نجحت الثورة المصرية في إزاحة رموز النظام القديم, وفتحت الباب أمام تشكل نظام جديد, استنادا إلي آليات التحول الديمقراطي, وعلي رأسها إجراء الانتخابات النيابية والرئاسية, واختيار رئيس مدني هو الدكتور محمد مرسي. والذي تمكن في غضون عدة أسابيع من إنهاء ازدواجية الحكم أو تقاسم السلطات علي رأس الدولة المصرية. بيد أن هذا النظام الجديد في تقديري وربما في تقدير الكثير من المواطنين والساسة علي حد سواء, قد أبقي علي السياسات القديمة, مع بعض التعديلات, وضمن خطاب سياسي آخر مختلف; من حيث مفرداته وتراكيبه اللغوية وبعده عن الاستعلاء علي المواطنين والاقتراب منهم بقدر ما تسمح به الظروف. وقد تجلي هذا الأمر في أمور عديدة سواء علي المستوي الخارجي أو المستوي الداخلي, فعلي صعيد السياسة الخارجية بدا للكثيرين أن السياسة الخارجية المصرية تتجه شرقا إلي الصين, بينما بقي في واقع الأمر أن الأولوية للتوجه غربا أي إلي الولاياتالمتحدةالأمريكية والاتحاد الأوروبي, وبدأ التوجه شرقا كما لو كان لصرف الانتباه عن بقاء التوجه غربا كمحور أساسي للسياسة الخارجية المصرية; للحصول علي الاعتراف والأهلية والمصداقية الدولية وتجنب ردة الفعل الغربية إزاء القادم الجديد إلي الحكم إذا ما أبدي توجها مختلفا يشتم منه العداء. ورافق هذا التوجه في ظل الإدارة العسكرية وإدارة الرئيس مرسي الحالية طمأنة الدوائر السياسية الغربية بمختلف مستوياتها إلي الإبقاء علي المعاهدة المصرية الإسرائيلية, وعدم المطالبة بتعديل الملحق الأمني علي نحو خاص, الذي يعالج الوجود العسكري المصري خاصة في المنطقة( ج) الحدودية المجاورة لإسرائيل, وهي المطالبة الشعبية التي نادي بها الكثيرون منذ ما قبل سقوط النظام بل وأثناء بقائه وذلك تحت مقولة' احترام مصر لالتزاماتها الدولية', وهكذا يبدو أن الانتقال من المعارضة إلي الحكم قد يعني أيضا الانتقال من المثال والنموذج إلي الواقع بتعقيداته والسقف المفروض بتوازناته القائمة. ولم تتمكن إدارة المجلس العسكري أو إدارة الرئيس مرسي من تطوير وصياغة لمنظور مصر إزاء التسوية بعد ثورات الربيع العربي, ولم تبادر أي من هاتين الإدارتين لتطوير مبادرة السيد نبيل العربي ورؤيته حول عقد مؤتمر دولي للسلام في الشرق الأوسط برعاية الأممالمتحدة. أما علي الصعيد الداخلي فحدث ولا حرج, حيث بقيت سياسات النظام القديم الاقتصادية والاجتماعية, ودخل مفهوم العدالة الاجتماعية وهو أحد الشعارات الثلاثة للثورة المصرية, دهاليز البيروقراطية المصرية والسياسات السابقة, وقد بدا ذلك جليا في لجوء الإدارة الجديدة إلي الاقتراض من المؤسسات الدولية. من المؤكد أن الوضع الاقتصادي في مصر بعد الثورة في صورة لا يحسد عليها, تمثل ذلك في توقف الإنتاج جزئيا وتآكل الاحتياطي النقدي وتدهور السياحة وما دون ذلك, ومع ذلك فإن إقرار الاقتراض كعلاج سوف يرتب مضاعفات كثيرة, مصر والمصريون في غني عنها; ثمة اشتراطات علنية وضمنية علي طالب القرض تلبيتها وتنفيذها حتي ولو اتخذت طابعا مصريا نابعا من الداخل. والأهم من هذه المضاعفات المعروفة هو بالتأكيد مناقشة الافتراضات الضمنية التي تتأسس عليها السياسة الاقتصادية المصرية الراهنة, خاصة فيما يتعلق بسياسة الاقتراض من المؤسسات الدولية. الافتراض الأول الذي تستند إليه هذه السياسة يتمثل في أن الاقتراض من هذه المؤسسات كوسيلة لإصلاح الوضع الاقتصادي لا غبار عليها, بل يكمن العيب في تطبيق هذه السياسة وانعدام الضوابط وشيوع الفساد, وكأنه