تعليم القاهرة ترفع درجة الاستعداد للعام الدراسي الجديد    شعبة المستوردين: مبادرة تخفيض الأسعار تخفف الأعباء عن كاهل المواطنين    الأونروا: يجب تغيير سياسة المنع الكامل لادخال المساعدات الإنسانية إلى غزة    الخارجية الفلسطينية: استباحة الاحتلال والمستوطنين للضفة الغربية انتهاك صارخ وتكريس لمخططات التهويد والضم    الشوط الأول| بايرن ميونخ يضرب لايبزج في افتتاح الدوري الألماني    تشكيل تشيلسي أمام وست هام في الدوري الإنجليزي    إبراهيم مدكور يكتب: الرئيس يصدق.. والرياضة تنطلق    ضبط وكر لتجارة المخدرات بكلابشة والقبض على عنصرين شديدي الخطورة بأسوان    الداخلية تكشف حقيقة تعرض سيدة للضرب وتحطيم شقتها بالدقهلية    توافد جمهور «ويجز» في العلمين.. قواعد وإرشادات الحفل    أهلها يحجروا عليها| جمهور السوشيال ميديا يرد على أنباء عودة «حسام وشيرين»    ترامب: الوضع الراهن في غزة يجب أن ينتهي    عميد تجارة القاهرة الأسبق: الجامعات الحكومية ما زالت الأفضل    ليس بطلًا.. بل «مجرم حرب»    كندا تتراجع عن الرسوم الجمركية العقابية على السلع الأمريكية    التعادل السلبي يحسم مباراة السكة الحديد مع الترسانة في دوري المحترفين    خسارة سيدات الطائرة أمام صاحب الأرض ببطولة العالم بتايلاند    كرة طائرة - منتخب مصر يخسر أمام تايلاند في افتتاح بطولة العالم سيدات    ثورة جديدة بتطوير المناهج «2»    موعد إجازة المولد النبوي 2025 للقطاعين الحكومي والخاص (رسميًا)    رواية مختلقة.. وزارة الداخلية تكشف حقيقة تعدي شخص على جارته    موقف بطولي على قضبان السكة الحديد.. إنقاذ شاب من الموت تحت عجلات القطار بمزلقان الغمراوي ببني سويف    الإيجار القديم والبكالوريا والأحزاب.. وزير الشؤون النيابية يوضح مواقف الحكومة    إسلام عفيفى يكتب: الصفقات المرفوضة وتحالفات الضرورة    مدرب توتنهام: لا مكان لمن لا يريد ارتداء شعارنا    الوادي الجديد تطلق منصة إلكترونية للترويج السياحي والحرف اليدوية    صراع الخير والشر في عرض مدينة الأحلام بالمهرجان الختامي لشرائح ونوادي مسرح الطفل    هل يجوز شرعًا معاقبة تارك صلاة الجمعة بالسجن؟.. أحمد كريمة يجيب    هل إفشاء السر بدون قصد خيانة أمانة وما حكمه؟ أمين الفتوى يجيب    خدعوك فقالوا: «الرزق مال»    الماتشا تخفض الكوليسترول الضار - حقيقة أم خرافة؟    لغة لا تساوى وزنها علفًا    بعد مداهمة وكر التسول.. حملات مكثفة لغلق فتحات الكباري بالجيزة| صور    «التنظيم والإدارة» يعلن توقف الامتحانات بمركز تقييم القدرات.. لهذا السبب    شنوان.. القرية التي جعلت من القلقاس جواز سفر إلى العالم| صور    محمود فوزي: الحكومة جادة في تطبيق قانون الإيجار القديم وحماية الفئات الضعيفة    خطيب الجامع الأزهر: أعداء الأمة يحاولون تزييف التاريخ ونشر اليأس    المجاعة تهدد نصف مليون في غزة.. كيف يضغط المجتمع الدولي على إسرائيل؟    