تحتفل مصر بالذكري الستين لثورة يوليو التي جاءت تخلص مصر من حقبة تاريخية عاني فيها المصريون من النظام الملكي والاحتلال الأجنبي معا، ونفذ الضباط الأحرار ثورتهم بنجاح لم يتوقعه أكثر المتفائلين منهم ؛ وجاءت الثورة بمبادئ ستة وهي: القضاء علي الإقطاع والاستعمار وسيطرة رأس المال وبناء حياة سياسية وديمقراطية سليمة وبناء جيش قوي، بالإضافة لمجانية التعليم ورغم أن الثوة اكتسبت تأييدا شعبيا عارما إلا أن هذا لم يمنع وجود معارضين للثورة ولرموزها من الضباط الأحرار منذ أحداث 23 يوليو عام 1952 وخلع الملك ؛ وقد مثلث ثورة يوليو المشروع الشرعي الذي عاش عليه نظام حكم الرئيس السادات ؛ وعاش عليه نظام " مبارك " حتي سقوطه لأنه خرج عن الأهداف السامية التي قامت من أجلها الثورة .. ولكن الخبراء والسياسيين والمثقفين أجمعوا علي أن منجزات الثورة قد انتهت وكانت آخر مشاهدها بيع البنوك الوطنية ودخول المستثمرين الأجانب بشكل مخيف - من وجهة نظرهم في الاقتصاد المصري - مرورا بالقضاء علي الإقطاع ومجانية التعليم التي تحولت لكابوس يدفع المصريون له ملايين الجنيهات والنتيجة خريجون شبه جهلاء. والسؤال ماذا أبقي النظام السابق من ثورة يوليو ومنجزاتها من وجهة نظر الخبراء والسياسيين؟ هل ما تبقي فقط هو مساوئ الثورة ؛ حيث تركزت السلطة في يد مجموعة من الأشخاص وتطبق الفكر السلطوي القائم علي تأليه الفرد؟.. نفتح هذا الملف الشائك وتطرح سؤالا: ماذا بقي من ثورة يوليو بعد مرور 60 عاما عليها؟ في رأي د.وحيد عبد المجيد مدير مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية أنه لا يمكن الجزم بأن ما أنجزته ثورة يوليو قد انتهي علي أيدي نظام " مبارك " فالواقع يؤكد أن منجزات هذه الثورة انتهت قبل تولي الرئيس مبارك الحكم أو في بدايات عهده ؛ ولأن النظام الذي صنعته الثورة كان هشا وأهم ما جاءت به كانت سياسات اجتماعية فيها قدر من العدالة الاجتماعية في مجالات معينة ؛ لكنها كانت تحمل بذور نهايتها ؛ لأنها كانت عدالة غير متوازنة قامت على الانحياز الشديد للحضر على حساب الريف والصناعة على حساب الزراعة وحولتها لمصدر للتراكم المالي لبناء الصناعة، كل ذلك أدي لسياسات قاسية بالنسبة للمزارعين أدت إلي تدهور أحوالهم وتدهور الزراعة نفسها حيث كان يعتمد عليها كمصدر رئيسي للدخل وتحول الريف إلى مكان تصعب الحياة فيه بعد الثورة. وأوضح د. عبد المجيد أن مبادئ ثورة يوليو التي رفعها الضباط الأحرار وهي القضاء علي الإقطاع والقضاء علي الاستعمار وسيطرة رأس المال وبناء حياة سياسية ديمقراطية سليمة وبناء جيش وطني ومجانية التعليم، كانت شعارات ؛ فمجانية التعليم ليست من صنع الثورة، حيث يعتبر حزب الوفد أول من فتح الباب أمام المجانية، والثورة أكملت ذلك ومن ثم لا يمكن القول إن مجانية التعليم مبادئ ثورة يوليو. وأكد عبد المجيد أنه يمكن التأكيد علي أن شواهد ثورة يوليو قد انتهت والنظام السابق قضي علي بقاياها لكن التاريخ يؤكد أن الرئيس السادات هو الذي قضى عليها وعلى شواهدها لأنها كانت هشة وغير قابلة أو قادرة على الاستمرار، وما كان يحدث من دعم للسلع في هذه الفترة أو ما شابه هذه الممارسات يعتبر من ملامح الدولة الأبوية وهو جزء من النظام السياسي وليس الاقتصادي أو الاجتماعي ؛حيث لا تزال الدولة تدعم السلع والخدمات وهو ما يستهلك 40% من الموازنة العامة. وعن تبني الثورة لفكرة التحول الديمقراطي وبناء حياة سياسية سليمة قال د. عبد المجيد: إنه في بداية الثور كان هناك اتجاه حقيقي لتحول ديمقراطي، وذلك بإخراج الملك وإنهاء الملكية وإعادة السلطة للناس وللأحزاب، لكن الملابسات أدت إلى نظام غير ديمقراطي، لكن منذ أن ظهر النظام غير الديمقراطي عام 1954 حتي هذه اللحظة لم تكن هناك أي حاجة في الإصلاح باستثناء بعض الجديد في عامي 2004 و2005 حيث تمت هناك بعض الإصلاحات الجزئية والمحدودة بسبب الضغوط الخارجية لكنها توقفت الآن، ونظام " مبارك " لم تكن لديه أي نوايا حقيقية للإصلاح الديمقراطي .. والضباط الأحرار عندما قامت الثورة لم يكن هناك اتجاه لبقائهم في السلطة لكن الأمور سارت بشكل لم يكن متوقعا وظلوا في السلطة وأصبح نظامهم السياسي غير ديمقراطي. مبادئ جوهرية بينما يرى د. جمال عبد الجواد نائب رئيس مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية : إن ثورة يوليو حتى منتصف الستينيات كانت الثورة قد تبلورت كل مبادئها من حيث الإدارة الاقتصادية والعدالة الاجتماعية والوحدة العربية ومعاداة الاستعمار ومنذ هذا التاريخ فقد بدأ النظام السياسي يتخلي عن هذه المبادئ وكانت نكسة67 هي البداية الحقيقية لذلك في تعديل بعض التوجهات الخارجية في عهد عبد الناصر ؛ ثم جاء العهد الذي تخلت فيه الدولة عن إدارتها للاقتصاد الوطني وتبني سياسات جديدة وبدأت مصر في التخلص من النظام الذي تأسس في عام 52 حتي عام 65 ، ويرى د. عبد الجواد أنه في عهد الرئيس السابق مبارك فإن سياسات الحد من تدخل الدولة في الاقتصاد قد وصلت إلي مراحل متقدمة جدا وتحولت إلى اقتصاد السوق ؛ وفي المجال السياسي فقد تبدل كل شيء من مبادئ الثورة إلى نقيضه تماما وذلك حتي عام 2000 إلا أننا في آخر خمس سنوات بدأنا في الخروج من نظام سيطرة الدولة علي المجال السياسي ومظاهر الاحتجاج التى تشهدها مصر أخيرا هي ظاهر صحية وأن يستعيد العمال القدرة علي المبادرة والمطالبة بحقوقهم فهذا أمر إيجابي ولم يكن أحد في عهد عبد الناصر يجرؤ علي القيام بذلك ؛ وصحيح أنها أعطتهم حقوقهم ولكنها حرمتهم من حق الدفاع عن مصالحهم وحرياتهم. وأشار د.عبد الجواد إلى أن الديمقراطية فى مصر قد تم التخلي عن كل مبادئها ؛ واتبعت نظم قمعية لكل من يحاول الخروج على ممارساتها الاستبدادية، وتحولنا من نظام حكم كان يأخذ مبادئ الاشتراكية متمثلة في الاتحاد السوفيتي إلى القطب الأمريكي ومبادئه وانفتاحه كان السبب في عدم وجود مبادئ للديمقراطية حتى الآن ؛ وهذا لا يعني أن "مبارك" حاول الحفاظ علي مبادئ الثورة ؛ ولكنه منذ بداية حكمه قد أخذ على عاتقه التخلص منها ولكن هذا لا ينفي بعض الممارسات الديمقراطية التي شهدتها مصر في السنوات الأخيرة. إهدار ارادة الشعب وأكد د.