ورش عمل تدريبية للميسرات العاملات بمركزي استقبال أطفال العاملين بوزارتي التضامن والعدل    توقيع مذكرة تفاهم بين جامعتي الأزهر ومطروح للتعاون العلمي والأكاديمي    البابا تواضروس يترأس قداس تدشين كنيسة القديس مارمينا العجايبي بالإسكندرية    ارتفاع أسعار الفراخ اليوم السبت 23-8-2025 في الفيوم    الصين تؤسس 36 ألف شركة باستثمارات أجنبية خلال 7 أشهر    الري تبدأ استلام أراضي طرح النهر من هيئة التعمير    مدير مجمع الشفاء بغزة: لدينا 320 ألف طفل دخلوا في حالة سوء تغذية حاد    الاتحاد السعودي يعلن عقوبات صارمة على الهلال    إصابة 7 أشخاص في انقلاب ميكروباص بالفيوم    الأرصاد: سقوط أمطار على هذه المناطق اليوم    تجديد حبس عاطل وشقيقته بتهمة جلب 3000 قرص مخدر    الليلة عرض "just you"، ثالث حكايات "ما تراه ليس كما يبدو"    الجنين داخل الروبوت.. ولادة المستقبل أم سرقة الأمومة؟    تنويه هام.. انقطاع المياه عن قليوب لإصلاح خط طرد رئيسي    الأهلي يواصل استعداداته لمواجهة غزل المحلة ومروان عطية يتابع تأهيله    الزمالك يتظلم من قرار سحب أرض النادي ب 6 أكتوبر ويؤكد صحة موقفه    إسلام جابر: تجربة الزمالك الأفضل في مسيرتي.. ولست نادما على عدم الانتقال للأهلي    إطلاق مبادرة لتشغيل 50 من أوائل خريجي المدارس الصناعية فى أسيوط    اتفاق بين التعليم و"سبريكس" على تطبيق برنامج للبرمجة والذكاء الاصطناعي بالمدارس المصرية اليابانية    رابط و موعد إعلان نتيجة تنسيق القبول برياض الأطفال والصف الأول الابتدائي؟    ضبط 124 ألف مخالفة متنوعة في حملات لتحقيق الانضباط المروري خلال 24 ساعة    ضبط 4 أطنان من الدقيق الأبيض والبلدي المدعم في حملات تموينية خلال 24 ساعة    مصرع وإصابة أربعة أشخاص إثر حادث تصادم بين سيارتين بأسيوط    مصر ترحب بخارطة الطريق الأممية لتسوية الأزمة الليبية    شيرين عبد الوهاب: ياسر قنطوش لا يمثل أي شئ لي قانونيًا    تفاصيل وأسباب تفتيش منزل مستشار الأمن القومي الأمريكي الأسبق جون بولتون    إنفوجراف| أسعار الذهب اليوم السبت 23 أغسطس    «صحح مفاهيمك».. مبادرة دعوية خارج المساجد بمشاركة 15 وزارة    ثلاثة أفلام جديدة فى الطريق.. سلمى أبو ضيف تنتعش سينمائيا    ما أسباب استجابة الدعاء؟.. واعظة بالأزهر تجيب    اليوم.. اجتماع الجمعية العمومية العادية للإسماعيلي لمنافشة الميزانية والحساب الختامي    طلاب الثانوية الأزهرية الدور الثانى يؤدون اليوم امتحان التاريخ والفيزياء    استئناف مباريات الجولة الأولى بدوري المحترفين    الأوقاف: «صحح مفاهيمك» تتوسع إلى مراكز الشباب وقصور الثقافة    تحقيق استقصائى يكتبه حافظ الشاعر عن : بين "الحصة" والبطالة.. تخبط وزارة التعليم المصرية في ملف تعيين المعلمين    "يونيسيف" تطالب إسرائيل بالوفاء بالتزاماتها والسماح بدخول المساعدات بالكميات اللازمة لغزة    المستشار حامد شعبان سليم يكتب عن : إلى أين!?    