نجاح عملية دقيقة لاستئصال ورم بالمخ وقاع الجمجمة بمستشفى العامرية العام بالإسكندرية    عميد طب القصر العيني يتابع جاهزية البنية التحتية استعدادًا لانطلاق العام الدراسي    لمرضى السكري - اعتاد على تناول زبدة الفول السوداني في هذا التوقيت    محافظ مطروح ورئيس جامعة الأزهر يفتتحان كلية البنات الأزهرية بالمحافظة    "درويش" يحقق قفزة كبيرة ويتخطى 20 مليون جنيه في 9 أيام    الكشف الطبى على 276 مريضا من أهالى قرى البنجر فى قافلة مجانية بالإسكندرية    المقاومة العراقية تطالب بالانسحاب الحقيقي للقوات الأمريكية من العراق    إمام مسجد بكفر الشيخ: لابد أن نقتدى بالرسول بلغة الحوار والتفكير المنضبط.. فيديو    بنسبة تخفيض تصل 30%.. افتتاح سوق اليوم الواحد فى مدينة دهب    ضبط ورشة بها 196 قطعة سلاح في الشرابية    المرور يضبط 120 ألف مخالفة و162 متعاطيًا للمخدرات خلال 24 ساعة    الاقتصاد المصرى يتعافى    مصلحة الضرائب تنفي وجود خلاف بين الحكومة وشركات البترول حول ضريبة القيمة المضافة    وزارة التخطيط ووكالة جايكا تطلقان تقريرا مشتركا حول 70 عاما من الصداقة والثقة المصرية اليابانية    رابطة الصحفيين أبناء الدقهلية تؤكد انحيازها التام لحرية الإعلام    وزير الثقافة يستقبل وفد الموهوبين ببرنامج «اكتشاف الأبطال» من قرى «حياة كريمة»    محافظ أسيوط يسلم جهاز عروسة لابنة إحدى المستفيدات من مشروعات تمكين المرأة    سعر طن الحديد الاستثماري وعز والأسمنت بسوق مواد البناء اليوم الجمعة 22 أغسطس 2025    أزمة وتعدى.. صابر الرباعى يوجه رسالة لأنغام عبر تليفزيون اليوم السابع    نجم الأهلي السابق: أفضل تواجد عبد الله السعيد على مقاعد البدلاء ومشاركته في آخر نصف ساعة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



"حي بن يقظان" لابن طفيل.. الفلسفة في رداء الأدب
نشر في صوت البلد يوم 26 - 01 - 2016

لعل أهم ما يميز قصة "حي بن يقظان" التفرد في اعتماد الفكرة، والابتكار في البناء الفني، والبراعة في المعالجة، والفعالية في الإيحاء. لقد عرض ابن طفيل في هذه القصة سيرة المعرفة الإنسانية، عبر سيرة "حي بن يقظان"، وكيف تمكن بفطرته الفائقة من الارتقاء بالمعرفة من الحواس والتجربة إلى المعرفة العقلية القائمة على نتائج ومعطيات ما جربه وخبره في عالم الكون والفساد حتى خلص إلى الحكمة الشرقية
ليس هناك من القراء والدارسين العرب إلا ويعرف جيدا رواية ابن طفيل «حي بن يقظان».. إنها واحدة من الروايات التي تثير فخر المغالين في النزعة القومية، إذ كثيرا ما يذكرون أقوال باحثين رأوا فيه الأصل الذي استعاره دانيال ديفو ليكتب واحدة من أشهر روايات الأدب الغربي "روبنسون كروزو".
ولكن ماذا لو كان النص العربي أعمق كثيرا من مجرد رواية اقتبسها الغرب عنا؟ ماذا لو كان نصا فلسفيا حقيقيا يصل بين زمن ابن طفيل الفكري أو عقلانية اليونان الإنساني.
وإذا كان عدد الذين قرأوا رواية دانيال ديفو "روبنسون كروزو" بشتى اللغات في العالم يزيد عشرات الأضعاف عن الذين قرأوا "حي بن يقظان" لابن طفيل، فإن جل الباحثين والمؤرخين يرون أن نص ابن طفيل، إنما هو الأصل المباشر ل «روبنسون كروزو".
