سعر الجنيه الاسترليني بالبنوك أمام الجنيه اليوم الجمعة 3-5-2024    الأسهم الأوروبية ترتفع بدعم من الأداء القوي للقطاع المصرفي    شوبير يوجه رسائل للنادي الأهلي قبل مباراة الترجي التونسي    الأرصاد: رياح مثيرة للرمال على هذه المناطق واضطراب الملاحة في البحر المتوسط    حبس 4 أشخاص بتهمة النصب والاستيلاء على أموال مواطنين بالقليوبية    اسلام كمال: الصحافة الورقية لها مصداقية أكثر من السوشيال ميديا    حكم لبس النقاب للمرأة المحرمة.. دار الإفتاء تجيب    تقارير أمريكية تتهم دولة عربية بدعم انتفاضة الجامعات، وسفارتها في واشنطن تنفي    حزب الله يستهدف زبدين ورويسات العلم وشتولا بالأسلحة الصاروخية    مستوطنون يهاجمون بلدة جنوب نابلس والقوات الإسرائيلية تشن حملة مداهمات واعتقالات    اعتصام عشرات الطلاب أمام أكبر جامعة في المكسيك ضد العدوان الإسرائيلي على غزة    حرب غزة.. صحيفة أمريكية: السنوار انتصر حتى لو لم يخرج منها حيا    وزير الدفاع الأمريكي: القوات الروسية لا تستطيع الوصول لقواتنا في النيجر    البابا تواضروس يترأس صلوات «الجمعة العظيمة» من الكاتدرائية    مواعيد مباريات الجمعة 3 مايو 2024 – مباراتان في الدوري.. بداية الجولة بإنجلترا ومحترفان مصريان    خالد الغندور عن أزمة حسام حسن مع صلاح: مفيش لعيب فوق النقد    الكومي: مذكرة لجنة الانضباط تحسم أزمة الشحات والشيبي    تشكيل الهلال المتوقع أمام التعاون| ميتروفيتش يقود الهجوم    تشاهدون اليوم.. زد يستضيف المقاولون العرب وخيتافي يواجه أتلتيك بيلباو    إشادة حزبية وبرلمانية بتأسيس اتحاد القبائل العربية.. سياسيون : خطوة لتوحيدهم خلف الرئيس.. وسيساهم في تعزيز الأمن والاستقرار في سيناء    5 أهداف لصندوق رعاية المسنين وفقا للقانون، تعرف عليها    «التعليم»: امتحانات الثانوية العامة ستكون واضحة.. وتكشف مستويات الطلبة    خريطة التحويلات المرورية بعد غلق شارع يوسف عباس بمدينة نصر    ضبط 300 كجم دقيق مجهولة المصدر في جنوب الأقصر    ننشر أسعار الدواجن اليوم الجمعة 3 مايو 2024    لأول مرة.. فريدة سيف النصر تغني على الهواء    معرض أبو ظبي يناقش "إسهام الأصوات النسائية المصرية في الرواية العربية"    «شقو» يتراجع للمركز الثاني في قائمة الإيرادات.. بطولة عمرو يوسف    استقرار أسعار الحديد والأسمنت اليوم الجمعة.. عز ب 24155 جنيهًا    كيفية إتمام الطواف لمن شك في عدد المرات.. اعرف التصرف الشرعي    حكم وصف الدواء للناس من غير الأطباء.. دار الإفتاء تحذر    الناس لا تجتمع على أحد.. أول تعليق من حسام موافي بعد واقعة تقبيل يد محمد أبو العينين    موضوع خطبة الجمعة اليوم وأسماء المساجد المقرر افتتاحها.. اعرف التفاصيل    «تحويشة عمري».. زوج عروس كفر الشيخ ضحية انقلاب سيارة الزفاف في ترعة ينعيها بكلمات مؤثرة (صورة)    «سباق الحمير.. عادة سنوية لشباب قرية بالفيوم احتفالا ب«مولد دندوت    وزارة التضامن وصندوق مكافحة الإدمان يكرمان مسلسلات بابا جه وكامل العدد    تعرف على مواقيت الصلاة اليوم الجمعة3-5-2024    مواعيد صرف معاش تكافل وكرامة بالزيادة الجديدة لشهر مايو 2024    دراسة أمريكية: بعض المواد الكيميائية يمكن أن تؤدي لزيادة انتشار البدانة    دراسة: الأرز والدقيق يحتويان مستويات عالية من السموم الضارة إذا ساء تخزينهما    أهداف برشلونة في الميركاتو الصيفي    رسالة جديدة من هاني الناظر إلى ابنه في المنام.. ما هي؟    "نلون البيض ونسمع الدنيا ربيع".. أبرز مظاهر احتفال شم النسيم 2024 في مصر    حكم البيع والهبة في مرض الموت؟.. الإفتاء تُجيب    الخضري: البنك الأهلي لم يتعرض للظلم أمام الزمالك.. وإمام عاشور صنع الفارق مع الأهلي    تعيين رئيس جديد لشعبة الاستخبارات العسكرية في إسرائيل    بعد انفراد "فيتو"، التراجع عن قرار وقف صرف السكر الحر على البطاقات التموينية، والتموين تكشف السبب    مصطفى كامل ينشر صورا لعقد قران ابنته فرح: اللهم أنعم عليهما بالذرية الصالحة    نكشف ماذا حدث فى جريمة طفل شبرا الخيمة؟.. لماذا تدخل الإنتربول؟    انقطاع المياه بمدينة طما في سوهاج للقيام بأعمال الصيانة | اليوم    معهد التغذية ينصح بوضع الرنجة والأسماك المملحة في الفريزر قبل الأكل، ما السبب؟    "عيدنا عيدكم".. مبادرة شبابية لتوزيع اللحوم مجاناً على الأقباط بأسيوط    محمد مختار يكتب عن البرادعي .. حامل الحقيبة الذي خدعنا وخدعهم وخدع نفسه !    خبيرة أسرية: ارتداء المرأة للملابس الفضفاضة لا يحميها من التحرش    قفزة كبيرة في الاستثمارات الكويتية بمصر.. 15 مليار دولار تعكس قوة العلاقات الثنائية    سفير الكويت: مصر شهدت قفزة كبيرة في الإصلاحات والقوانين الاقتصادية والبنية التحتية    تعرف على طقس «غسل الأرجل» بالهند    البطريرك يوسف العبسي بطريرك أنطاكية وسائر المشرق للروم الملكيين الكاثوليك يحتفل برتبة غسل الأرجل    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



"حي بن يقظان" لابن طفيل.. الفلسفة في رداء الأدب
نشر في صوت البلد يوم 26 - 01 - 2016

لعل أهم ما يميز قصة "حي بن يقظان" التفرد في اعتماد الفكرة، والابتكار في البناء الفني، والبراعة في المعالجة، والفعالية في الإيحاء. لقد عرض ابن طفيل في هذه القصة سيرة المعرفة الإنسانية، عبر سيرة "حي بن يقظان"، وكيف تمكن بفطرته الفائقة من الارتقاء بالمعرفة من الحواس والتجربة إلى المعرفة العقلية القائمة على نتائج ومعطيات ما جربه وخبره في عالم الكون والفساد حتى خلص إلى الحكمة الشرقية
ليس هناك من القراء والدارسين العرب إلا ويعرف جيدا رواية ابن طفيل «حي بن يقظان».. إنها واحدة من الروايات التي تثير فخر المغالين في النزعة القومية، إذ كثيرا ما يذكرون أقوال باحثين رأوا فيه الأصل الذي استعاره دانيال ديفو ليكتب واحدة من أشهر روايات الأدب الغربي "روبنسون كروزو".
ولكن ماذا لو كان النص العربي أعمق كثيرا من مجرد رواية اقتبسها الغرب عنا؟ ماذا لو كان نصا فلسفيا حقيقيا يصل بين زمن ابن طفيل الفكري أو عقلانية اليونان الإنساني.
