختصار للفظ ايديولوجيا. والاختصار هنا لازم لبيان العلاقة الحميمة بين الانسان والايديولوجيا. وهذه العلاقة بدورها تكشف عن خاصية أساسية لدي الانسان وهي التزامه بضرورة تغيير الواقع إلي الأفضل. والمفارقة هنا أن الواقع عندما يتغير فانه يتجاوز الايديولوجيا التي صنعته الأمر الذي يلزم الايديولوجيا بأن تصبح مطلقة حتي تمنع الواقع المتغير من مجاوزتها. والخروج من هذا المأزق يستلزم نسف الايديولوجيا التي أصبحت مطلقة والبحث عن ايديولوجيا جديدة. وفي نهاية المؤتمر قال السكرتير العام أندريه مرسييه: اذا استمر الصراع علي هذا الوضع فنحن أمام أحد احتمالين: إما أن يكون هذا المؤتمر هو المؤتمر الأخير للاتحاد الدولي, وإما أن ينعقد المؤتمر القادم علي سطح بارجة حربية. المزيد من مقالات مراد وهبة