إنها أسطورة عربية تروي قصة الطفل "حي" الفتى الذي ولد بلا أبوين ونشأ كنبتة برية قبل أن تتلقفه أمه الغزالة التي فجعت بوليدها فتربيه ثم تموت الغزالة بين يديه وهو يحاول إنقاذها.. ليبدأ بعدها التفكير منطلقا من حزنه على فقدان أمه الغزالة وينتقل بفطرته من سؤال إلى سؤال في تتحليل عقلي معقد، فالكون يمنحنا من الأسئلة أضعاف ما يمنحنا من الأجوبة، وابن طفيل لا يقف عند الأسئلة كثيرا، إنه يتجه مباشرة نحو الأجوبة الإيمانية حتى يصل للخالق عز وجل.. إنه يضع الفكرة أمام عينيك على درجة عالية من الوضوح والصراحة ثم يبني عليها أختها.. حتى يقيم صرحه الفلسفي وأنت لا تملك إما قبولها أو رفضها..
فتى الأسطورة هذا حي بن يقظان "والملاحظ أن ابن طفيل اختار لروايته اسما يدل على عمق معرفي لديه (حي بمعنى عائش أو على قيد الحياة يقظان بمعنى منتبه) ولهذا بعد فلسفي لديه حيث أتصور أنه ربط بين ضرورة أن يكون الإنسان مستيقظا متنبها قادرا على الكشف عن الحقيقة واكتساب المعارف في إشارة للحياة واليقظة العقلية والحسية والجسدية والأسطورة بالرموز ترمز للإنسان وعلاقته بالدين والكون.. إنها خلاصة الفلسفة والتصوف الإسلامي".
يبين ابن طفيل أن ما ألهمه لكتابة رواية "حي بن يقظان" سؤال أثاره أحد المهتمين بقضايا الخلق والنشوء والارتقاء الذي طلب منه وضع إجابة عن سؤال حول أصل المعرفة الإنسانية.. ويصف ابن طفيل الحالة الوجودية التي اعترته وهو يتأمل في هذا السؤال الكوني بقوله: "وانتهى بي هذا السؤال إلى مبلغ من الغربة بحيث لا يصفه إنسان ولا يقوم له بيان غير أن تلك الحال لما لها من البهجة والسرور واللذة والحبور، لا يستطيع من وصل إليها وانتهى إلى حد من حدودها أن يكتم أمرها أو يخفي سرها، بل يعتريه من الطرب والنشاط والمرح والانبساط ما يحمله على البوح بها مجملة دون تفصيل، وإن كان ممن لم تحذقه العلوم قال فيها بغير تحصيل".
‏خلاصة القول أن ابن طفيل، وهو المتكلم الكبير يريد أن يبلغ رسالة مفادها أن المسؤولية الدينية تقتضي اكتشاف النفس والعالم عبر التأمل والتفكير، وطرح الأسئلة الفلسفية الكبرى التي تتعلق بالمعقولات وبأصل الوجود، وصولا إلى اكتشاف العلاقة بين العلة والمعلول والفاعل والمفعول، بين الوجود وواجب الوجود، وأن الكون واحد في الحقيقة وأن هذه الوحدة ناجمة عن وحدانية الخالق ووحدة التكوين..
ف"حي" هذا الإنسان البدائي الذي تربى في جزيرة معزولة بعيدا عن البشر وتدرج في مراحل العمر المختلفة وبنمو عقله التدريجي.. يبدأ يدرك أنه مختلف تماما عن كل ما يحيط به.. ويبدأ في اكتشاف نقاط ضعفه وقوته واختلافه عن باقي الكائنات. فهو عار على خلاف الحيوانات حوله والتي يغطي جسدها الجلود والشعر والريش..، ما يدفعه لاتخاذ ملبس يواري سوءته، ثم يدرك مدى ضعفه البدني وأنه أقل سرعة من غيره، ثم يدرك أنه يتعلم فعل الأشياء خلاف غيره من الكائنات التي تولد وتدرك ما تفعل، وأدرك أنه يفكر وبهذا فهو يمتاز عن غيره..