وإذا كان عدد الذين قرأوا رواية دانيال ديفو "روبنسون كروزو" بشتى اللغات في العالم يزيد عشرات الأضعاف عن الذين قرأوا "حي بن يقظان" لابن طفيل، فإن جل الباحثين والمؤرخين يرون أن نص ابن طفيل، إنما هو الأصل المباشر ل «روبنسون كروزو".
إنها أسطورة عربية تروي قصة الطفل "حي" الفتى الذي ولد بلا أبوين ونشأ كنبتة برية قبل أن تتلقفه أمه الغزالة التي فجعت بوليدها فتربيه ثم تموت الغزالة بين يديه وهو يحاول إنقاذها.. ليبدأ بعدها التفكير منطلقا من حزنه على فقدان أمه الغزالة وينتقل بفطرته من سؤال إلى سؤال في تتحليل عقلي معقد، فالكون يمنحنا من الأسئلة أضعاف ما يمنحنا من الأجوبة، وابن طفيل لا يقف عند الأسئلة كثيرا، إنه يتجه مباشرة نحو الأجوبة الإيمانية حتى يصل للخالق عز وجل.. إنه يضع الفكرة أمام عينيك على درجة عالية من الوضوح والصراحة ثم يبني عليها أختها.. حتى يقيم صرحه الفلسفي وأنت لا تملك إما قبولها أو رفضها..
فتى الأسطورة هذا حي بن يقظان "والملاحظ أن ابن طفيل اختار لروايته اسما يدل على عمق معرفي لديه (حي بمعنى عائش أو على قيد الحياة يقظان بمعنى منتبه) ولهذا بعد فلسفي لديه حيث أتصور أنه ربط بين ضرورة أن يكون الإنسان مستيقظا متنبها قادرا على الكشف عن الحقيقة واكتساب المعارف في إشارة للحياة واليقظة العقلية والحسية والجسدية والأسطورة بالرموز ترمز للإنسان وعلاقته بالدين والكون.. إنها خلاصة الفلسفة والتصوف الإسلامي".
يبين ابن طفيل أن ما ألهمه لكتابة رواية "حي بن يقظان" سؤال أثاره أحد المهتمين بقضايا الخلق والنشوء والارتقاء الذي طلب منه وضع إجابة عن سؤال حول أصل المعرفة الإنسانية.. ويصف ابن طفيل الحالة الوجودية التي اعترته وهو يتأمل في هذا السؤال الكوني بقوله: "وانتهى بي هذا السؤال إلى مبلغ من الغربة بحيث لا يصفه إنسان ولا يقوم له بيان غير أن تلك الحال لما لها من البهجة والسرور واللذة والحبور، لا يستطيع من وصل إليها وانتهى إلى حد من حدودها أن يكتم أمرها أو يخفي سرها، بل يعتريه من الطرب والنشاط والمرح والانبساط ما يحمله على البوح بها مجملة دون تفصيل، وإن كان ممن لم تحذقه العلوم قال فيها بغير تحصيل".
‏خلاصة القول أن ابن طفيل، وهو المتكلم الكبير يريد أن يبلغ رسالة مفادها أن المسؤولية الدينية تقتضي اكتشاف النفس والعالم عبر التأمل والتفكير، وطرح الأسئلة الفلسفية الكبرى التي تتعلق بالمعقولات وبأصل الوجود، وصولا إلى اكتشاف العلاقة بين العلة والمعلول والفاعل والمفعول، بين الوجود وواجب الوجود، وأن الكون واحد في الحقيقة وأن هذه الوحدة ناجمة عن وحدانية الخالق ووحدة التكوين..
ف"حي" هذا الإنسان البدائي الذي تربى في جزيرة معزولة بعيدا عن البشر وتدرج في مراحل العمر المختلفة وبنمو عقله التدريجي.. يبدأ يدرك أنه مختلف تماما عن كل ما يحيط به.. ويبدأ في اكتشاف نقاط ضعفه وقوته واختلافه عن باقي الكائنات. فهو عار على خلاف الحيوانات حوله والتي يغطي جسدها الجلود والشعر والريش..، ما يدفعه لاتخاذ ملبس يواري سوءته، ثم يدرك مدى ضعفه البدني وأنه أقل سرعة من غيره، ثم يدرك أنه يتعلم فعل الأشياء خلاف غيره من الكائنات التي تولد وتدرك ما تفعل، وأدرك أنه يفكر وبهذا فهو يمتاز عن غيره..