طلقات تحذيرية على الحدود بين الكوريتين ترفع حدة التوتر    موعد مباراة النصر والأهلي والقنوات الناقلة بنهائي كأس السوبر السعودي    حملة «100 يوم صحة» تقدّم 59 مليون خدمة طبية مجانية خلال 38 يومًا    «الإفتاء» تستطلع هلال شهر ربيع الأول اليوم    حسن الخاتمة.. وفاة معتمر أقصري أثناء أدائه مناسك الحج    تعرف على مواقيت الصلاة اليوم السبت 23-8-2025 في محافظة قنا    استشهاد 19 فلسطينيا إثر قصف إسرائيل خيام النازحين بخان يونس ومخيم المغازي    الأمم المتحدة: نصف مليون شخص بغزة محاصرون فى مجاعة    وظائف هيئة المحطات النووية.. فرص عمل بالتعيين أو التعاقد    وزارة الصحة تقدم 3 نصائح هامة لشراء الألبان    تنسيق الجامعات 2025| مواعيد فتح موقع التنسيق لطلاب الشهادات المعادلة    سعر طن الحديد اليوم السبت 23-8-2025 في أسواق مواد البناء.. عز بكام النهارده؟    إنقاذ حياة مريض بعمل شق حنجري بمستشفى الجامعي بالمنوفية    شريف حافظ: الحب هو المعنى في حد ذاته ولا يقبل التفسير... والنجاح مسؤولية يجب أن أكون مستعدًا لها    نوال الزغبي: ضحيت بالفن من أجل حماية أولادي بعد الطلاق    من جلسات التدليك لمنتجعه الخاص، جيسلين ماكسويل تكشف تفاصيل مثيرة عن علاقتها بإبستين وترامب    سهير جودة عن شيرين عبدالوهاب وحسام حبيب: «انفصال وعودة مزمنة.. متى تعود إلينا؟»    ويجز يغنى الأيام من ألبومه الجديد.. والجمهور يغنى معه بحماس    مصدر ليلا كورة: كهربا وقع عقدا مع القادسية الكويتي    3 أبراج على موعد مع التفاؤل اليوم: عالم جديد يفتح الباب أمامهم ويتلقون أخبارا مشجعة    قدم لكلية الطب وسبقه القدر.. وفاة طالب أثناء تركيبه ميكروفون لمسجد في قنا    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



"حي بن يقظان" لابن طفيل.. الفلسفة في رداء الأدب
نشر في صوت البلد يوم 26 - 01 - 2016

لعل أهم ما يميز قصة "حي بن يقظان" التفرد في اعتماد الفكرة، والابتكار في البناء الفني، والبراعة في المعالجة، والفعالية في الإيحاء. لقد عرض ابن طفيل في هذه القصة سيرة المعرفة الإنسانية، عبر سيرة "حي بن يقظان"، وكيف تمكن بفطرته الفائقة من الارتقاء بالمعرفة من الحواس والتجربة إلى المعرفة العقلية القائمة على نتائج ومعطيات ما جربه وخبره في عالم الكون والفساد حتى خلص إلى الحكمة الشرقية
ليس هناك من القراء والدارسين العرب إلا ويعرف جيدا رواية ابن طفيل «حي بن يقظان».. إنها واحدة من الروايات التي تثير فخر المغالين في النزعة القومية، إذ كثيرا ما يذكرون أقوال باحثين رأوا فيه الأصل الذي استعاره دانيال ديفو ليكتب واحدة من أشهر روايات الأدب الغربي "روبنسون كروزو".
ولكن ماذا لو كان النص العربي أعمق كثيرا من مجرد رواية اقتبسها الغرب عنا؟ ماذا لو كان نصا فلسفيا حقيقيا يصل بين زمن ابن طفيل الفكري أو عقلانية اليونان الإنساني.
وإذا كان عدد الذين قرأوا رواية دانيال ديفو "روبنسون كروزو" بشتى اللغات في العالم يزيد عشرات الأضعاف عن الذين قرأوا "حي بن يقظان" لابن طفيل، فإن جل الباحثين والمؤرخين يرون أن نص ابن طفيل، إنما هو الأصل المباشر ل «روبنسون كروزو".