فعند موت الغزالة التي ربته يبحث عن السبب لينتهي به المطاف أنه لا بد من وجود شيء خفي داخلها "الروح" وبخروجها فارقت الحياة..
وبمراقبته لكل ما حوله واستخدامه لعقله في تفسير كل شيء كان دائما ما يجد عائقا تنتهي إليه الأشياء فأدرك وجود مسبب لكل هذا وهو الذي يدير الكون كله.. فلجأ إلى عبادة الروح والتصوف حتى وصل إلى درجات التنوير عند الصوفية.
المذهب الذي توصل إليه ابن طفيل في كتابه "حي بن يقظان" هو المذهب العقلي، لأنه اعتقد أن في وسع الإنسان أن يرتقي بنفسه من المحسوس إلى المعقول، ويصل بقواه الطبيعية إلى معرفة الله. وهو في ذلك كله لا يعرف الكلام. فهناك فكر مستقل عن اللغة، واستعداد فطري يميز الناس بعضهم عن بعض، لأنه ليس في وسع كل رجل أن ينتهي إلى معرفة الخالق وحقيقة الكون عن طريق الفطرة والاكتساب الشخصي من غير حاجة إلى معلم..
لقد اوضح ابن طفيل في هذه الرواية المراتب التي يتدرج بها العقل في سلم المعرفة من المحسوسات إلى الجزئيات إلى الأفكار الكلية.. أن العقل الإنساني قادر من غير تعليم ولا إرشاد على إدراك وجود الله بآثاره في الأرض وفي مخلوقاته وإقامة الأدلة على ذلك.. وأن هذا العقل قد يعتريه العجز في مسالك الأدلة والعدم المطلق واللانهاية والزمان والقدم وهي المسائل التي حيرت الفلاسفة ووجدوا أنفسهم عاجزين أمامها..
فنحن نلمس بوضوح شيئا من الغرض الذي أراده ابن طفيل عندما شرع في التأليف حين يقول: "ما ظهر في زماننا من آراء مفسدة نبغت بها متفلسفة العصر، وصرحت بها حتى انتشرت في البلدان وعم ضررها، وخشينا على الضعفاء الذين اطرحوا تقليد الأنبياء صلوات الله عليهم وأرادوا تقليد السفهاء والأغبياء أن يظنوا أن تلك الآراء هي المظنون بها على غير أهلها ، فيزيد حبهم فيها وولعهم بها. فرأينا أن نلمح إليهم بطرف من سر الأسرار لنجتذبهم إلى جانب التحقيق، ثم نصدعهم عن ذلك الطريق".
هؤلاء هم من سعى ابن طفيل إلى المجاهدة في تقويمهم وإصلاح أمرهم، حينما اختار "حي بن يقظان" مغادرة الجزيرة وحياة العزلة ليعود مع رفيقة "أبسال" إلى الأرض المعمورة ومجتمع الناس، وهو ينظر إلى ما آلت إليه أحوالهم من الضلال، وقد ظهر إشفاقه عليهم ورغبته في الرفق بهم طمعا في هدايتهم إلى طريق الحق علهم يظفرون بالنجاة على يديه. فتصفح طبقاتهم، وتبين له أن كل حزب بما لديهم فرحون. وقد اتخذوا إلههم هواهم ومعبودهم شهواتهم وتهالكوا في جمع حطام الدنيا. ألهاهم التكاثر حتى زاروا المقابر. لا تنجح فيهم الموعظة ولا تعمل فيهم الكلمة الحسنة، ولا يزدادون بالجدل إلا إصرارا. وأما الحكمة فلا سبيل لهم إليها ولا حظَّ لهم منها. وقد غمرتهم الجهالة وران على قلوبهم ما كانوا يكسبون. {خَتَمَ اللَّهُ عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ وَعَلَىٰ سَمْعِهِمْ ۖ وَعَلَىٰ أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ ۖ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} (البقرة:7).
