بعد أن تناولت موضوع الزمن الجميل (انظر الأهرام، 14 أكتوبر) وأثرت فيه مأساة تشويه معالم القاهرة التاريخية وتدميرها، أعود اليوم إلى الأندلس (ولى فيه ذكريات عزيزة عن غرناطة وقرطبة وإشبيلية)، وإلى إحدى الروائع الأندلسية، وأعنى بذلك قصة حى بن يقظان كما رواها الفيلسوف الأندلسى ابن طفيل (1105-1185). وذلك أن هذه القصة تعود إلى إحدى الفترات الجميلة فى تاريخ الإسلام، وتتضمن دروسا وعبرا ما زالت مهمة عن حماية البيئة، أو لنقل رعاية الأرض. ابن الظبية الحكيم هى قصة فلسفية رمزية كتبت فى القرن الحادى عشر، ويحتفل الشراح بمصادرها التاريخية ومحتوياتها الفلسفية وجمالها الأدبى؛ وكل هذا مشروع وواجب، ولكنهم يغفلون ما فى القصة من أبعاد ودلالات أخلاقية عميقة تتجاوب مع هموم الإنسان المعاصر. يروى الفيلسوف فى كتابه عن حي بن يقظان قصة طفل رضيع ألقت به المقادير إلى جزيرة معزولة غير مأهولة، وهناك تبنته ظبية أرضعته وكفلت له الحماية والرعاية إلى أن استقل عنها. غير أن ابن الظبية هذا تمكن بفضل فطرته الفائقة من الارتقاء من مستوى الحيوان إلى أعلى مراتب العلم والإيمان والأخلاق. فقد توصل إلى تصور كامل للكون يشمل جميع الموجودات فى ترتيب صاعد من المستوى المادى الأدنى إلى أعلى وأكمل مستوى (الله)، واستخلص من هذا التصور ما ينبغى عليه عمله فى مجال الأخلاق والتعبد.
أصالة ابن طفيل
الغرض الواضح من هذه الخرافة كما يصرح به ابن طفيل هو شرح فلسفة ابن سينا. إلا أن هذا الشرح يرمى فى نهاية المطاف إلى الدفاع عن الفلسفة وعن الفلاسفة الذين اتهمهم الغزالى بالكفر. فقصة حي بن يقظان فى عزلته المطلقة تلك صورة رمزية لتوحد الفيلسوف الذى إن كان يعيش فى مجتمع ويتلقى تعليمه منه، فباستطاعته أن يعتزل الناس بفكره ويطرح عن نفسه كل ما تعلمه منهم ويتوصل بمحض عقله إلى الحقائق الأساسية للكون والإيمان والأخلاق دون تعارض مع ما جاء به النقل أو الشرع. ولما كان كتاب ابن طفيل يفترض مذهب ابن سينا المعتمد بدوره على الجمع بين أرسطو وأفلاطون وأفلوطين، فمن الممكن أن نقول إن الكتاب يخلو فى جانبه النظرى من الأصالة الفلسفية، وإنه لا فضل لكاتب هذا الجزء إلا طريقته الأدبية الطريفة فى عرض الموضوع. ولا مكان هنا للخوض فى ذلك الجانب؛ وقد تناولته على أى حال فى مقالة سبق نشرها (انظر «غربة الفلسفة وبراءة الفطرة فى قصة حى بن يقظان، الأهرام، 28 ديسمبر 2013). إلا أن ابن طفيل يبدى أصالته الفلسفية فى جوانب أخرى، من بينها بصفة خاصة آراؤه العملية أو الأخلاقية، وفى الجزء المتعلق برعاية البيئة على وجه التحديد. وهى آراء قد تمر على القارئ مر الكرام كما جرت العادة حتى الآن، لأنها ترتكز على الجانب النظرى ولأنها مبثوثة فى هذا السياق. وعلينا إذن أن نستخلصها ونسلط الضوء عليها. حقائق الأخلاق (ما ينبغى أن يكون) عند ابن طفيل ترتكز على الحقائق النظرية أى على ذلك التصور التراتبى الشامل للموجودات (ما هو كائن) من أدناها أو مستوى المادة إلى أعلاها، أى أسمى الموجودات أو الله. ومن السهل نسبيا أن نتقهم توصل حى بن يقظان إلى حقائق الوجود عن طريق النظر فى الموجودات وخصائصها كما تبدو فى الواقع. ولكن كيف اكتشف هذا الإنسان الحيوان الخير والشر وتعلم الأخلاق الفاضلة هو الذى لم ينشأ فى إطار أسرة أو مجتمع ولم يتلق تعليما من معلم أو أمرا من مشرع أو إرشادا من كتاب سماوى؟ ما الذى وجده فى كتاب الكون فهداه إلى العمل الفاضل؟ سؤال صعب يواجه ابن طفيل فى ظل شروط العزلة الكاملة التى تفرضها القصة، ولكنه يجد لنفسه مخرجا طريفا يستحق الإعجاب، ويدعونا نحن المعاصرين إلى التفكر والاعتبار. فمفتاح الحل هو ما يرويه ابن طفيل عن «تشبه» حي ابن يقظان بالكائنات على مستوياتها المختلفة من سلم الوجود.
