أرسطو فى كتاب الشعر يجعل مهمة الفن هى تصوير العواطف، أما مهمة الفلسفة فهى البرهنة على صحة الأفكار. يتم تلقى النوع الأول عن طريق التذوق الجمالى فى حين أن النوع الثانى يخاطب التفكير العقلى. وهذا التباين يجعلنا نتصور أنه لا لقاء بين أسلوب السرد الذى يميز الأدب وأسلوب الحجاج الذى يميز الفلسفة، بل يجعل من الصعب أصلاً تصور وجود رواية فلسفية. من هنا يمكننا أن نقدر الدور الريادى الذى أداه أبو بكر بن طفيل حينما كتب روايته حى بن يقظان وهى الرواية التى حظيت باعتراف كل الثقافات بأنها هى التى فتحت طريق الرواية الفلسفية. الراوى فى هذه الرواية فيلسوف يتحدث عن طفل وُجد رضيعاً فى جزيرة تخلو من البشر وأرضعته ظبية حتى نما وكبر وارتبط بها عاطفياً فلما ماتت شعر لأول مرة بالحزن ولكنه تساءل كيف، وأمامه جسمها كاملاً، فقدت الحياة والحركة؟ ودفعه هذا التساؤل إلى تساؤلات أخرى ومقارنات بينه وبين الحيوانات التى يعيش وسطها، ثم تساؤل عن الصانع الأكبر الذى يكمن خلف هذا الوجود، كيف يعرفه؟ وكيف يكون على صلة به؟ وهكذا يصل حى بن يقظان إلى العلم والفلسفة والإيمان بالله، معتمداً على عقله وحده دون واسطة اللغة. وحين التقى بشرا عابرين بالجزيرة وصحبوه معهم ليرى مدينتهم، راعه ما يسود مجتمع البشر من تدين شكلى ونفاق وإسراف فى الرذائل والشهوات وقرر أن يعود ليعيش وحده فى الجزيرة. جمع ابن طفيل فى هذه الرواية بين الفلسفة اليونانية والتصوف الشرقى، وانتهى إلى إقناع القارئ بفكرته عن قدرة العقل الإنسانى وحده على الوصول إلى حقائق الكون دون عون خارجى. ترجمت هذه الرواية إلى اللاتينية ووجدت نجاحاً كبيراً فى أوروبا عند بداية العصر الحديث. واستخدم فلاسفة عصر التنوير فن الرواية فى التعبير عن أفكارهم الفلسفية، فكتب فولتير رواية كانديد والراوى فيها هو مدرس الفلسفة الريفى الساذج بانجلوس وكلها تدور حول نقد نظرية الفيلسوف الألمانى ليبنتز حول تفسيره لوجود الشر فى العالم مع إن الله خير محض، فيرى أن الحكمة الإلهية رغم كل شيء، اختارت لنا أفضل العوالم الممكنة. وتمتلئ الرواية بالحروب الشنيعة والكوارث المميتة مثل زلزال برشلونة الذى حدث فى القرن الثامن عشر. وفى كل مرة يحاول الشاب أن يقنع نفسه بأننا رغم ذلك نعيش فى أفضل العوالم الممكنة. انتقد فلاسفة كثيرون هذا التفاؤل المفرط الذى تنضوى عليه فلسفة ليبنتز ولكن رواية فولتير الساخرة قدمت النقد الأكثر شعبية والأكثر انتشاراً. وكتب مونتسكيو روايته رسائل فارسية وتعتمد على أسلوب المراسلات لنقد مظاهر الاستبداد الشرقى وكذلك نقد صور عبثية من الحياة الاجتماعية والسياسية فى فرنسا. وكتب ديدرو رواية جاك القدرى وسيده وهى رواية تحكى قصة رحلة يقوم بها سيد قليل الكلام وخادمه المتفلسف الثرثار الذى يستغل كل حادثة أو حكاية ليؤكد أن كل شىء مكتوب على الجبين. استطاعت هذه الروايات إذن أن تجمع بين الدعوة لأفكار فلسفية وبين التذوق الجمالى للحكاية، وفى هذا براعة، فهى ليست مجرد حيلة لشرح فكرة أو تبسيط معتقد، فهذا يفقدها الصفة الأدبية، لكنها أصبحت روايات لها مكانها المرموق فى تاريخ الأدب رغم همومها الفلسفية. هناك بالطبع أدباء ليسوا فلاسفة ولكن تتضمن أعمالهم تأملات فلسفية عميقة على نحو ما نجد عند جوته فى فاوست وبلزاك فى الكوميديا الإنسانية وبروست فى البحث عن الزمن المفقود وجبران فى النبى ونجيب محفوظ فى أولاد حارتنا. ولكن هؤلاء جميعهم أدباء ليست لهم معتقدات فلسفية قاموا ببلورتها فى كتب مستقلة كما هو حال فلاسفة التنوير. وأخيرا اكتسبت الرواية الفلسفية ازدهارا كبيراً مع الفلسفة الوجودية فى فرنسا، فيحكى جان بول سارتر فى روايته الغثيان عن روكنتان الذى عاد إلى بلدته بعد فترة قضاها فى فيتنام ليجد نفسه قد فقد الشعور بأى حميمية مع الأشياء التى كان قد اعتاد عليها، وصار كل ماهو مألوف غريبا، حتى صديقته، بل حتى هو نفسه، فكان يدهمه هذا الإحساس المتكرر بالغثيان والذى أراد أن يهرب منه بأن يكتب رواية. وكتب ألبير كامى رواية الغريب كمقدمة لسلسلة من الأعمال تحت عنوان العبث. وبعد هذين الفيلسوفين الأديبين الكبيرين لا نستطيع أن نشير إلى فلاسفة يستخدمون الرواية للتعبير عن أفكارهم الفلسفية. ولكن هذا لا يعنى فقراً بل على العكس يدل على ازدهار للرواية الفلسفية. فقد انتشرت فى العقود الأخيرة أعمال أدبية كثيرة يصفها الكاتب أو الناشر بأنها رواية فلسفية. وتحظى هذه الروايات بإقبال جماهيرى معتبر ربما يعكس تطلع الإنسان المعاصر إلى نزعة روحانية جديدة تبتعد عن التعصب وتجمع بين التذوق الجمالى والتأمل العقلى فى انفعالات النفس. لمزيد من مقالات د. أنور مغيث