إنها رواية منطقية، فلسفية، يصل فيها "حي" إلى عدة استنتاجات بطريقة علمية مدهشة كان يسوقها ابن طفيل، أجوبة عبقرية لأسئلةِ عبقري..
وبعد.. لا أدري أي عبقرية تلك التي قادت هذا الرجل منذ ما يقارب 1000 عام ليكتب قصة بهذه الروعة، ليخلد بذلك واحدة من أعظم الآثار الفلسفية على مدار التاريخ البشري "حي بن يقظان"..
مما أعجبني وزاد من دهشتي بنفس الوقت طريقة التفكير البدائية التي مارسها والتي قادت "حي" لأهم الاستنتاجات مثل آلية الحركة التي استنتجها حي والتي تتضمن أن حركة الأشياء في الأصل حركة عمودية ما لم تجد عائقا فإن وجدت اتجهت بحركة أفقية..
"حي بن يقظان" لؤلؤة من أعذب لآلئ الثرات العربي. تثق في سلامة الفطرة وحرية الفكر أو الرأى والكلمة.. تستحق بجدارة أن يجهد المرء نفسه لتأمل فصولها، والاستمتاع بقراءتها.
حي بن يقظان تجربة فلسفية مدهشة!
*مدون فلسطيني.
لعل أهم ما يميز قصة "حي بن يقظان" التفرد في اعتماد الفكرة، والابتكار في البناء الفني، والبراعة في المعالجة، والفعالية في الإيحاء. لقد عرض ابن طفيل في هذه القصة سيرة المعرفة الإنسانية، عبر سيرة "حي بن يقظان"، وكيف تمكن بفطرته الفائقة من الارتقاء بالمعرفة من الحواس والتجربة إلى المعرفة العقلية القائمة على نتائج ومعطيات ما جربه وخبره في عالم الكون والفساد حتى خلص إلى الحكمة الشرقية
ليس هناك من القراء والدارسين العرب إلا ويعرف جيدا رواية ابن طفيل «حي بن يقظان».. إنها واحدة من الروايات التي تثير فخر المغالين في النزعة القومية، إذ كثيرا ما يذكرون أقوال باحثين رأوا فيه الأصل الذي استعاره دانيال ديفو ليكتب واحدة من أشهر روايات الأدب الغربي "روبنسون كروزو".
ولكن ماذا لو كان النص العربي أعمق كثيرا من مجرد رواية اقتبسها الغرب عنا؟ ماذا لو كان نصا فلسفيا حقيقيا يصل بين زمن ابن طفيل الفكري أو عقلانية اليونان الإنساني.
وإذا كان عدد الذين قرأوا رواية دانيال ديفو "روبنسون كروزو" بشتى اللغات في العالم يزيد عشرات الأضعاف عن الذين قرأوا "حي بن يقظان" لابن طفيل، فإن جل الباحثين والمؤرخين يرون أن نص ابن طفيل، إنما هو الأصل المباشر ل «روبنسون كروزو".
إنها أسطورة عربية تروي قصة الطفل "حي" الفتى الذي ولد بلا أبوين ونشأ كنبتة برية قبل أن تتلقفه أمه الغزالة التي فجعت بوليدها فتربيه ثم تموت الغزالة بين يديه وهو يحاول إنقاذها.. ليبدأ بعدها التفكير منطلقا من حزنه على فقدان أمه الغزالة وينتقل بفطرته من سؤال إلى سؤال في تتحليل عقلي معقد، فالكون يمنحنا من الأسئلة أضعاف ما يمنحنا من الأجوبة، وابن طفيل لا يقف عند الأسئلة كثيرا، إنه يتجه مباشرة نحو الأجوبة الإيمانية حتى يصل للخالق عز وجل.. إنه يضع الفكرة أمام عينيك على درجة عالية من الوضوح والصراحة ثم يبني عليها أختها.. حتى يقيم صرحه الفلسفي وأنت لا تملك إما قبولها أو رفضها..