إنها أسطورة عربية تروي قصة الطفل "حي" الفتى الذي ولد بلا أبوين ونشأ كنبتة برية قبل أن تتلقفه أمه الغزالة التي فجعت بوليدها فتربيه ثم تموت الغزالة بين يديه وهو يحاول إنقاذها.. ليبدأ بعدها التفكير منطلقا من حزنه على فقدان أمه الغزالة وينتقل بفطرته من سؤال إلى سؤال في تتحليل عقلي معقد، فالكون يمنحنا من الأسئلة أضعاف ما يمنحنا من الأجوبة، وابن طفيل لا يقف عند الأسئلة كثيرا، إنه يتجه مباشرة نحو الأجوبة الإيمانية حتى يصل للخالق عز وجل.. إنه يضع الفكرة أمام عينيك على درجة عالية من الوضوح والصراحة ثم يبني عليها أختها.. حتى يقيم صرحه الفلسفي وأنت لا تملك إما قبولها أو رفضها..
فتى الأسطورة هذا حي بن يقظان "والملاحظ أن ابن طفيل اختار لروايته اسما يدل على عمق معرفي لديه (حي بمعنى عائش أو على قيد الحياة يقظان بمعنى منتبه) ولهذا بعد فلسفي لديه حيث أتصور أنه ربط بين ضرورة أن يكون الإنسان مستيقظا متنبها قادرا على الكشف عن الحقيقة واكتساب المعارف في إشارة للحياة واليقظة العقلية والحسية والجسدية والأسطورة بالرموز ترمز للإنسان وعلاقته بالدين والكون.. إنها خلاصة الفلسفة والتصوف الإسلامي".
يبين ابن طفيل أن ما ألهمه لكتابة رواية "حي بن يقظان" سؤال أثاره أحد المهتمين بقضايا الخلق والنشوء والارتقاء الذي طلب منه وضع إجابة عن سؤال حول أصل المعرفة الإنسانية.. ويصف ابن طفيل الحالة الوجودية التي اعترته وهو يتأمل في هذا السؤال الكوني بقوله: "وانتهى بي هذا السؤال إلى مبلغ من الغربة بحيث لا يصفه إنسان ولا يقوم له بيان غير أن تلك الحال لما لها من البهجة والسرور واللذة والحبور، لا يستطيع من وصل إليها وانتهى إلى حد من حدودها أن يكتم أمرها أو يخفي سرها، بل يعتريه من الطرب والنشاط والمرح والانبساط ما يحمله على البوح بها مجملة دون تفصيل، وإن كان ممن لم تحذقه العلوم قال فيها بغير تحصيل".
‏خلاصة القول أن ابن طفيل، وهو المتكلم الكبير يريد أن يبلغ رسالة مفادها أن المسؤولية الدينية تقتضي اكتشاف النفس والعالم عبر التأمل والتفكير، وطرح الأسئلة الفلسفية الكبرى التي تتعلق بالمعقولات وبأصل الوجود، وصولا إلى اكتشاف العلاقة بين العلة والمعلول والفاعل والمفعول، بين الوجود وواجب الوجود، وأن الكون واحد في الحقيقة وأن هذه الوحدة ناجمة عن وحدانية الخالق ووحدة التكوين..
ف"حي" هذا الإنسان البدائي الذي تربى في جزيرة معزولة بعيدا عن البشر وتدرج في مراحل العمر المختلفة وبنمو عقله التدريجي.. يبدأ يدرك أنه مختلف تماما عن كل ما يحيط به.. ويبدأ في اكتشاف نقاط ضعفه وقوته واختلافه عن باقي الكائنات. فهو عار على خلاف الحيوانات حوله والتي يغطي جسدها الجلود والشعر والريش..، ما يدفعه لاتخاذ ملبس يواري سوءته، ثم يدرك مدى ضعفه البدني وأنه أقل سرعة من غيره، ثم يدرك أنه يتعلم فعل الأشياء خلاف غيره من الكائنات التي تولد وتدرك ما تفعل، وأدرك أنه يفكر وبهذا فهو يمتاز عن غيره..
