تؤدى السينما وظائف عدة بحسب ما يقصده صناع كل فيلم، وذلك كوظيفة الترفيه مثلا، التى من خلالها يتمتع المشاهد بالفيلم المقدم، وربما كانت هذه الوظيفة الأولى للسينما فى بدايتها، لكن الأمر تطور حاليا إلى الوظيفة الدعائية للفيلم عبر التحريض على إيديولوجيا معينة أو انتماء قيمى محدد، وفى القلب من ذلك كله تبرز الوظيفة الجمالية للسينما، باعتبارها فنا من الفنون التى تصنع المتعة الجمالية، وتبقى الوظيفة التعليمية أو التوجيهية الأهم فى تلك الوظائف، من خلال تيسير بعض الدروس العلمية والعملية ومنها دعم الهوية الوطنية، كما استهدف ذلك فيلم «الممر» بطولة أحمد عز وإخراج شريف عرفة. «الممر»، فيلم حربى عصرى على مستوى القصة التى تنظر إلى الحرب على نطاق واسع، ومن ثم تمنح المشاهد القدرة على متابعة الاشتباكات الحربية بسهولة والاندماج إلى حد الشعور بالنشوة الوطنية، وفى الوقت نفسه، يتسم بطابع كلاسيكى على مستوى السيناريو، فليس هناك تلاعب زمنى فى الأحداث المثبتة فى النص المكتوب بعناية وجودة فائقة. فقد نجح «أمير طعيمة» فى كتابة السيناريو متضمنا نوعا من الحوار الخطابى الحربى والاجتماعى والرومانسى لضرورات الشحن المعنوى العسكرى فى هذا الوقت تحديدا، كما بدا لنا واضحا فى طريقة حديث العساكر والضباط بعضهم مع بعض، دون أن يشعروا بأى نوع من التصنع. وأدت موسيقى «عمر خيرت» دورا محوريا فى تحريك الأحداث على نحو جيد للغاية، إذ جاءت مفعمة بالحيوية التى تناسب مستوى التأثير العاطفى وأجواء المعارك واللحظات الرومانسية التى استطاعت بموجبها ممثلة رائعة بحجم «هند صبري» أن تكسب اهتمام وتواصل الجمهور، رغم قصر مدة الدور من الناحية الزمنية ونمطية الأداء للزوجة والأم. وبصفة عامة يبدو أن إيقاع فيلم «الممر» فى مجمله جيد للغاية، وإن كان يشوبه قدر ضئيل من التسرع فى بعض التسلسلات، كالمرحلة التى تلت الانسحاب بعد الهزيمة مباشرة فى بداية الفيلم ومشاهد النهاية التى تجاوزت إلى حد ما حالة التسرع، وأيضا كيفية إعداد جنودنا بدنيا وقتاليا، لكن أعجبنى تضمين المشاهد بالمواقف الكوميدية التى لاتبدو هزلية بالمرة فى سياقها ضمن الأحداث المزدحمة والمكدسة بالسخونة والنار والرصاص وقذائف الطائرات، بل على العكس تماما فقد جاءت ملائمة تماما للأجواء العامة للفيلم، لكن ظنى أن الاعتماد على «أحمد رزق» فى تحريك المواقف الكوميدية لم يكن هو الأفضل اختيارا، إذ بدا «محمود حافظ ومحمد فراج» الأخف دما والأكثر رشاقة فى الإفيهات المقبلة من فرط اللحظات العصيبة التى يمر بها الجنود فى وقت المعارك. على مستوى الأداء التمثيلي، كان كل أفراد فريق العمل موفقا من ناحية تجسيد البطولة الخارقة للمقاتل المصرى بشكل احترافي، ولعل حنكة وخبرة ساحر الكاميرا المخرج المبدع «شريف عرفة» فى قرار اختياره للممثلين فى أدوارهم كان صائبا للغاية، الأمر الذى صنع نوعا من التناغم فيما بينهم بفضل إدارته الجيدة وتحكمه الدقيق فى حركة الكاميرا واختياره لزوايا التصوير. وكل ذلك صنع لغة بصرية خاصة استطاعت أن تصيبنا بالمتعة والدهشة فى آن، وربما يرجع ذلك إلى أن فريق التمثيل بالأساس فريق احترافى مشهود له بالكفاءة، وأبرزهم النجم «أحمد عز»، الذى نجح فى استخدام التعبير الجسدى للممثل الذى يتبع إعمال الذهن، ويأتى تجسيدا للعواطف والانتقالات المحفزة له على الإتيان بالفعل الذى يبدو للمشاهد محاكيًا للواقع، وحاملًا دلالات شخصية المقدم «نور» من الناحية البطولية. فقد جعل «عز» من جسده أداة مرنة، بحيث تمكن من أن يعبر من خلاله عن رد فعل روحى أو رمزى معين، وهو ما ظهر للمشاهد فى شكل حضور قوى على مستوى الجسم والصوت، ما يؤكد إلمامه الجيد بالعواطف والمواقف والدوافع الإنسانية التى استطاع من خلالها القيام بتجسيد شخصية البطل المقاتل، صاحب الحس الإنسانى على نحو جيد وواقعى يناسب ملامح الشخصية العسكرية المصرية، لذا بدا «عز» مقنعا مقبولا متلائما مع نفسه ودوره شكلا ومضمونا، وهو ما يعكس لنا أنه ممثل يمتاز بعقل و جسم نشيط ،ففى هذا العقل والجسم النشيط تكمن القوة الديناميكية لتكوين الشخصية، كما يتضح جليا أنه أخلص للدور الذى يؤديه انطلاقا من روح وطنية صادقة