يروي ابن طفيل في كتاب' حي بن يقظان' قصة طفل رضيع ألقت به المقادير في جزيرة غير مسكونة تبنته فيها ظبية ورعته طيلة حياتها. والقصة إلي هذا الحد تشبه قصة الإنسان القرد( طرزان) أو الإنسان الذئب في بعض المأثورات الأوروبية. إلا أن ابن طفيل أضاف إلي القصة بعدا آخر عندما ادعي أن ابن الظبية ارتقي بفضل فطرته الفائقة سلم المعرفة حتي أحاط بالحقائق الأساسية للعلم والإيمان. أي أن حي أصبح فيلسوفا دينيا دون مساعدة من معلم أو مؤسسة اجتماعية أو رسالة نبوية, بل ودون لغة. ومن الواضح أن ابن طفيل كان يدرك أن تطور بطله علي هذا النحو أمر محال. ولكنه أراد أن يتخذ من تلك الخرافة المتوارثة أداة للتعبير بصورة رمزية عن آرائه الفلسفية. ولقد كان يكفيه أن يعرض آراءه بطرق عادية وبافتراضات ممكنة كأن يدعو كما دعا فيلسوف أندلسي آخر هو ابن باجه في كتابه' تدبير المتوحد' إلي أن يعتزل الفيلسوف مجتمع البشر بعقله دون أن يبرح مكانه فيه. وهذا بالضبط ما فعله ديكارت عندما داهمه الشتاء ذات يوم وقرر أن يصغي وهو مستقر في غرفته الدافئة إلي ما يقول عقله دون سواه. فلماذا قرر ابن طفيل أن يبني قصته علي افتراض مستحيل؟ ولماذا اختار لغة الرمز بدلا من التصريح؟ ولماذا لجأ إلي الإبهام والتعمية وهو الذي كتب القصة ردا علي صديق طلب إليه شرح الفلسفة الإشراقية عند ابن سينا؟ ولماذا اتخذ ابن طفيل قناعا من حي بن يقظان؟.. تلك أسئلة لم توف حقها من البحث, وهو ما يعني أن القصة لم تفهم ولم تلق حقها من التقدير. تقع القصة في عدة أجزاء سنكتفي منها هنا بجزء واحد يتعلق بحياة حي في جزيرته المعزولة قبل أن يلتقي بغيره من البشر, وسنقتصر في هذا الإطار المحدود علي الجانب النظري من المعارف التي توصل إليها( في مقابل الجانب العملي أو الأخلاقي). كما يضطرنا ضيق المقام إلي التركيز علي بعض معالم الشوط الذي قطعه البطل في تحصيل تلك المعارف. أول تلك المعالم هو انتقاله من المستوي الحيواني الغريزي إلي مستوي الإنسان بوصفه حيوانا عاقلا. يحدث ذلك عندما يبدأ المقارنة بين نفسه وبين سائر الحيوانات ويعي تميزه عنها وتفوقه عليها, ويتمكن عندئذ من استئناسها وترويضها وتسخيرها لأغراضه. ويبدو أن هذا الانتقال مر بسهولة إذا ما قورن بنقلة أخري عندما واجه ظاهرة الموت, موت أمه الظبية علي وجه التحديد. هنالك تصيبه الدهشة ويحاول أن يعرف لماذا صارت الظبية جثة هامدة, ولا يصل إلي الفهم الصحيح إلا بمشقة. فهو يشرح الجثة ويخيل إليه أن شيئا ما محله القلب قد فارق الجسد. ويسعفه في البداية تشبيه مستمد من اكتشافه للنار; فقد لاحظ أن النار تتميز بالخفة واللطف وتميل إلي الارتفاع نحو السماء. إذن فالشيء الذي فارق جسد الظبية الأم لا بد أن يكون من طبيعة الحرارة والنار. إلا أن هذا الحل لم يكن سوي خطوة أولي في سبيل الفهم الصحيح. وحي ابن يقظان لا يتوصل إلي هذا الفهم إلا عندما يهتدي إلي فكرة ترجع في الواقع إلي أرسطو, وهي أن الأشياء سواء أكانت طبيعية أو مصنوعة تتألف من مادة وصورة. فالمادة هي ما يتقبل التشكيل مثل الخشب إذ يستقبل الصورة التي يخلعها عليه النجار فيصبح سريرا, أو مثل الماء عندما يتحول إلي ثلج بسبب التبريد. والصورة هي ماهية الشيء أو طبيعته, فبفضلها يكون السرير سريرا وموضوعا ممكنا للمعرفة بوصفه سريرا, وبدونها يكون خشبا غفلا مجهول الهوية. وعلي هذا النحو توصل حي إلي أن ما حدث لأمه الظبية هو أن' صورتها' فارقتها وأن هذه الصورة ليست بنار وإن كانت في خفتها ولطفها, بل هي نفس أو روح من طبيعة غير مادية. ولهذا التفسير الأرسطي للموت أهمية حاسمة لأنه يفتح للبطل مغاليق كتاب الكون. فقد أصبح يدرك أن المادة