فعند موت الغزالة التي ربته يبحث عن السبب لينتهي به المطاف أنه لا بد من وجود شيء خفي داخلها "الروح" وبخروجها فارقت الحياة..
وبمراقبته لكل ما حوله واستخدامه لعقله في تفسير كل شيء كان دائما ما يجد عائقا تنتهي إليه الأشياء فأدرك وجود مسبب لكل هذا وهو الذي يدير الكون كله.. فلجأ إلى عبادة الروح والتصوف حتى وصل إلى درجات التنوير عند الصوفية.
المذهب الذي توصل إليه ابن طفيل في كتابه "حي بن يقظان" هو المذهب العقلي، لأنه اعتقد أن في وسع الإنسان أن يرتقي بنفسه من المحسوس إلى المعقول، ويصل بقواه الطبيعية إلى معرفة الله. وهو في ذلك كله لا يعرف الكلام. فهناك فكر مستقل عن اللغة، واستعداد فطري يميز الناس بعضهم عن بعض، لأنه ليس في وسع كل رجل أن ينتهي إلى معرفة الخالق وحقيقة الكون عن طريق الفطرة والاكتساب الشخصي من غير حاجة إلى معلم..
لقد اوضح ابن طفيل في هذه الرواية المراتب التي يتدرج بها العقل في سلم المعرفة من المحسوسات إلى الجزئيات إلى الأفكار الكلية.. أن العقل الإنساني قادر من غير تعليم ولا إرشاد على إدراك وجود الله بآثاره في الأرض وفي مخلوقاته وإقامة الأدلة على ذلك.. وأن هذا العقل قد يعتريه العجز في مسالك الأدلة والعدم المطلق واللانهاية والزمان والقدم وهي المسائل التي حيرت الفلاسفة ووجدوا أنفسهم عاجزين أمامها..
فنحن نلمس بوضوح شيئا من الغرض الذي أراده ابن طفيل عندما شرع في التأليف حين يقول: "ما ظهر في زماننا من آراء مفسدة نبغت بها متفلسفة العصر، وصرحت بها حتى انتشرت في البلدان وعم ضررها، وخشينا على الضعفاء الذين اطرحوا تقليد الأنبياء صلوات الله عليهم وأرادوا تقليد السفهاء والأغبياء أن يظنوا أن تلك الآراء هي المظنون بها على غير أهلها ، فيزيد حبهم فيها وولعهم بها. فرأينا أن نلمح إليهم بطرف من سر الأسرار لنجتذبهم إلى جانب التحقيق، ثم نصدعهم عن ذلك الطريق".
هؤلاء هم من سعى ابن طفيل إلى المجاهدة في تقويمهم وإصلاح أمرهم، حينما اختار "حي بن يقظان" مغادرة الجزيرة وحياة العزلة ليعود مع رفيقة "أبسال" إلى الأرض المعمورة ومجتمع الناس، وهو ينظر إلى ما آلت إليه أحوالهم من الضلال، وقد ظهر إشفاقه عليهم ورغبته في الرفق بهم طمعا في هدايتهم إلى طريق الحق علهم يظفرون بالنجاة على يديه. فتصفح طبقاتهم، وتبين له أن كل حزب بما لديهم فرحون. وقد اتخذوا إلههم هواهم ومعبودهم شهواتهم وتهالكوا في جمع حطام الدنيا. ألهاهم التكاثر حتى زاروا المقابر. لا تنجح فيهم الموعظة ولا تعمل فيهم الكلمة الحسنة، ولا يزدادون بالجدل إلا إصرارا. وأما الحكمة فلا سبيل لهم إليها ولا حظَّ لهم منها. وقد غمرتهم الجهالة وران على قلوبهم ما كانوا يكسبون. {خَتَمَ اللَّهُ عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ وَعَلَىٰ سَمْعِهِمْ ۖ وَعَلَىٰ أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ ۖ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} (البقرة:7).