التشبه بما هو أكمل
الإنسان فى رأى ابن طفيل يحتل منزلة وسطا بين النباتات والحيوانات من ناحية وبين الكائنات التى تعلوه من ناحية أخرى، وهى تشمل الأجسام السماوية التى يعتقد ابن طفيل مثله مثل أرسطو أنها كائنات حية وإن كانت تمتاز على الإنسان بعقول أرقى وأقرب إلى العقل الأسمى والأكمل (الله)، كما تشمل هذا العقل الأخير ذاته. ويحدث التشبه أو الاقتداء على مستويات متعددة بدءا بالمستوى الأول، مستوى النباتات والحيوانات، وهو لا يعنى عندئذ المحاكاة الغريزية العمياء، بل يعنى الاقتداء المدرك للحدود المناسبة التى يمليها التطلع إلى المستويات العليا. فحى (أو الإنسان) يتشبه بالنباتات والحيوانات بحكم الضرورة لأنه فى حاجة مثلها إلى الاغتذاء ودفع الأذى عن النفس والمحافظة على البقاء. ولكنه يدرك أن هذا التشبه يضعه فى دائرة الحس ويحول بينه وبين مراعاة المستويات العليا من الوجود، وأعلاها الكائن الأسمى. وهناك إذن قوتان متعارضتان تميل به إحداهما إلى إشباع رغباته وشهواته الحيوية بينما تشده الأخرى نحو المستويات الأعلى من الوجود. وهو يقيم من ثم توازنا بين القوتين، فلا يأخذ من منتجات النبات والحيوان إلا فى حدود الضرورة أو بقدر حاجته مع المحافظة فى الوقت نفسه على أنواع هذه الكائنات. وهذا الشرط الأخير تمليه قوة الجذب إلى أعلى، فلا يجوز للإنسان فيما يرى ابن طفيل أن يعترض على «فعل الفاعل». يريد بذلك أن يقول إن الإسراف فى استهلاك النباتات والحيوانات يؤدى إلى انقراضها ويعد من ثم اعتراضا على عمل صانعها أو خالقها. ولذلك كان حي شديد الحرص على الاقتصاد فى تلبية احتياجاته، فلا يأخذ من النباتات إلا بحسب توافر الأنواع ونضج الثمار؛ وهو فيما يقول ابن طفيل «يقصد أكثرها وجودا وأقواها توليدا وأن لا يستأصل أصولها ولا يفنى بذرها». وإذا لم يتوافر له من النبات ما يسد حاجته، أخذ من الحيوان أو من بيضه على أن يأخذ من أكثر الحيوانات وجودا ولا يستأصل منها نوعا بأسره. ونستطيع هنا أن نكشف عن افتراض يستند إليه ابن طفيل ضمنا، وهو افتراض يجيب عن السؤال الذى طرحناه عن مصدر معرفة الخير والشر. فالمصدر الأساسى هو الكون ذاته لأن الكائنات لا تتميز بخواص طبيعية فحسب، بل تتميز أيضا بدرجات متفاوتة من الفضل والكمال. ولئن كان حي قد حصل معارفه النظرية بدراسة الخواص الطبيعية للأشياء، فقد توصل إلى معرفة الخير والشر واكتساب الأخلاق الفاضلة عن طريق الاقتداء بها بحسب كمالاتها واقترابها من الكائن الأكمل والخير الأعظم (الله).