فعند موت الغزالة التي ربته يبحث عن السبب لينتهي به المطاف أنه لا بد من وجود شيء خفي داخلها "الروح" وبخروجها فارقت الحياة..
وبمراقبته لكل ما حوله واستخدامه لعقله في تفسير كل شيء كان دائما ما يجد عائقا تنتهي إليه الأشياء فأدرك وجود مسبب لكل هذا وهو الذي يدير الكون كله.. فلجأ إلى عبادة الروح والتصوف حتى وصل إلى درجات التنوير عند الصوفية.
المذهب الذي توصل إليه ابن طفيل في كتابه "حي بن يقظان" هو المذهب العقلي، لأنه اعتقد أن في وسع الإنسان أن يرتقي بنفسه من المحسوس إلى المعقول، ويصل بقواه الطبيعية إلى معرفة الله. وهو في ذلك كله لا يعرف الكلام. فهناك فكر مستقل عن اللغة، واستعداد فطري يميز الناس بعضهم عن بعض، لأنه ليس في وسع كل رجل أن ينتهي إلى معرفة الخالق وحقيقة الكون عن طريق الفطرة والاكتساب الشخصي من غير حاجة إلى معلم..
لقد اوضح ابن طفيل في هذه الرواية المراتب التي يتدرج بها العقل في سلم المعرفة من المحسوسات إلى الجزئيات إلى الأفكار الكلية.. أن العقل الإنساني قادر من غير تعليم ولا إرشاد على إدراك وجود الله بآثاره في الأرض وفي مخلوقاته وإقامة الأدلة على ذلك.. وأن هذا العقل قد يعتريه العجز في مسالك الأدلة والعدم المطلق واللانهاية والزمان والقدم وهي المسائل التي حيرت الفلاسفة ووجدوا أنفسهم عاجزين أمامها..
فنحن نلمس بوضوح شيئا من الغرض الذي أراده ابن طفيل عندما شرع في التأليف حين يقول: "ما ظهر في زماننا من آراء مفسدة نبغت بها متفلسفة العصر، وصرحت بها حتى انتشرت في البلدان وعم ضررها، وخشينا على الضعفاء الذين اطرحوا تقليد الأنبياء صلوات الله عليهم وأرادوا تقليد السفهاء والأغبياء أن يظنوا أن تلك الآراء هي المظنون بها على غير أهلها ، فيزيد حبهم فيها وولعهم بها. فرأينا أن نلمح إليهم بطرف من سر الأسرار لنجتذبهم إلى جانب التحقيق، ثم نصدعهم عن ذلك الطريق".
هؤلاء هم من سعى ابن طفيل إلى المجاهدة في تقويمهم وإصلاح أمرهم، حينما اختار "حي بن يقظان" مغادرة الجزيرة وحياة العزلة ليعود مع رفيقة "أبسال" إلى الأرض المعمورة ومجتمع الناس، وهو ينظر إلى ما آلت إليه أحوالهم من الضلال، وقد ظهر إشفاقه عليهم ورغبته في الرفق بهم طمعا في هدايتهم إلى طريق الحق علهم يظفرون بالنجاة على يديه. فتصفح طبقاتهم، وتبين له أن كل حزب بما لديهم فرحون. وقد اتخذوا إلههم هواهم ومعبودهم شهواتهم وتهالكوا في جمع حطام الدنيا. ألهاهم التكاثر حتى زاروا المقابر. لا تنجح فيهم الموعظة ولا تعمل فيهم الكلمة الحسنة، ولا يزدادون بالجدل إلا إصرارا. وأما الحكمة فلا سبيل لهم إليها ولا حظَّ لهم منها. وقد غمرتهم الجهالة وران على قلوبهم ما كانوا يكسبون. {خَتَمَ اللَّهُ عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ وَعَلَىٰ سَمْعِهِمْ ۖ وَعَلَىٰ أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ ۖ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} (البقرة:7).
إنها رواية منطقية، فلسفية، يصل فيها "حي" إلى عدة استنتاجات بطريقة علمية مدهشة كان يسوقها ابن طفيل، أجوبة عبقرية لأسئلةِ عبقري..
وبعد.. لا أدري أي عبقرية تلك التي قادت هذا الرجل منذ ما يقارب 1000 عام ليكتب قصة بهذه الروعة، ليخلد بذلك واحدة من أعظم الآثار الفلسفية على مدار التاريخ البشري "حي بن يقظان"..
مما أعجبني وزاد من دهشتي بنفس الوقت طريقة التفكير البدائية التي مارسها والتي قادت "حي" لأهم الاستنتاجات مثل آلية الحركة التي استنتجها حي والتي تتضمن أن حركة الأشياء في الأصل حركة عمودية ما لم تجد عائقا فإن وجدت اتجهت بحركة أفقية..
"حي بن يقظان" لؤلؤة من أعذب لآلئ الثرات العربي. تثق في سلامة الفطرة وحرية الفكر أو الرأى والكلمة.. تستحق بجدارة أن يجهد المرء نفسه لتأمل فصولها، والاستمتاع بقراءتها.
حي بن يقظان تجربة فلسفية مدهشة!
*مدون فلسطيني.
لعل أهم ما يميز قصة "حي بن يقظان" التفرد في اعتماد الفكرة، والابتكار في البناء الفني، والبراعة في المعالجة، والفعالية في الإيحاء. لقد عرض ابن طفيل في هذه القصة سيرة المعرفة الإنسانية، عبر سيرة "حي بن يقظان"، وكيف تمكن بفطرته الفائقة من الارتقاء بالمعرفة من الحواس والتجربة إلى المعرفة العقلية القائمة على نتائج ومعطيات ما جربه وخبره في عالم الكون والفساد حتى خلص إلى الحكمة الشرقية
ليس هناك من القراء والدارسين العرب إلا ويعرف جيدا رواية ابن طفيل «حي بن يقظان».. إنها واحدة من الروايات التي تثير فخر المغالين في النزعة القومية، إذ كثيرا ما يذكرون أقوال باحثين رأوا فيه الأصل الذي استعاره دانيال ديفو ليكتب واحدة من أشهر روايات الأدب الغربي "روبنسون كروزو".
ولكن ماذا لو كان النص العربي أعمق كثيرا من مجرد رواية اقتبسها الغرب عنا؟ ماذا لو كان نصا فلسفيا حقيقيا يصل بين زمن ابن طفيل الفكري أو عقلانية اليونان الإنساني.
وإذا كان عدد الذين قرأوا رواية دانيال ديفو "روبنسون كروزو" بشتى اللغات في العالم يزيد عشرات الأضعاف عن الذين قرأوا "حي بن يقظان" لابن طفيل، فإن جل الباحثين والمؤرخين يرون أن نص ابن طفيل، إنما هو الأصل المباشر ل «روبنسون كروزو".
إنها أسطورة عربية تروي قصة الطفل "حي" الفتى الذي ولد بلا أبوين ونشأ كنبتة برية قبل أن تتلقفه أمه الغزالة التي فجعت بوليدها فتربيه ثم تموت الغزالة بين يديه وهو يحاول إنقاذها.. ليبدأ بعدها التفكير منطلقا من حزنه على فقدان أمه الغزالة وينتقل بفطرته من سؤال إلى سؤال في تتحليل عقلي معقد، فالكون يمنحنا من الأسئلة أضعاف ما يمنحنا من الأجوبة، وابن طفيل لا يقف عند الأسئلة كثيرا، إنه يتجه مباشرة نحو الأجوبة الإيمانية حتى يصل للخالق عز وجل.. إنه يضع الفكرة أمام عينيك على درجة عالية من الوضوح والصراحة ثم يبني عليها أختها.. حتى يقيم صرحه الفلسفي وأنت لا تملك إما قبولها أو رفضها..