إنها رواية منطقية، فلسفية، يصل فيها "حي" إلى عدة استنتاجات بطريقة علمية مدهشة كان يسوقها ابن طفيل، أجوبة عبقرية لأسئلةِ عبقري..
وبعد.. لا أدري أي عبقرية تلك التي قادت هذا الرجل منذ ما يقارب 1000 عام ليكتب قصة بهذه الروعة، ليخلد بذلك واحدة من أعظم الآثار الفلسفية على مدار التاريخ البشري "حي بن يقظان"..
مما أعجبني وزاد من دهشتي بنفس الوقت طريقة التفكير البدائية التي مارسها والتي قادت "حي" لأهم الاستنتاجات مثل آلية الحركة التي استنتجها حي والتي تتضمن أن حركة الأشياء في الأصل حركة عمودية ما لم تجد عائقا فإن وجدت اتجهت بحركة أفقية..
"حي بن يقظان" لؤلؤة من أعذب لآلئ الثرات العربي. تثق في سلامة الفطرة وحرية الفكر أو الرأى والكلمة.. تستحق بجدارة أن يجهد المرء نفسه لتأمل فصولها، والاستمتاع بقراءتها.
حي بن يقظان تجربة فلسفية مدهشة!
*مدون فلسطيني.
لعل أهم ما يميز قصة "حي بن يقظان" التفرد في اعتماد الفكرة، والابتكار في البناء الفني، والبراعة في المعالجة، والفعالية في الإيحاء. لقد عرض ابن طفيل في هذه القصة سيرة المعرفة الإنسانية، عبر سيرة "حي بن يقظان"، وكيف تمكن بفطرته الفائقة من الارتقاء بالمعرفة من الحواس والتجربة إلى المعرفة العقلية القائمة على نتائج ومعطيات ما جربه وخبره في عالم الكون والفساد حتى خلص إلى الحكمة الشرقية
ليس هناك من القراء والدارسين العرب إلا ويعرف جيدا رواية ابن طفيل «حي بن يقظان».. إنها واحدة من الروايات التي تثير فخر المغالين في النزعة القومية، إذ كثيرا ما يذكرون أقوال باحثين رأوا فيه الأصل الذي استعاره دانيال ديفو ليكتب واحدة من أشهر روايات الأدب الغربي "روبنسون كروزو".
ولكن ماذا لو كان النص العربي أعمق كثيرا من مجرد رواية اقتبسها الغرب عنا؟ ماذا لو كان نصا فلسفيا حقيقيا يصل بين زمن ابن طفيل الفكري أو عقلانية اليونان الإنساني.
وإذا كان عدد الذين قرأوا رواية دانيال ديفو "روبنسون كروزو" بشتى اللغات في العالم يزيد عشرات الأضعاف عن الذين قرأوا "حي بن يقظان" لابن طفيل، فإن جل الباحثين والمؤرخين يرون أن نص ابن طفيل، إنما هو الأصل المباشر ل «روبنسون كروزو".
إنها أسطورة عربية تروي قصة الطفل "حي" الفتى الذي ولد بلا أبوين ونشأ كنبتة برية قبل أن تتلقفه أمه الغزالة التي فجعت بوليدها فتربيه ثم تموت الغزالة بين يديه وهو يحاول إنقاذها.. ليبدأ بعدها التفكير منطلقا من حزنه على فقدان أمه الغزالة وينتقل بفطرته من سؤال إلى سؤال في تتحليل عقلي معقد، فالكون يمنحنا من الأسئلة أضعاف ما يمنحنا من الأجوبة، وابن طفيل لا يقف عند الأسئلة كثيرا، إنه يتجه مباشرة نحو الأجوبة الإيمانية حتى يصل للخالق عز وجل.. إنه يضع الفكرة أمام عينيك على درجة عالية من الوضوح والصراحة ثم يبني عليها أختها.. حتى يقيم صرحه الفلسفي وأنت لا تملك إما قبولها أو رفضها..
