وضعت الثورات العربية، فى تونس ومصر وليبيا واليمن وسوريا، العالم العربى على أعتاب التحول الديمقراطى، بيد أن هذا التحول لا يقف أو ينتهى عند خلع رموز النظام السابق، أو إجراء انتخابات برلمانية نزيهة، أو انتخابات رئاسية حرة وتنافسية، لكنه يبدأ بهذه الخطوات ولا ينتهى بها. الخطوات السابقة تفتح الطريق لاستكمال مقومات التحول الديمقراطى، وتجاوز التحديات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية التى تعترض بناء وترسيخ الديمقراطية، ولا شك أن الطريق إلى التحول الديمقراطى لا يسير بالضرورة فى خط مستقيم بل فى خط متعرج وفق العديد من الظروف والملابسات. لن يكون بمقدور المجتمعات العربية أن تنجز البناء الديمقراطى ما لم تتبنَّ تغييراً جذرياً على الصعيد الاقتصادى والاجتماعى، يتمثل فى معالجة الفقر وتوفير الحد الأدنى للحياة الكريمة والحد الأدنى لإشباع الحاجات الأساسية للمواطنين، وتقليص الفوارق الطبقية المتراكمة فى ظل النظم التسلطية السابقة، ولن يتأتى ذلك إلا عبر تبنى سياسات اقتصادية جديدة، لا تُبنى فحسب على اعتبارات العقلانية بل تُبنى جنباً إلى جنب على اعتبارات تتعلق بالكرامة الإنسانية. أما على الصعيد السياسى فإن ثمة العديد من المهمات التى ينبغى إنجازها حتى يترسخ بناء الديمقراطية فى المجتمعات العربية؛ إذ لا بد من توافر ثقافة ديمقراطية فى جميع المستويات، وجميع قطاعات الحياة؛ ذلك أن السياسة لا بد أن ترتكز على بعد وعمق ثقافيين جديدين، وذلك يعنى ضرورة نشر الثقافة الديمقراطية وتقويض أسس الثقافة التسلطية التى سادت عدة عقود فى ظل النظم السابقة. من ناحية أخرى، فإن إنجاز البناء الديمقراطى يتطلب إعداد وتجهيز وتنظيم القوى السياسية التى تحمل المشروع الديمقراطى وتدافع عنه، تلك القوى التى تؤمن مسار التحول ومعالجة إشكالياته ومضاعفاته بشكل بنَّاء، نظرياً وسياسياً.. إن تنظيم هذه القوى السياسية هو بمثابة القاطرة التى يمكنها الدفع بعملية التحول إلى الأمام وتأمين مسارها. فى هذا السياق، فإن تعلم التعددية الفكرية والتنظيمية والسياسية يبدو ضرورياً لتجاوز ميراث التسلطية والأحادية، وتدعيم القدرة على بلورة خيارات اقتصادية واجتماعية وثقافية عبر التفاعل الحر والمشاركة الواعية من الفاعلين السياسيين. وبديهى أن أى تحول ديمقراطى لن يكتمل ما لم نتمكن من تقويض مظاهر التسلطية المنتشرة والمتوطنة فى جميع مستويات السلطة والمجتمع والنظام القديم وتصفية العلاقات الأبوية، التى تفرض وصايتها على الفرد وتحول دون الحق فى الاختيار، وتفرض نوعاً من التنميط للبشر، يصادر التنوع والفروق الفردية والتميز. يضاف إلى ذلك ضرورة إصلاح المؤسسات الرسمية وإعادة هيكلتها على ضوء المبادئ والقيم الديمقراطية، وتحريرها من سطوة الأحزاب والمتنفذين وتطبيق القواعد القانونية. ولن يتحقق ذلك دون قيادة سياسية قادرة نظرياً وعملياً على حل ومعالجة مشكلات الانتقال والتعامل بحكمة مع مختلف العوامل التى تقاوم مسار هذا التحول الديمقراطى سواء أكانت تنتمى لحقل السياسة أم لحقل الثقافة.