ليست إلا المستوي الأدني من الوجود, وأن هناك موجودات تعلوها هي الصور والنفوس أو الأرواح; وأن هذه الموجودات الرفيعة تندرج في مراتب شتي بحسب ابتعادها عن المستوي المادي. فهناك نفس نباتية, وأخري حيوانية, وثالثة بشرية; وهناك في نطاق هذه النفس الأخيرة رتب أعلاها عقل الإنسان وقد تخلص من شوائب الحس والخيال; وهناك خارج هذا الإطار عقول عليا مستقرة في الأجرام السماوية أو مفارقة لها; وهناك أخيرا أسمي العقول وأكملها, وهو الله. كما أن فكرة الصورة التي يكتسب بها الشيء طبيعته المميزة تستدعي الحاجة إلي التفسير السببي. وتنشأ من ثم سلسلة من الأسباب والمسببات حتي نصل إلي سبب أول هو ذلك العقل الأسمي. وصورة الموجودات مرتبة علي هذا النحو الصاعد هي صورة الكون وفقا لأرسطو. إلا أننا نلاحظ أن هذه الصورة الأرسطية تختلط عند القمة بعناصر دخيلة. فابن طفيل يضيف إلي مفهوم الله بوصفه السبب الأول مفهوما مستمدا من أفلوطين حين يصف الله بأنه مصدر تفيض عنه صور الأشياء كما يفيض النور من الشمس. وهناك أيضا مفهوم ثالث حيث يوصف الله بأنه صانع حكيم يستدل علي حسن صنعته من تنظيم الأشياء وتسخيرها لخدمة الإنسان. وهو مفهوم إسلامي شائع يتردد في كثير من آيات القرآن الكريم; ويطلق عليه ابن رشد اسم' دليل العناية'. بل ولا يفوت ابن طفيل أن يضفي علي منظومته الكونية مسحة من التصوف من شأنها أن تسترضي الغزالي. فحي في المراحل العليا من مساره يتعرض لأحوال من المشاهدة والاندماج والفناء. ومؤدي ذلك كله أن فلسفة حي كما عرضها ابن طفيل تلفيقية. ومع ذلك فإن للقصة مزايا لا تنكر. فهي حافلة بالنظرات الثاقبة مثل الاهتمام بظهور الوعي بالذات كعلامة مميزة للإنسان; والتوقف عند ظاهرة الموت ودورها في التطور الروحي. أما الميزة الكبري فهي في رأيي أن القصة تأتي تكملة للمسعي الذي بدأه ابن باجه في' تدبير المتوحد'. وذلك أن المتوحد في قصة ابن طفيل لا يتوقف عند حدود الطبيعة, بل يتجاوزه إلي المستوي الميتافيزيقي( ما وراء الطبيعة) فيتطرق إلي عالم الروح, والحياة الآخرة, والسعادة( الثواب) والشقاء( العقاب), والقرب من الله. وعلي ضوء هذا الشوط المكتمل, يتضح الغرض الأساسي من القصة. فهو الدفاع عن الفلسفة ضد الغزالي الذي كفر الفلاسفة. أما لماذا اختار ابن طفيل لغة الرمز, فلأنه لم يجرؤ علي التصدي صراحة' لحجة الإسلام'. ويمكننا إذن أن نخطو خطوة أولي في تقدير ابن طفيل فنقول إنه مهد الطريق لابن رشد. فهذا الأخير هو المقاتل الذي واتته الجرأة علي منازلة الغزالي صراحة وبلغة المنطق والبرهان, وأن يزيل ما حدث في الفلسفة الإسلامية من خلط وتلفيق. وهي جرأة تسلحت بكفاءات لا نظير لها لأن المقاتل كان فقيها وقاضيا وطبيبا وفيلسوفا فضلا عن كونه الشارح الأكبر لأرسطو. ولكننا نعرف ما حدث لابن رشد. فقد أحرق خصوم الفلسفة كتبه. وهو ما يعيدنا إلي قصة حي بن يقظان. فيها كما قلت جزء أرجو أن أتناوله في مناسبة أخري, وهو يتعلق بانتقال حي من جزيرته إلي جزيرة أخري آهلة بالسكان. وهناك يلتقي الحكيم المتوحد بفئات مختلفة من المؤمنين الذين وصلتهم الرسالات النبوية. ولكنه لا يلقي عندئذ إلا المعارضة وسوء الفهم من عامة الجمهور وزعمائهم, فيقرر العودة إلي جزيرته ليتعبد فيها علي طريقته. ونحن لابد أن نعجب ونصدم عندما نقرأ القصة بأكملها ونستوعب دروسها المرة. نعجب ونصدم لأن ابن طفيل يبدو الآن وكأنه بالإضافة إلي تمهيده لابن رشد كان يبشر بمجيئه ويتنبأ بمصيره. ولست أبالغ إذا قلت إذن إن قصة حي بن يقظان هي أعظم تعبير عن غربة الفلسفة; وغربة الفلسفة موضوع قديم ولكنه متجدد أبدا. لمزيد من مقالات د.عبدالرشيد محمودى