فتى الأسطورة هذا حي بن يقظان "والملاحظ أن ابن طفيل اختار لروايته اسما يدل على عمق معرفي لديه (حي بمعنى عائش أو على قيد الحياة يقظان بمعنى منتبه) ولهذا بعد فلسفي لديه حيث أتصور أنه ربط بين ضرورة أن يكون الإنسان مستيقظا متنبها قادرا على الكشف عن الحقيقة واكتساب المعارف في إشارة للحياة واليقظة العقلية والحسية والجسدية والأسطورة بالرموز ترمز للإنسان وعلاقته بالدين والكون.. إنها خلاصة الفلسفة والتصوف الإسلامي".
يبين ابن طفيل أن ما ألهمه لكتابة رواية "حي بن يقظان" سؤال أثاره أحد المهتمين بقضايا الخلق والنشوء والارتقاء الذي طلب منه وضع إجابة عن سؤال حول أصل المعرفة الإنسانية.. ويصف ابن طفيل الحالة الوجودية التي اعترته وهو يتأمل في هذا السؤال الكوني بقوله: "وانتهى بي هذا السؤال إلى مبلغ من الغربة بحيث لا يصفه إنسان ولا يقوم له بيان غير أن تلك الحال لما لها من البهجة والسرور واللذة والحبور، لا يستطيع من وصل إليها وانتهى إلى حد من حدودها أن يكتم أمرها أو يخفي سرها، بل يعتريه من الطرب والنشاط والمرح والانبساط ما يحمله على البوح بها مجملة دون تفصيل، وإن كان ممن لم تحذقه العلوم قال فيها بغير تحصيل".
‏خلاصة القول أن ابن طفيل، وهو المتكلم الكبير يريد أن يبلغ رسالة مفادها أن المسؤولية الدينية تقتضي اكتشاف النفس والعالم عبر التأمل والتفكير، وطرح الأسئلة الفلسفية الكبرى التي تتعلق بالمعقولات وبأصل الوجود، وصولا إلى اكتشاف العلاقة بين العلة والمعلول والفاعل والمفعول، بين الوجود وواجب الوجود، وأن الكون واحد في الحقيقة وأن هذه الوحدة ناجمة عن وحدانية الخالق ووحدة التكوين..
ف"حي" هذا الإنسان البدائي الذي تربى في جزيرة معزولة بعيدا عن البشر وتدرج في مراحل العمر المختلفة وبنمو عقله التدريجي.. يبدأ يدرك أنه مختلف تماما عن كل ما يحيط به.. ويبدأ في اكتشاف نقاط ضعفه وقوته واختلافه عن باقي الكائنات. فهو عار على خلاف الحيوانات حوله والتي يغطي جسدها الجلود والشعر والريش..، ما يدفعه لاتخاذ ملبس يواري سوءته، ثم يدرك مدى ضعفه البدني وأنه أقل سرعة من غيره، ثم يدرك أنه يتعلم فعل الأشياء خلاف غيره من الكائنات التي تولد وتدرك ما تفعل، وأدرك أنه يفكر وبهذا فهو يمتاز عن غيره..
فعند موت الغزالة التي ربته يبحث عن السبب لينتهي به المطاف أنه لا بد من وجود شيء خفي داخلها "الروح" وبخروجها فارقت الحياة..
وبمراقبته لكل ما حوله واستخدامه لعقله في تفسير كل شيء كان دائما ما يجد عائقا تنتهي إليه الأشياء فأدرك وجود مسبب لكل هذا وهو الذي يدير الكون كله.. فلجأ إلى عبادة الروح والتصوف حتى وصل إلى درجات التنوير عند الصوفية.
المذهب الذي توصل إليه ابن طفيل في كتابه "حي بن يقظان" هو المذهب العقلي، لأنه اعتقد أن في وسع الإنسان أن يرتقي بنفسه من المحسوس إلى المعقول، ويصل بقواه الطبيعية إلى معرفة الله. وهو في ذلك كله لا يعرف الكلام. فهناك فكر مستقل عن اللغة، واستعداد فطري يميز الناس بعضهم عن بعض، لأنه ليس في وسع كل رجل أن ينتهي إلى معرفة الخالق وحقيقة الكون عن طريق الفطرة والاكتساب الشخصي من غير حاجة إلى معلم..