فتى الأسطورة هذا حي بن يقظان "والملاحظ أن ابن طفيل اختار لروايته اسما يدل على عمق معرفي لديه (حي بمعنى عائش أو على قيد الحياة يقظان بمعنى منتبه) ولهذا بعد فلسفي لديه حيث أتصور أنه ربط بين ضرورة أن يكون الإنسان مستيقظا متنبها قادرا على الكشف عن الحقيقة واكتساب المعارف في إشارة للحياة واليقظة العقلية والحسية والجسدية والأسطورة بالرموز ترمز للإنسان وعلاقته بالدين والكون.. إنها خلاصة الفلسفة والتصوف الإسلامي".
يبين ابن طفيل أن ما ألهمه لكتابة رواية "حي بن يقظان" سؤال أثاره أحد المهتمين بقضايا الخلق والنشوء والارتقاء الذي طلب منه وضع إجابة عن سؤال حول أصل المعرفة الإنسانية.. ويصف ابن طفيل الحالة الوجودية التي اعترته وهو يتأمل في هذا السؤال الكوني بقوله: "وانتهى بي هذا السؤال إلى مبلغ من الغربة بحيث لا يصفه إنسان ولا يقوم له بيان غير أن تلك الحال لما لها من البهجة والسرور واللذة والحبور، لا يستطيع من وصل إليها وانتهى إلى حد من حدودها أن يكتم أمرها أو يخفي سرها، بل يعتريه من الطرب والنشاط والمرح والانبساط ما يحمله على البوح بها مجملة دون تفصيل، وإن كان ممن لم تحذقه العلوم قال فيها بغير تحصيل".
‏خلاصة القول أن ابن طفيل، وهو المتكلم الكبير يريد أن يبلغ رسالة مفادها أن المسؤولية الدينية تقتضي اكتشاف النفس والعالم عبر التأمل والتفكير، وطرح الأسئلة الفلسفية الكبرى التي تتعلق بالمعقولات وبأصل الوجود، وصولا إلى اكتشاف العلاقة بين العلة والمعلول والفاعل والمفعول، بين الوجود وواجب الوجود، وأن الكون واحد في الحقيقة وأن هذه الوحدة ناجمة عن وحدانية الخالق ووحدة التكوين..
ف"حي" هذا الإنسان البدائي الذي تربى في جزيرة معزولة بعيدا عن البشر وتدرج في مراحل العمر المختلفة وبنمو عقله التدريجي.. يبدأ يدرك أنه مختلف تماما عن كل ما يحيط به.. ويبدأ في اكتشاف نقاط ضعفه وقوته واختلافه عن باقي الكائنات. فهو عار على خلاف الحيوانات حوله والتي يغطي جسدها الجلود والشعر والريش..، ما يدفعه لاتخاذ ملبس يواري سوءته، ثم يدرك مدى ضعفه البدني وأنه أقل سرعة من غيره، ثم يدرك أنه يتعلم فعل الأشياء خلاف غيره من الكائنات التي تولد وتدرك ما تفعل، وأدرك أنه يفكر وبهذا فهو يمتاز عن غيره..
فعند موت الغزالة التي ربته يبحث عن السبب لينتهي به المطاف أنه لا بد من وجود شيء خفي داخلها "الروح" وبخروجها فارقت الحياة..
وبمراقبته لكل ما حوله واستخدامه لعقله في تفسير كل شيء كان دائما ما يجد عائقا تنتهي إليه الأشياء فأدرك وجود مسبب لكل هذا وهو الذي يدير الكون كله.. فلجأ إلى عبادة الروح والتصوف حتى وصل إلى درجات التنوير عند الصوفية.
المذهب الذي توصل إليه ابن طفيل في كتابه "حي بن يقظان" هو المذهب العقلي، لأنه اعتقد أن في وسع الإنسان أن يرتقي بنفسه من المحسوس إلى المعقول، ويصل بقواه الطبيعية إلى معرفة الله. وهو في ذلك كله لا يعرف الكلام. فهناك فكر مستقل عن اللغة، واستعداد فطري يميز الناس بعضهم عن بعض، لأنه ليس في وسع كل رجل أن ينتهي إلى معرفة الخالق وحقيقة الكون عن طريق الفطرة والاكتساب الشخصي من غير حاجة إلى معلم..