تسكن بداخله. كما بدا حسن الأداء أيضا فى علاقة «رمزى» أحمد صلاح حسنى ب«نور» أحمد عز، إذ كانت تلك تفصيلة جيدة نتجت عنها لحظات درامية جيدة على صعيد القرار، وكذلك أداء محمد الشرنوبى الذى وفق تمثيليا، لكنه لم يوفق غنائيا، رغم عذوبة كلمات «أغنية الممر» التى تقول: لسه جاى من وسط العتمة ضي يفرد جناح النور ويوهبلك حياة تفتح عيونك ع الأمل وتشوف مداه. أما «إياد نصار» فكان أداؤه بارعا فى دور قائد المعسكر الإسرائيلى على مستوى التصميم الرائع للشخصية، وتجسيده بشكل موفق لشخصية العدو الحربى الشرير المنفلت فى ردود أفعاله المتباينة، ولعل «لكنته» كانت العامل الحاسم فى نجاحه فى أداء الدور، ما يشير لنا بأنه فنان مبدع، يستطيع فى كل مرحلة من حياته نفض الغبار عن موهبته - فى أى لحظة - وفسح الطريق أمامها مستفيداً بذلك من تجربته الراسخة لسنوات طويلة ممثلا بارعا فى كل الأدوار بصدق ودقة تعامله مع التجربة المهمة لحياته الإبداعية. عنصر« الأكشن»، المتمثل فى المواجهات الحربية والمعارك وتبادل إطلاق النار كان جيدا للغاية، ومشاهد النكسة تحديدا كانت تتصف باستثنائية خاصة فى جودتها، وتظل النقطة الأكثر أهمية أن الفيلم آثر عدم الاختصار فى تلك المواجهات أو تعمد أن يقتصد فى تفاصيلها بشكل مخل، بل أخذت حقها تماما ومنحت المشاهد فرصة أن يدقق ويتواصل مع كل جولة وكل شخصية. ولم يقتصر نجاح الفيلم على جودة المؤثرات الصوتية والمادة البصرية للمعارك، التى أدارها بحرفية المبدع «شريف عرفة»، بل نجح بالفعل فى صناعة تلك الجوانب الفيلمية غير المسبوقة، وربما ساعد «عرفة» فى تحقيق هذا الهدف وجود مصمم المعارك الجنوب إفريقى «آندرو ماكنزي»، مع الاستعانة بقليل من المواد الأرشيفية، فضلا عن الدعم الكبير من جانب القوات المسلحة المصرية، وهو ما انعكس على البنية الفنية للفيلم إجمالا، وعلى مستوى الحوار الذى أدى إلى تنامى الأحداث أو الموضوع أو القصة التى يعالجها، و بيان تطور الصراع الدرامى على النحو المطلوب من فيلم يسعى بالضرورة إلى تجسيد حى لصناعة الوطنية المصرية. ومع كل ما مضى يبقى «الممر» فيلما يمثل نقلة نوعية فى تاريخ السينما المصرية، وقد صنف بالفعل أنه الأضخم فى تاريخ السينما المصرية من حيث الإنتاج ومشاهد الأكشن والجرافيك، لذا شهد حضورا من كل شخص توافرت له الاستطاعة الذهاب للسينما لمشاهدته، واصطحاب أسرته وأولاده كى يتعرفوا على بطولات رجال أشداء لم يستسلموا للهزيمة وخاضوا أقوى حرب استنزاف، ومن هنا يصبح بداية جديدة فى تصنيف مهم يحمل عددا ضخما من القصص المبهرة فى تاريخ البطولات المصرية على المستوى العسكرى والمدنى أيضا، وينبغى أن نبنى عليهم ونستثمر الناجح منه ونتعلم من إخفاقاتنا فيه، إذ تتخلل هذه النوعية من الأفلام بطبيعة الحال قيم اجتماعية وسياسية ووطنية حتى تسهم فى الترويج الواعى والمستنير لفكرة الوطنية، من خلال قصص البطولة كما سردها «الممر» باستفاضة جلبت المتعة للجمهور الذى تفاعل لأول مرة بالمشاهدة الحية من الثامنة صباحا حتى الثالثة والنصف من صباح اليوم التالي. لقد لمست على الطبيعة مدى شوق الجيل الحالى لنماذج وطنية بينما نحن غائبون عن تمجيد أبطالنا، ومن هنا تكمن الأهمية القصوى للالتفات من جديد للأفلام العسكرية التى هى مرشحة الآن أكثر من أى وقت مضى لأن تستخدم على نطاق واسع فى بناء الهوية الوطنية والوعى العام والدعاية السياسية، لكن ذلك مشروط بأن يستند كتاب السيناريو إلى بطولات حقيقية، كما هى مسجلة بحروف من نور فى سجلات شرف جيش مصرعلى مستوى البطولات والأحداث والشخصيات التى قدمت أروع الأمثلة فى التضحية والفداء من أجل الوطن، ومنها على سبيل المثال الشهداء: «إبراهيم الرفاعي، وإبراهيم عبد التواب، وسيد زكريا خليل» وغيرهم، من نماذج مشرفة فى سجلات الصاعقة والمدرعات والدفاع الجوى والبحرية والجوية، تماما كما هو ثابت فى كتب التاريخ. ومن وحى حرب الاستنزاف وملاحم أكتوبر هناك سجل هائل يحفل بالمعجرات البطولية، كما جسد بعض منها فيلم «الممر»، علاوة على سير شهداء اليوم من الضباط والجنود الشباب الذين سالت دماؤهم الطاهرة على رمال سيناء من خلال معارك التصدى للإرهاب الأسود.