لقد اوضح ابن طفيل في هذه الرواية المراتب التي يتدرج بها العقل في سلم المعرفة من المحسوسات إلى الجزئيات إلى الأفكار الكلية.. أن العقل الإنساني قادر من غير تعليم ولا إرشاد على إدراك وجود الله بآثاره في الأرض وفي مخلوقاته وإقامة الأدلة على ذلك.. وأن هذا العقل قد يعتريه العجز في مسالك الأدلة والعدم المطلق واللانهاية والزمان والقدم وهي المسائل التي حيرت الفلاسفة ووجدوا أنفسهم عاجزين أمامها..
فنحن نلمس بوضوح شيئا من الغرض الذي أراده ابن طفيل عندما شرع في التأليف حين يقول: "ما ظهر في زماننا من آراء مفسدة نبغت بها متفلسفة العصر، وصرحت بها حتى انتشرت في البلدان وعم ضررها، وخشينا على الضعفاء الذين اطرحوا تقليد الأنبياء صلوات الله عليهم وأرادوا تقليد السفهاء والأغبياء أن يظنوا أن تلك الآراء هي المظنون بها على غير أهلها ، فيزيد حبهم فيها وولعهم بها. فرأينا أن نلمح إليهم بطرف من سر الأسرار لنجتذبهم إلى جانب التحقيق، ثم نصدعهم عن ذلك الطريق".
هؤلاء هم من سعى ابن طفيل إلى المجاهدة في تقويمهم وإصلاح أمرهم، حينما اختار "حي بن يقظان" مغادرة الجزيرة وحياة العزلة ليعود مع رفيقة "أبسال" إلى الأرض المعمورة ومجتمع الناس، وهو ينظر إلى ما آلت إليه أحوالهم من الضلال، وقد ظهر إشفاقه عليهم ورغبته في الرفق بهم طمعا في هدايتهم إلى طريق الحق علهم يظفرون بالنجاة على يديه. فتصفح طبقاتهم، وتبين له أن كل حزب بما لديهم فرحون. وقد اتخذوا إلههم هواهم ومعبودهم شهواتهم وتهالكوا في جمع حطام الدنيا. ألهاهم التكاثر حتى زاروا المقابر. لا تنجح فيهم الموعظة ولا تعمل فيهم الكلمة الحسنة، ولا يزدادون بالجدل إلا إصرارا. وأما الحكمة فلا سبيل لهم إليها ولا حظَّ لهم منها. وقد غمرتهم الجهالة وران على قلوبهم ما كانوا يكسبون. {خَتَمَ اللَّهُ عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ وَعَلَىٰ سَمْعِهِمْ ۖ وَعَلَىٰ أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ ۖ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} (البقرة:7).
إنها رواية منطقية، فلسفية، يصل فيها "حي" إلى عدة استنتاجات بطريقة علمية مدهشة كان يسوقها ابن طفيل، أجوبة عبقرية لأسئلةِ عبقري..
وبعد.. لا أدري أي عبقرية تلك التي قادت هذا الرجل منذ ما يقارب 1000 عام ليكتب قصة بهذه الروعة، ليخلد بذلك واحدة من أعظم الآثار الفلسفية على مدار التاريخ البشري "حي بن يقظان"..
مما أعجبني وزاد من دهشتي بنفس الوقت طريقة التفكير البدائية التي مارسها والتي قادت "حي" لأهم الاستنتاجات مثل آلية الحركة التي استنتجها حي والتي تتضمن أن حركة الأشياء في الأصل حركة عمودية ما لم تجد عائقا فإن وجدت اتجهت بحركة أفقية..
"حي بن يقظان" لؤلؤة من أعذب لآلئ الثرات العربي. تثق في سلامة الفطرة وحرية الفكر أو الرأى والكلمة.. تستحق بجدارة أن يجهد المرء نفسه لتأمل فصولها، والاستمتاع بقراءتها.
حي بن يقظان تجربة فلسفية مدهشة!
*مدون فلسطيني.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.