لقد اوضح ابن طفيل في هذه الرواية المراتب التي يتدرج بها العقل في سلم المعرفة من المحسوسات إلى الجزئيات إلى الأفكار الكلية.. أن العقل الإنساني قادر من غير تعليم ولا إرشاد على إدراك وجود الله بآثاره في الأرض وفي مخلوقاته وإقامة الأدلة على ذلك.. وأن هذا العقل قد يعتريه العجز في مسالك الأدلة والعدم المطلق واللانهاية والزمان والقدم وهي المسائل التي حيرت الفلاسفة ووجدوا أنفسهم عاجزين أمامها..
فنحن نلمس بوضوح شيئا من الغرض الذي أراده ابن طفيل عندما شرع في التأليف حين يقول: "ما ظهر في زماننا من آراء مفسدة نبغت بها متفلسفة العصر، وصرحت بها حتى انتشرت في البلدان وعم ضررها، وخشينا على الضعفاء الذين اطرحوا تقليد الأنبياء صلوات الله عليهم وأرادوا تقليد السفهاء والأغبياء أن يظنوا أن تلك الآراء هي المظنون بها على غير أهلها ، فيزيد حبهم فيها وولعهم بها. فرأينا أن نلمح إليهم بطرف من سر الأسرار لنجتذبهم إلى جانب التحقيق، ثم نصدعهم عن ذلك الطريق".
هؤلاء هم من سعى ابن طفيل إلى المجاهدة في تقويمهم وإصلاح أمرهم، حينما اختار "حي بن يقظان" مغادرة الجزيرة وحياة العزلة ليعود مع رفيقة "أبسال" إلى الأرض المعمورة ومجتمع الناس، وهو ينظر إلى ما آلت إليه أحوالهم من الضلال، وقد ظهر إشفاقه عليهم ورغبته في الرفق بهم طمعا في هدايتهم إلى طريق الحق علهم يظفرون بالنجاة على يديه. فتصفح طبقاتهم، وتبين له أن كل حزب بما لديهم فرحون. وقد اتخذوا إلههم هواهم ومعبودهم شهواتهم وتهالكوا في جمع حطام الدنيا. ألهاهم التكاثر حتى زاروا المقابر. لا تنجح فيهم الموعظة ولا تعمل فيهم الكلمة الحسنة، ولا يزدادون بالجدل إلا إصرارا. وأما الحكمة فلا سبيل لهم إليها ولا حظَّ لهم منها. وقد غمرتهم الجهالة وران على قلوبهم ما كانوا يكسبون. {خَتَمَ اللَّهُ عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ وَعَلَىٰ سَمْعِهِمْ ۖ وَعَلَىٰ أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ ۖ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} (البقرة:7).
إنها رواية منطقية، فلسفية، يصل فيها "حي" إلى عدة استنتاجات بطريقة علمية مدهشة كان يسوقها ابن طفيل، أجوبة عبقرية لأسئلةِ عبقري..
وبعد.. لا أدري أي عبقرية تلك التي قادت هذا الرجل منذ ما يقارب 1000 عام ليكتب قصة بهذه الروعة، ليخلد بذلك واحدة من أعظم الآثار الفلسفية على مدار التاريخ البشري "حي بن يقظان"..
مما أعجبني وزاد من دهشتي بنفس الوقت طريقة التفكير البدائية التي مارسها والتي قادت "حي" لأهم الاستنتاجات مثل آلية الحركة التي استنتجها حي والتي تتضمن أن حركة الأشياء في الأصل حركة عمودية ما لم تجد عائقا فإن وجدت اتجهت بحركة أفقية..
"حي بن يقظان" لؤلؤة من أعذب لآلئ الثرات العربي. تثق في سلامة الفطرة وحرية الفكر أو الرأى والكلمة.. تستحق بجدارة أن يجهد المرء نفسه لتأمل فصولها، والاستمتاع بقراءتها.
حي بن يقظان تجربة فلسفية مدهشة!
*مدون فلسطيني.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.