فتى الأسطورة هذا حي بن يقظان "والملاحظ أن ابن طفيل اختار لروايته اسما يدل على عمق معرفي لديه (حي بمعنى عائش أو على قيد الحياة يقظان بمعنى منتبه) ولهذا بعد فلسفي لديه حيث أتصور أنه ربط بين ضرورة أن يكون الإنسان مستيقظا متنبها قادرا على الكشف عن الحقيقة واكتساب المعارف في إشارة للحياة واليقظة العقلية والحسية والجسدية والأسطورة بالرموز ترمز للإنسان وعلاقته بالدين والكون.. إنها خلاصة الفلسفة والتصوف الإسلامي".
يبين ابن طفيل أن ما ألهمه لكتابة رواية "حي بن يقظان" سؤال أثاره أحد المهتمين بقضايا الخلق والنشوء والارتقاء الذي طلب منه وضع إجابة عن سؤال حول أصل المعرفة الإنسانية.. ويصف ابن طفيل الحالة الوجودية التي اعترته وهو يتأمل في هذا السؤال الكوني بقوله: "وانتهى بي هذا السؤال إلى مبلغ من الغربة بحيث لا يصفه إنسان ولا يقوم له بيان غير أن تلك الحال لما لها من البهجة والسرور واللذة والحبور، لا يستطيع من وصل إليها وانتهى إلى حد من حدودها أن يكتم أمرها أو يخفي سرها، بل يعتريه من الطرب والنشاط والمرح والانبساط ما يحمله على البوح بها مجملة دون تفصيل، وإن كان ممن لم تحذقه العلوم قال فيها بغير تحصيل".
‏خلاصة القول أن ابن طفيل، وهو المتكلم الكبير يريد أن يبلغ رسالة مفادها أن المسؤولية الدينية تقتضي اكتشاف النفس والعالم عبر التأمل والتفكير، وطرح الأسئلة الفلسفية الكبرى التي تتعلق بالمعقولات وبأصل الوجود، وصولا إلى اكتشاف العلاقة بين العلة والمعلول والفاعل والمفعول، بين الوجود وواجب الوجود، وأن الكون واحد في الحقيقة وأن هذه الوحدة ناجمة عن وحدانية الخالق ووحدة التكوين..
ف"حي" هذا الإنسان البدائي الذي تربى في جزيرة معزولة بعيدا عن البشر وتدرج في مراحل العمر المختلفة وبنمو عقله التدريجي.. يبدأ يدرك أنه مختلف تماما عن كل ما يحيط به.. ويبدأ في اكتشاف نقاط ضعفه وقوته واختلافه عن باقي الكائنات. فهو عار على خلاف الحيوانات حوله والتي يغطي جسدها الجلود والشعر والريش..، ما يدفعه لاتخاذ ملبس يواري سوءته، ثم يدرك مدى ضعفه البدني وأنه أقل سرعة من غيره، ثم يدرك أنه يتعلم فعل الأشياء خلاف غيره من الكائنات التي تولد وتدرك ما تفعل، وأدرك أنه يفكر وبهذا فهو يمتاز عن غيره..
فعند موت الغزالة التي ربته يبحث عن السبب لينتهي به المطاف أنه لا بد من وجود شيء خفي داخلها "الروح" وبخروجها فارقت الحياة..
وبمراقبته لكل ما حوله واستخدامه لعقله في تفسير كل شيء كان دائما ما يجد عائقا تنتهي إليه الأشياء فأدرك وجود مسبب لكل هذا وهو الذي يدير الكون كله.. فلجأ إلى عبادة الروح والتصوف حتى وصل إلى درجات التنوير عند الصوفية.
المذهب الذي توصل إليه ابن طفيل في كتابه "حي بن يقظان" هو المذهب العقلي، لأنه اعتقد أن في وسع الإنسان أن يرتقي بنفسه من المحسوس إلى المعقول، ويصل بقواه الطبيعية إلى معرفة الله. وهو في ذلك كله لا يعرف الكلام. فهناك فكر مستقل عن اللغة، واستعداد فطري يميز الناس بعضهم عن بعض، لأنه ليس في وسع كل رجل أن ينتهي إلى معرفة الخالق وحقيقة الكون عن طريق الفطرة والاكتساب الشخصي من غير حاجة إلى معلم..