بمجرد وضع ضوابط لإنفاق هذا القرض ومراقبة هذا الإنفاق كفيلة بتجنب مساوئ الاقتراض وشروطة. الافتراض الثاني أن السياسات الاقتصادية القديمة التي يعاد تطبيقها والتي تنتمي إلي سياسات النيوليبرالية أو الليبرالية الجديدة بريئة, مما ينسب إليها من عيوب ومضاعفات وآثار في مقدمتها رفع الدعم عن بعض السلع الأساسية وتقليص دور الدولة في القطاعات الاقتصادية وحرية رأس المال وانتقال ملكية الشركات والمصانع من الدولة إلي القطاع الخاص, وإنما تكمن العيوب والمضاعفات فيمن يقومون بتطبيق هذه السياسة والمناخ الفاسد الذي تطبق فيه. ولا شك أن كلا الاعتراضين يتناقضان جزئيا أو كليا مع حقيقة وجوهر هذه السياسات التي تتأسس علي حرية رأس المال واستهدافه لتحقيق الربح الأقصي والحد من تدخل الدولة وتخليها عن الضعفاء والمهمشين والعمال غير المهرة, وحصر حق العمل في فئات عالية التأهيل وإضعاف النقابات العمالية وتنظيمات وآليات الحماية الاجتماعية, التي كانت تكفلها دولة الرفاهية في الغرب المتقدم والتزمت بها الدولة القومية العربية إبان صعودها في حدود المتاح والممكن. من ناحية أخري فإن هذه الافتراضات التي تتأسس عليها هذه السياسات تتناقض والخبرة العملية والتاريخية لتطبيق هذه السياسات, ليس في مصر فحسب, وإنما في تونس وغيرهما من بلدان أمريكا اللاتينية, ولا تزال ذاكرة الشعوب تحتفظ في ثناياها بتعبير' انتفاضات الخبز' في مصر وتونس وغيرها من البلدان, وذلك فضلا عن نمو وتطور الحركات المناهضة للعولمة في أوروبا وأمريكا والتي تطالب بوجه إنساني للعولمة بدلا من الوجه العنيف والاستعلائي الذي أطلت به علينا. وهكذا ذهب النظام وبقيت سياساته مغلفة بكلام مختلف ولغة مختلفة, وبقيت شعارات الثورة المصرية في الحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية عالقة علي أبواب النظام الجديد تطرق الأبواب, وتبحث عمن يأخذ بيدها إلي حيز الواقع. ثمة بالتأكيد حسابات معقدة وراء هذه الاختيارات داخلية وخارجية يتعلق بعضها ربما بالتريث والتدرج وترتيب الأولويات الداخلية والخارجية وتغليب اعتبارات الاستقرار والطمأنة, ومع تقديري لهذه الاعتبارات والمواءمات فإن مصير الثورة وأهدافها وشعاراتها يفوق ما لهذه الاعتبارات من أهمية, وأن الإبقاء علي أهداف الثورة عالقة قد يكون أخطر بكثير من تبني سياسات جديدة تقترب من أهداف الثورة إن لم تحققها. ورغم ذلك فإنه يبقي في النهاية أمران يجدر الانتباه إليهما الأول أن التغيير المأمول في السياسات قد لا يعني بالضرورة القطع النهائي مع السياسات السابقة بل قد تتعايش بعض عناصر السياسات القديمة مع السياسات الجديدة خاصة في مجالات معينة يمكنها أن تجمع بين الثبات والتغير المدروس والمحسوب. الأمر الثاني أن تبني واعتماد سياسات جديدة قد لا يعني حل كل المشكلات فورا وتلبية كافة المطالب فورا, ذلك أن تبني هذه السياسات وتنفيذها قد ينطوي علي مقاومات شتي ويواجه عقبات لابد من تذليلها خاصة مع ضخامة حجم المشكلات المتراكمة والمطالب الاجتماعية الراهنة, وأخيرا وليس آخرا فإن السياسات التي أعنيها والجديدة ليست بالضرورة استعادة لسياسات حقبة معينة أعني الحقبة الناصرية بل سياسات تستند إلي صياغة عصرية ومصرية واجتماعية كفيلة بحل مشكلات الفقر والبطالة وتحقيق الانطلاق, قد لا تختص مصر وحدها باستمرار السياسات الليبرالية والنيوليبرالية علي الصعيد الاقتصادي بل يشارك أيضا تونس وغيرهما من بلدان الربيع العربي. المزيد من مقالات د. طه عبد العليم