نبيل زكي القطب اليسارى المصرى أن كل الشواهد الحالية تؤكد أنه لم يبق شيء من ثورة يوليو بعد رحيل الرئيس عبد الناصر وتولي السادات الحكم وتحديدا بعد عام 73 مباشرة فقد بدأت مصر مرحلة الانفتاح الاقتصادي مما ساهم في تقليص القطاع العام والتوجه نحو الخصخصة، وجاء في خضم ذلك إلغاء الخدمات الاجتماعية تدريجيا من مجانية التعليم وخلافه، وبالتالي المدقق في العصر الحالي يتضح أمامه حقيقة واحدة متمثلة في أن نظام 23 يوليو لم يبق منه سوي شىء واحد وهو هزيمة 67 بمعني أن الأراضي العربية مازالت محتلة حتى الآن من أراضي فلسطين وسوريا ولبنان، وفي الوقت نفسه هناك من يرون أن بقاء النظام الجمهوري إحدى سمات الثورة ولكن هذه الميزة شابها العديد من العيوب بمجرد تعيين عبد الناصر لنائب وكذلك الحال بالنسبة للرئيس السادات، ومن ثم أصبح الشعب لا ينتخب رئيسه بينما الوضع الصحيح أن ينتخب النائب مع الرئيس على غرار ما يحدث في الانتخابات الأمريكية، وحتى قانون الإصلاح الزراعي الذي كان أهم إنجازات الثورة فقد تم إجهاضه بإصدار قانون المالك والمستأجر في عام 97 وهذا أدي إلى عودة الرأسمالية وتكريسها من جديد وصار التحالف قويا بين السلطة ورأس المال، وبالنسبة للجزء الخاص بالتأمين فقد تم إلغاؤه فلم يعد التمصير موجودا ؛ فالأجانب دخلوا البلاد واشتروا كثيرا من ممتلكات الدولة، وبالنظر لطبيعة المجتمع الحالي فقد اختلف تماما عن مجتمع الثورة فغالبا يطبق نظام السوق والأسعار صارت وفق العرض والطب منذ الحقبة الناصرية .. وأيضا اختفى الإسكان الشعبي ولم يعد التعليم مجانا وحتى الخدمات الصحية بدأت تتلاشي. لم يبق شيئا وأكد د. سيف الدين عبد الفتاح أستاذ العلوم السياسية بجامعة القاهرة أنه لم يبق شيئا من المبادئ التي قامت عليها ثورة يوليو حتى علي مستوى الشعارات في بداية العصر الحالي كانت الثورة تمثل الشرعية للنظام وذلك عند انتخابات 1982 و1987 ثم بدأ التخلي تدريجيا عن هذا الشعار إذا ما واجه أزمة حقيقية، واستقلال القرار السياسي لمصر - والتي كان يحرص عبد الناصر على الالتزام به -لم يعد له وجود وأصبحت كل أوراق مصر في يد أمريكا وإسرائيل وتخلي عن أهداف الثورة بمساندة عمليات التحرر والقضايا العربية والإقليمية في المنطقة ودول العالم الثالث ومنظمة عدم الانحياز .. وبالنسبة للشأن الداخلي فإن مجانية التعليم والصحة والإسكان الشعبي والتي حرصت الثورة على ترسيخها والعمل من أجلها فإن "مبارك" مارس سياسات منظمة قوضت كل ذلك .. إلي جانب ذلك فقد أهدرت شرعية الدولة التي تأسست علي أنها القائد للمجتمع وعدم تكوين الثروات وتذويب الطبقات وجعل النظام الحالي الدولة وصناعة القرار في البرلمان في يد حزمة من رجال الأعمال سيئ السمعة ممن نهبوا أموال البنوك.