الرعاية الإيجابية
ولا يكتفى ابن طفيل بالحث على المحافظة على أنواع النباتات والحيوانات بطريقة سلبية، أى عن طريق الامتناع عن الإفراط فى استهلاك منتجاتها. بل يرى أيضا أن هذه المحافظة تقتضى العمل من أجلها على نحو إيجابى. وتتضح هذه الفكرة عندما نأتى إلى آرائه فى التشبه على المستوى الثانى من الموجودات، حيث يتشبه حي بالكائنات التى تعلو الإنسان مباشرة، أى الأجسام السماوية بما لها من عقول فائقة وما تحظى به من قرب من الله. فهنا يرى ابن طفيل أن لهذه الكائنات السماوية ثلاث فئات من الصفات تعين حي على الاقتداء بها جميعا سعيا إلى الكمال الخلقى. ومن الملاحظ أن تصنيف هذه الصفات يخضع لتجاذب القوتين سالفتى الذكر؛ فهناك إلى جانب الصفات المميزة لتلك الأجسام فى ذاتها (مثل كونها شفافة ونيرة وطاهرة ومنزهة عن الكدر) صفات تتصف بها بالإضافة إلى ما يعلوها مثل مشاهدة الكائن الأسمى مشاهدة دائمة؛ وصفات تتصف بها، بالإضافة إلى الكائنات الأدنى منها وهى ما تعطيه من تدفئة وتبريد وإضاءة. ومعنى ذلك أن من كمال الكائنات العليا أنها ترعى ما هو أدنى منها. وما يعنينا هنا هو تشبه حي بصفات الفئة الثالثة، فهو يلتزم بأداء أعمال معينة فى رعاية النباتات والحيوانات على غرار ما تقدمه الأجسام السماوية من منافع وخدمات للكائنات الأرضية. يقول ابن طفيل: «فكان تشبهه [أي تشبه حي بالفئة الثالثة من صفات الأجسام السماوية] أن لا يرى ذا حاجة أو عاهة أو مضرة أو ذا عائق من الحيوان والنبات وهو يقدر على إزالتها عنه إلا يزيلها. فمتى وقع بصره على نبات قد حجبه عن الشمس حاجب أو تعلق به نبات آخر يؤذيه أو عطش عطشا يكاد يفسده [إلا و] أزال عنه ذلك الحاجب إن كان مما يزال وفصل بينه وبين ذلك المؤذى بفاصل لا يضر المؤذى وتعهده بالسقى ما أمكنه. ومتى وقع بصره على حيوان قد أرهقه ضبع أو نشب به ناشب أو تعلق به شوك أو سقط فى عينيه أو أذنيه شيء يؤذيه أو مسه ظمأ أو جوع تكفل بإزالة ذلك كله عن جهده وأطعمه وأسقاه. ومتى وقع بصره على ماء يسيل إلى سقى نبات أو حيوان وقد عاقه عن ممره ذلك عائق من حجر سقط فيه أو جرف انهار عليه، أزال ذلك كله...»
الدروس المعاصرة
هذا قليل من كثير مما يقوله ابن طفيل فى هذا الصدد، وقد أوردته بالنص لأننى لا أجد أفضل أو أدق أو أرق من عباراته فى رعاية النباتات والحيوانات (حتى ما كان منها مؤذيا) والموارد الطبيعية (مثل المياه). ولعبارات ابن طفيل رنين معاصر لأنها تتجاوب مع همومنا البيئية، وتدين بالتالى مجتثى الأشجار، ومحرقى الغابات، والمعتدين على الأراضى الزراعية والأنهار، وملوثى المحيطات والأجواء، ومبيدى أنواع الحيوان للاتجار فى أعضائها؛ وتفضح كل من يتوهم أنه يؤدى الواجب نحو السماء دون أداء الواجب نحو الأرض. وصحيح أن اهتمامات ابن طفيل الأخلاقية كما عبر عنها فى قصته تقتصر على الكائنات الأدنى من الإنسان، وأن فكرة الواجب أو ما ينبغى أن يكون لا تمتد لديه إلى الإنسان نفسه. ولكن هذا الاقتصار أمر فرضته حدود القصة بما أنها تدور حول إنسان منفرد يعيش خارج نطاق المجتمع البشرى، وهو لا يمس المبدأ الأخلاقى الذى أرساه الفيلسوف، وهو ضروة الاقتداء بالأفضل والأقرب من المثل الأعلى. فهذا المبدأ يظل قائما وواجب التعميم بحيث يشمل جميع الكائنات، بما فى ذلك الغير من بنى الإنسان. وصحيح أيضا أن فكرة الاقتداء بالأجسام السماوية لم تعد مقبولة لأننا لا نؤمن اليوم بان لهذه الأجسام عقولا فائقة أو غير فائقة. ولكن هذا لا ينفى المبدأ المذكور. فالمهم فى جميع الحالات وأيا ما كان تصورنا للكون، هو الاقتداء بما هو أكمل منا، أيا ما كان. فالعمل فى مجالات القيم جميعا – أى الحق (البحث عن الحقيقة)، والخير (فعل الخير أو العمل الفاضل)، والجمال (الإبداع الفنى) - يفترض أن من الواجب التطلع إلى ما هو أحسن والسعى إلى مزيد من التحسن. ومن السهل أن نرى أن الدروس التى يقدمها ابن طفيل فى قصته الخرافية واجبة التعميم بحيث تشمل الريف والحضر، القرى والمدن. فليس من الممكن رعاية النباتات والحيوانات والموارد الطبيعية دون بسط هذه الرعاية حتى تحيط بما يبنيه الإنسان من عمران. وهى دروس تدين بطبيعتها أعمال التشويه والتدمير وكل ما يلحق الضرر بالكائنات. وإذا تذكرنا أن ابن طفيل فيلسوف مسلم، اتضح لنا على الفور أن التتار المعاصرين الذين يدمرون باسم الإسلام المساجد والكنائس وأضرحة الأولياء والقديسين والتماثيل الجميلة ليسوا من الإسلام فى شيء.