لقد اوضح ابن طفيل في هذه الرواية المراتب التي يتدرج بها العقل في سلم المعرفة من المحسوسات إلى الجزئيات إلى الأفكار الكلية.. أن العقل الإنساني قادر من غير تعليم ولا إرشاد على إدراك وجود الله بآثاره في الأرض وفي مخلوقاته وإقامة الأدلة على ذلك.. وأن هذا العقل قد يعتريه العجز في مسالك الأدلة والعدم المطلق واللانهاية والزمان والقدم وهي المسائل التي حيرت الفلاسفة ووجدوا أنفسهم عاجزين أمامها..
فنحن نلمس بوضوح شيئا من الغرض الذي أراده ابن طفيل عندما شرع في التأليف حين يقول: "ما ظهر في زماننا من آراء مفسدة نبغت بها متفلسفة العصر، وصرحت بها حتى انتشرت في البلدان وعم ضررها، وخشينا على الضعفاء الذين اطرحوا تقليد الأنبياء صلوات الله عليهم وأرادوا تقليد السفهاء والأغبياء أن يظنوا أن تلك الآراء هي المظنون بها على غير أهلها ، فيزيد حبهم فيها وولعهم بها. فرأينا أن نلمح إليهم بطرف من سر الأسرار لنجتذبهم إلى جانب التحقيق، ثم نصدعهم عن ذلك الطريق".
هؤلاء هم من سعى ابن طفيل إلى المجاهدة في تقويمهم وإصلاح أمرهم، حينما اختار "حي بن يقظان" مغادرة الجزيرة وحياة العزلة ليعود مع رفيقة "أبسال" إلى الأرض المعمورة ومجتمع الناس، وهو ينظر إلى ما آلت إليه أحوالهم من الضلال، وقد ظهر إشفاقه عليهم ورغبته في الرفق بهم طمعا في هدايتهم إلى طريق الحق علهم يظفرون بالنجاة على يديه. فتصفح طبقاتهم، وتبين له أن كل حزب بما لديهم فرحون. وقد اتخذوا إلههم هواهم ومعبودهم شهواتهم وتهالكوا في جمع حطام الدنيا. ألهاهم التكاثر حتى زاروا المقابر. لا تنجح فيهم الموعظة ولا تعمل فيهم الكلمة الحسنة، ولا يزدادون بالجدل إلا إصرارا. وأما الحكمة فلا سبيل لهم إليها ولا حظَّ لهم منها. وقد غمرتهم الجهالة وران على قلوبهم ما كانوا يكسبون. {خَتَمَ اللَّهُ عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ وَعَلَىٰ سَمْعِهِمْ ۖ وَعَلَىٰ أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ ۖ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} (البقرة:7).
إنها رواية منطقية، فلسفية، يصل فيها "حي" إلى عدة استنتاجات بطريقة علمية مدهشة كان يسوقها ابن طفيل، أجوبة عبقرية لأسئلةِ عبقري..
وبعد.. لا أدري أي عبقرية تلك التي قادت هذا الرجل منذ ما يقارب 1000 عام ليكتب قصة بهذه الروعة، ليخلد بذلك واحدة من أعظم الآثار الفلسفية على مدار التاريخ البشري "حي بن يقظان"..
مما أعجبني وزاد من دهشتي بنفس الوقت طريقة التفكير البدائية التي مارسها والتي قادت "حي" لأهم الاستنتاجات مثل آلية الحركة التي استنتجها حي والتي تتضمن أن حركة الأشياء في الأصل حركة عمودية ما لم تجد عائقا فإن وجدت اتجهت بحركة أفقية..
"حي بن يقظان" لؤلؤة من أعذب لآلئ الثرات العربي. تثق في سلامة الفطرة وحرية الفكر أو الرأى والكلمة.. تستحق بجدارة أن يجهد المرء نفسه لتأمل فصولها، والاستمتاع بقراءتها.
حي بن يقظان تجربة فلسفية مدهشة!
*مدون فلسطيني.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.